الموسيقار العراقي: نصير شما..كتبها:صبري يوسف أديب وتشكيلي سوري.

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الموسيقار العراقي: نصير شما..كتبها:صبري يوسف أديب وتشكيلي سوري.

    اضغط على الصورة لعرض أكبر. 

الإسم:	FB_IMG_1677743451243.jpg 
مشاهدات:	6 
الحجم:	167.5 كيلوبايت 
الهوية:	75868

    الموسيقار العراقي نصير شمّة موسيقي ساحر في تجلّياتِ عزفِهِ، كأنَّ أنغامَهُ منبعثةٌ من حنايا الرّوحِ ومن مهجةِ الأعالي.
    صبري يوسف - ستوكهولم،
    نصير شمّة كائنٌ من طراوةِ المطرِ، انبعثَ من شهقةِ نيزكٍ في ليلةٍ قمراءَ فوقَ ربوعِ الكوتِ، مدينةِ الألحانِ الّتي أوصلَها هذا المتهاطلُ علينا من رحابِ الأعالي إلى أبهى أصقاعِ الدُّنيا. طاقةُ وئامٍ مجنّحةٌ نحوَ أحلامِ الطُّفولةِ، ترعرعَ في بغدادَ عاصمةِ العراقةِ والإبداعِ الجامحِ نحوَ فضاءِ التَّفرُّدِ والخصوبةِ والإبداعِ الرَّصينِ. توغَّلَ عميقاً في دراسةِ الأنغامِ بكلِّ انبعاثاتِها منذُ بدايةِ العبورِ في كنوزِ الموسيقى، إلى أن غدَتِ النَّغمةُ شهيقَهُ الأنقى في الحياةِ، وبدأ رحلتَهُ بإيقاعٍ رُهبانيٍّ على مناغاةِ أوتارِ العودِ، متوغِّلاً برهافةٍ مسربلةٍ بهفهفاتِ النّسيمِ في فضاءِ تجلِّيَّاتِ الألحانِ والأنغامِ على رحابةِ العصورِ، وصاغ منها أنغاماً متماهيةً معَ تغاريدِ الطُّيورِ ودندناتِ الطَّبيعةِ بكلِّ إيقاعاتِها الأنيسةِ، ورفرفَ جناحاهُ باكراً وهو ما يزالُ في مرابعِ الطُّفولةِ والصِّبا، مُدندِناً أنغامَهُ في قاعةِ الأورفلِّي في بغدادَ وهي في ذروةِ شموخِها الفنِّيِّ، ثمَّ حلَّقَ بأجنحةِ نسرٍ في غايةِ الجموحِ، موجِّهاً أنظارَهُ نحوَ سماءِ باريسَ، كي يغرِّدَ هناكَ أعذبَ التَّغاريدِ، وعزفَ فوقَ أرقى مسارحِ النُّورِ، كمَن يرقصُ فرحاً وشوقاً إلى أبهى خمائلِ الحياةِ، كأنّهُ في حالةِ انتعاشٍ وفي أوجِ الابتهالِ، ناثراً حبُورَ الفرحِ فوقَ وجوهِ مستمعيهِ. حلَّقَ عالياً في فضاءِ موسيقاهُ، وتماهَتْ في انبعاثِها نحوَ روعةِ التّغريدِ، منطَلِقاً من سماءِ بغدادَ ودفءِ الشَّرقِ وقيثارةِ الفنِّ بكلِّ آفاقِها إلى ربوعِ باريسَ، متربِّعاً فوقَ مسارحِها الشّامخةِ شموخَ الإبداعِ، فأرهفَ الفرنسيُّ إلى تجلِّياتِ بوحِهِ المصفّى بأسرارِ الأنغامِ المنسابةِ من كنوزِ بلادِ الرَّافدين. أنصتَ الفرنسيُّ مشدوهاً لما يسمعُهُ من موسيقى متعانقةٍ معَ مهجةِ الرّوحِ. وفتحَتْ مسارحُ الغربِ ستائرَها لأرقى الحفلاتِ الّتي قدَّمَها معَ الفنّانِ الخلَّاقِ منير بشير، ملكِ العودِ في العالمِ، ثمَّ تتالتْ عطاءاتُهُ في ربوعِ جنيف وأثينا، وراحَ يجوبُ أرقى مدائنِ وعواصمِ العالمِ، يقدِّمُ تجلِّياتِ الأنغامِ على أوتارِ عودٍ مُخَضَّلٍ بالابتهالِ.
