عصمت داوستاشي يتخطى الثمانين بإشراقات تشكيلية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عصمت داوستاشي يتخطى الثمانين بإشراقات تشكيلية

    عصمت داوستاشي يتخطى الثمانين بإشراقات تشكيلية



    شريف الشافعي

    "الضعف في أعماقي يضحك. هل يعرف أحدكم هذا الرجل؟ إنه يعيش دوامة الندم. إنه يعرف الحقيقة!". عبارات دالّة، معبّرة، مستقاة من منابع الحكمة والحنكة، تختصر الكثير من المعاني، وتعكس آليات نبذ الزيف والفراغ، وبلوغ اللبّ، واقناص الجوهر، والتصالح مع الذات. وقد أثبتها التشكيلي المصري المخضرم عصمت داوستاشي إلى جوار أحد وجوهه الخاصة المميزة، في لوحة له ضمن مجموعة أعمالٍ جديدة في معرض "العائلة الفنية"، الذي أقيم احتفاءً بتجربة داوستاشي بمناسبة بلوغه الثمانين من عمره (غاليري "آرت كورنر"، القاهرة).



    وتشقّ هذه اللوحة طريقها إلى الوجدان الجمعي والذاكرة الحيّة في مصر المحروسة، إذ تحمل عصارة الخبرات العميقة وبصمة الفنان المميزة، المنغمسة في البيئة المحلية والموروث الشعبي والديني. تمتلئ اللوحة برموز الفنان وحكاياته وكائناته وأيقوناته الملحمية والفولكلورية، وفي مقدمتها المرأة المحلّقة بجناحيها الأسطوريين وردائها الأبيض.



    وفي مجمله، يكثّف المعرض الضوء على نخبة من إبداعات داوستاشي، الذي تعود جذوره إلى جزيرة كريت اليونانية، حيث تنفتح جغرافيا قاعة العرض المحددة على تاريخ الفنان وفضاءاته الرحبة اللانهائية، وأخيلته الممتدة عبر أكثر من نصف قرن بين التصوير والرسم والفنون البصرية المتنوعة، كواحد من المطوّرين الجادّين للمدرسة التشكيلية المصرية الحديثة.



    وإلى جانب مجموعة عصمت داوستاشي، التي تشكّل المحور الأساسي في معرض "العائلة الفنية"، فإن المعرض لا يغفل إتاحة بعض الأعمال الأخرى لأفراد عائلة داوستاشي، إذ يضم عدداً من منحوتات زوجته التشكيلية فاطمة مدكور، وبعض لوحات ابنه عبد الله "آتون" التجريبية القائمة على اللقطات الفوتوغرافية في إطار التركيب والكولاج.



    ويمثّل غاليري "آرت كورنر" بحي الزمالك في القاهرة موعداً دوريّاً منتظماً لأعمال عصمت داوستاشي خلال السنوات الأخيرة، تزامناً مع فصل الربيع، وذكرى ميلاد الفنان السكندريّ البارز، الذي يراهن دائماً على رسائل الربيع الإشراقية المتعددة، المشحونة بالتفاؤل والخصوبة والتفتّح والنماء والتجدد، والمقرونة بالقدرة على إيجاد بدايات وبدائل مغايرة للوضعيات والحالات المستغلقة التي قد تبدو ظاهريّاً متجمّدة أو قاتمة أو بائسة.





    ملاحم لونية

    في ملاحمه اللونية والضوئية الصاخبة، خصوصاً تلك المصوغة بألوان الزيت والأكريليك، ينسج داوستاشي بانورما التحدي والرفض والمقاومة والانطلاق والتمرّد على الثوابت الحاكمة والقوانين المقيّدة، مستعيراً القصص الخارقة والبطولات الفذة وسير الفاتحين والمنتصرين، المكتوبة والشفاهية.



    الأحلام عنده ليست مستحيلات مؤجلة، وإنما هي آمال يمكن بلوغها بطموح طفولي بريء، وبعزيمة فارس فوق صهوة حصان مدرّب على كسب الرهانات وقطع المسافات والتهام الحواجز والحدود وتمزيق الحبال التي تلتف على أقدامه.



    وفي هذه العوالم الدينامية المتفجرة بالحركة والوهج، التي تذوب فيها الفواصل بين الواقع والخيال، والحقيقة والأسطورة، والجد والمرح، تتلاشى كذلك المسافة بين البشر والخيول الجامحة والطيور المجنّحة عالياً خلف الآفاق.



    فهذه المعارك الاحتفالية التي تملأ الوجود في كل مكان، إنما غايتها التحرر الكامل من الأطر، واستخراج المعدن الإنساني النفيس من أعماق الطينة الآدمية، ومن جوّانيات الطبيعة القاسية.