    الفنَّانُ نصير شمّة موسيقارٌ رهيفٌ إلى حدِّ تماهي أنغامِهِ معَ هبوبِ النَّسيمِ، أُغرِمَ منذُ بداياتِهِ بجموحاتِ البوحِ الصٌّوفي، وراحَ يغوصُ في هذهِ العوالمِ الشَّفيفةِ بشغفٍ موصولٍ، متعمِّقاً في كتاباتِ ابن عربي، وأُعجِبَ بتماسُكِ فلسفتِهِ وخصوبةِ شاعريَّتِهِ الصّوفيّةِ الّتي امتدَّتْ على فضاءِ مساحاتٍ رحبةٍ امتدادَ البحارِ الزّاخرةِ بأزهى أنواعِ العطاءِ، وتعمَّقَ في كتاباتِ ابنِ الفارضِ المعروفِ في تأمُّلِهِ وزهدِهِ وعزلتِهِ الّتي غدَتْ منبعاً تفيضُ بانبلاجِ أصفى الأشعارِ، وغاصَ بكلِّ شغفٍ في أعماقِ الذّاتِ، وانبعثَتْ أشعارُهُ في أصفى حالاتِ الوجْدِ في عشقِ الإلهِ، وتأمَّلَ شمَّة برهافةٍ عميقةٍ في فضاءاتِ السّهروردي الزَّاهدِ والقدوةِ في التّحديثاتِ الصُّوفيّة، وازدادَ شغفاً برؤى رابعة العدويّة، الطّافحة بعشقِ المحبّةِ الإلهيّةِ، وراحَ يتوغَّلُ في رحابِ أشعارِها المعرِّشةِ بحبِّ الإلهِ حبَّاً يُغنيها عن أيِّ حبٍّ آخرَ، وكم أدهشَهُ الحلّاجُ في آفاقِ رؤاهُ وتجلِّياتِهِ العرفانيّةِ الصُّوفيّةِ الشّاهقةِ، فجاءَتْ موسيقاهُ معبَّقةً ببخورِ الصّفاءِ الرّوحي، واستوحى من حياةِ الحلّاج ِألبوماً عنونه: "قبلَ أن أُصْلَب"، فجاءَتْ موسيقاهُ محتبكةً بتجلِّياتٍ روحانيَّةٍ شاهقةٍ نحوَ حبورِ السَّماءِ، لتماهي هذهِ التَّجلِّياتِ معَ انبعاثاتِ الشِّعرِ والفكرِ والآفاقِ الخلّاقةِ.
    اشتغلَ هذا الفنّانُ الآتي من لبِّ الحضارةِ العراقيّةِ التّليدةِ، المبرعمُ من وهادِ سومرَ وأكّادَ وبابلَ، أستاذاً لآلةِ العودِ في المعهدِ العالي للموسيقى في الجامعةِ التُّونسيّةِ بكلِّ ما يكتنزُ من ذخائرَ موسيقيّةٍ عريقةٍ. علَّمَ وقدَّمَ أجملَ ما عندَهُ من فضاءاتٍ موسيقيّةٍ لطلّابِهِ وطالباته. العودُ حلمُهُ الأبديُّ الممتدُّ على آمادِ السُّؤالِ، صديقُهُ الأنقى في الإخلاصِ وصديقتُهُ المبرعمةُ في جيناتِ الرّوحِ، وحبيبتُهُ الأشهى على وجهِ الدُّنيا، وابنته "ليل" هي لحنُهُ السَّرمديُّ المرفرفُ فوقَ قبَّةِ الحياةِ، "ليل" هي وجنةُ الرّوحِ السَّاطعةِ في دنيا شمّة، وأمُّها "لينا الطِّيبي"، هي صديقةُ القصيدةِ، هي شهيقُ شمّة الصّافي في الحياةِ، حبيبةُ شمّة منذُ الأزلِ، شاعرةٌ متربِّعةٌ كأميرةِ الأميراتِ على آفاقِ نصير، هي موسيقاهُ المنبثقةُ من ضياءِ الصَّباحِ، هي ضياءُ فرحٍ معشَّقٍ بوهجِ الشَّفقِ. هذا الثُّنائي يُشبِهُ القصيدةَ المفتوحةَ على جنانِ الأرضِ، وأشهى تجلِّياتِ الأنغامِ. نصير شمّة موجةُ عشقٍ مجنّحةٌ نحوَ خمائلِ الفرحِ. يبلِّلُ خدودَ "ليل" بإشراقةِ الرّوحِ، فتنتعشُ "لينا" وهي في أوجِ ابتهالِها في بوحِ القصائدِ على أنغامِ دندناتِ شمّة. كم تغدو الحياةُ جميلةً عندما تتعانقُ أجنحةُ الحبِّ على إيقاعِ حلمٍ يزدادُ تهاطلاً فوقَ أزاهيرِ الطُّفولةِ، وينمو على مساحاتِ العمرِ على أنغامِ الفرحِ.