    ولا يحفل الفنان عصمت داوستاشي بالخطر المحدق من حوله، والألغام المزروعة، وخرائط الكوارث والنفايات والهزائم والإحباطات المسيطرة على الكوكب، ذلك أنه يغرس بذوره الواعدة في منطقة مجهولة بين الوعي واللاوعي، لتنتج ثماراً وأشجاراً وحقولاً وكوناً موازياً كليّاً يصلح للإقامة الدائمة، المستقرة والمطمئنة والهانئة.



    إنها الأصابع الفنية المنفلتة، التي تبقى وحدها قادرة على تشكيل كل فكرة وأمنية. وإنها شخصياته وكائناته العجائبية، النابعة من الموروث المحلي المصري، والعربي، والعالمي، التي تسرد وحدها آليات التفاعل مع المآزق والعثرات اليومية المربكة التي تعتري الإنسان في طريقه بمخالبها المسنونة.



    ولا سبيل لاستكمال الحياة سوى باستئصال هذه العقبات من جذورها، ووقف شرورها وسمومها ومتاهاتها الملتوية، واجتثاث قرونها الشيطانية، وهذا ما يفصّله داوستاشي في منظومة لوحاته المفعمة بالبطولة والفروسية. وفي خلفية كل مشهد حكائي وتعبيري مصور، هناك دائماً بهجة شادية ومزمجرة، تطلق البشارة، وتزف الانتصار القريب، وتهب الغد المنشود للأجيال المتحمسة الصاعدة.





    هندسات بصرية

    ومثلما يقدّم الفنان عصمت داوستاشي في أعماله الزاخمة المركّبة معالجات بالغة الخصوصية لمستخلصات موتيفات الحضارات الفرعونية القديمة، واليونانية، والرومانية، والإسلامية، وغيرها، وأدبيّات السرديات والملاحم الكبرى والأساطير والسير الشعبية، المصرية والعربية والعالمية، فإنه يطرح منجزه الذاتي في ما يتعلق باستلهام الزخارف والأشكال والهندسات البصرية، خصوصاً تلك المعروفة في الفن الإسلامي بخطوطه ومثلثاته ودوائره ومنمنماته وتصاويره المنضبطة.



    وتتسم أعمال داوستاشي بمرونة بالغة في تصميماتها، نابعة من حرصه على تجريد ملامح البشر والكائنات والأشياء، والتخفف من حدة الشكل المكتمل، والرغبة في كسر القوالب المدرسية في القياسات والحسابات المتوقعة.





    وهو يهدف عادة إلى تحقيق الدهشة والمباغتة، وإدراك السيولة على كل المستويات في أعماله ذات الطبيعة الحركية، التي لا تقف عند حدود السطح، وإنما تستهدف التشريح الورائي والتحليل النفسي وتستبطن الانفعالات والمشاعر الداخلية المتقدة والضمير اليقظ في قلب الخلايا الحية.



    وتكمن شاعرية لوحات داوستاشي في ذلك النزوع التجريدي الشفيف، والغلالات الدينية التصوفية، والتدفقات النورانية، والميل إلى تعرية الأمور والعلاقات والمشاهد وتفكيك تفاصيلها، وسبر أغوار اللحظات المعيشة بكل ما تحتويه من آلام وآمال، ورغبات معلنة ومكبوتة، والانتصار للجمال في مواجهة القبح، والاخضرار في مواجهة الخرائب التي استعمرت الأمكنة والأزمنة. ولا يهرب الفنان من رصد السلبيات والأخطاء والتشوهات.



    وهو يثبتها، ربما على هيئة أفاعٍ وضباعٍ ووحوش وشياطين، لكي يعترف بوجودها، مبرزاً سيناريوهات الخلاص وسبله المتنوعة في قصائده المرئية، التي تفتح نوافذ للمخاض التطهري والميلاد الجديد.



    انهزام الموت

    وتنسحب الروح التفاؤلية لدى الفنان عصمت داوستاشي على كل العناصر والمفردات والكائنات والعلاقات من حوله، فالنهاية أمر مرفوض على طول الخط. والموت ذاته في لوحات الفنان لا يعني النهاية، وإنما هو لحظة عادية يمكن التصالح معها، وهو محطة في رحلة دائرية، فمن بعده يأتي البعث، وتأتي الحياة المتجددة، وينفسح المجال للخلود، أحد الغايات الكبرى في الأديان السماوية، ولدى الحضارة المصرية القديمة.



    وتتسق تلك الرؤية مع خلخلة داوستاشي في ملاحمه اللونية لمفهوم الزمن، فالزمن لديه لا يمضي وفق الترتيب المنطقي المألوف، وكذلك مراحل عمر الإنسان. فالطفولة مثلاً ليس لها أوان محدد، فهي معنى غض يمكن حصاده ناضجاً فيّاضاً بعد ذبول الشيخوخة، إذا توفرت الإرادة والطاقة والمغامرة، وما أوفرها في نبضات الفنان!


يعمل...
X