    عندما أستمعُ إلى موسيقى نصير شمّة، أحلِّقُ عالياً، وكأنِّي أسمعُ تغاريدَ البلابلِ عندَ شواطئِ البحارِ الدَّافئةِ، وشلّالاتِ الحنينِ تنسابُ من أعالي الصّخورِ، فتضفي على بهاءِ الألحانِ والتّغاريدِ روعةً وابتهالاً. الموسيقى أمُّ اللُّغاتِ، وهي لغةُ الكونِ الكبرى، لغةٌ منبعثةٌ من شهوةِ السَّماءِ، ومن أسرارِ الأرضِ، ومن هسيسِ الكائناتِ وهبوبِ نسيمِ اللّيلِ والصَّباحِ. الموسيقى صديقةُ الرّوحِ منذُ الأزلِ، قصيدةُ عشقٍ مضمّخةٌ باخضرارِ الكونِ، طموحٌ مفتوحٌ على بوَّاباتِ النَّعيمِ. الموسيقى عشقٌ محتبكٌ في شهيقِ نصير شمّة، الموسيقى طُموحُهُ وعمرُهُ الأسمى في الحياةِ، وهذا الطُّموحُ قادَهُ إلى تأسيسِ بيتِ العودِ العربي في مصرَ أمِّ الفنِّ والموسيقى والإبداعِ، قبلةِ العطاءِ والفكرِ. أعطى هذا الفنّانُ المنبعثُ من أريجِ الحضاراتِ، للفنِّ رحيقَ أعصابِهِ وخيالِهِ وتجلّياتِهِ. الحياةُ عندَهُ موسيقى، ابتداءً من دقّات ِالقلبِ، مروراً بهبوبِ النَّسيمِ ورهافةِ حفيفِ الأشجارِ. يكرِّسُ خبراتِهِ في نفوسِ طلّابِهِ وطالباتِهِ، بشغفٍ لا يُضاهى، يُعلِّمُ بطريقةِ فلَّاحٍ ماهرٍ عندما يزرعُ أصفى البذورِ في خصوبةِ الأرضِ، كي تتوالدَ موسيقاهُ المزروعةُ باستمرارٍ، وتستمرَّ في وهجِ الاخضرارِ، وتبقى مبرعمةً جيلاً بعدَ جيلٍ في آفاقِ مرامي الأجيالِ. كم من الطُّلّابِ والطّالباتِ تخرَّجَ من رهافةِ أنامِلِهِ، تتلمذَ على يديهِ عازفو وعازفاتُ عودٍ مِنَ العديدِ من دولِ العالمِ، شرقاً وغرباً، وما يزالُ يبذرُ بذورَهُ الخلّاقةَ بهمَّةِ العاشقين. وكم كان مُدهِشاً عندما قدَّمَ في دارِ الأوبرا المصريّة موسيقى شاهقةً في ملتقى مصر الأوَّلِ للعودِ فوقَ طينِ الحضارةِ.
    يستوحي شمّة جموحاتِ ألحانِهِ من هديرِ الرِّيحِ وأمواجِ البحرِ، ومن سطوعِ القمرِ وصمتِ اللَّيلِ الحنونِ. الموسيقى حلمُهُ اللّانهائيُّ المفتوحُ على مساراتِ بسمةِ الأزاهيرِ في أوجِ تفتُّحِهاعلى خدودِ الأطفالِ. تنبعثُ ألحانُهُ من جموحِ خيالٍ مندَّى بأسرارِ النُّجومِ، ومن حالةِ عشقٍ مزدانةٍ بعناقِ الطَّبيعةِ لدبيبِ الأرضِ، لدفءِ الشَّمسِ، لزخّاتِ هطولِ الأمطارِ. أوتارُ عودِهِ معرَّشةٌ بلبِّ القصائدِ في ذروةِ الابتهالِ. أرقصُ فرحاً عندما أستمعُ إلى معزوفاتِ ألبومِهِ: "رحلة الأرواح"، ينتابُني وأنا أستمعُ إلى نقراتِهِ وأنغامِهِ وكأنِّي في رحابِ تجلِّياتِ الأرواحِ وهي تسمو نحوَ الأعالي، نحوَ ذاكرتِنا المجنّحةِ نحوَ رهافةِ بياضِ الغمامِ، تسبّحُ أنغامُهُ رذاذاتِ المطرِ وحنينَ النَّسيمِ وشهوةَ إشراقةِ الشَّمسِ. تسبِّحُ الطَّبيعةَ والسَّماءَ وانبعاثَ ذبذباتِ الموسيقى. طاقةٌ مفتوحةٌ على مساراتِ بوح ِالخيالِ تنسابُ من عذوبةِ موسيقاه. عندما يعزفُ شمّة لا أراه على الأرضِ ولا فوقَ البحارِ، أراهُ يموجُ بين أجنحةِ الغيمِ، أراهُ مطراً شهيَّاً في تهاطلاتِ أنغامِهِ المسربلةِ بدفءِ العناقِ.
    كم بدا لي شاهقاً في شموخِهِ وهوَ يعزفُ "حدثَ في العامريّة"، شعرتُ كأنّي أسمعُ صوتَ صفّاراتِ الإنذارِ، وهديرَ الطَّائراتِ، وأنينَ الأطفالِ والكبارِ. وأكثر ما أدهشني في كيفيّةِ انبعاثِ هذه المقطوعة، أنّهُ قضى عدّةَ أيّامٍ في الملجأِ كي يتمكّنَ أن يترجمَ حالاتِ الأنينِ المرافقةَ لهؤلاءِ الضّحايا الّذينَ قضوا نحبَهم في هذا الملجأِ. مدهشٌ في ترجمةِ المشاعرِ، كأنَّهُ يجسِّدُ نصّاً شعريَّاً خلَّاقاً بحبرِ الكلماتِ ويصفُ دقائقَ الآهاتِ لمجزرةٍ أيقظَتْ ضميرَ الكونِ على حماقاتِ جنونِ الصَّولجانِ. لغةٌ موسيقيةٌ متعانقةٌ معَ آهاتِ العراقِ، شعورٌ مرهفٌ في ترجمةِ فجائعِ الانفجارِ وجنونِ الغدرِ. مَن يسمعُ موسيقاهُ، يشعرُ وكأنَّهُ استحضرَ وقائعَ العامريّةِ بكلِّ اشتعالاتِها وآهاتِها وأهوالِ الانفجارِ. وضعنا الفنّانُ وجهاً لوجهٍ أمامَ أجيجِ النِّيرانِ، وأجسادِ الأطفالِ المحترقةِ. نصير شمّة طاقةٌ موسيقيّةٌ خارقةٌ وعابرةٌ للقاراتِ واللُّغاتِ والآهاتِ. يموسقُ برهافةٍ بارعةٍ أحزانَ الفصولِ والأوطانِ على إيقاعِ ابتهالاتِ القلبِ وحنينِ الرّوحِ إلى أوجاعِ العراقِ، إلى أرضٍ مخضَّبةٍ بأنينِ الجراحِ.
    كلّما استمعْتُ إلى موسيقى نصير شمّة، شعرْتُ أنّني أطيرُ في سماواتِ الفرحِ والدّهشةِ والجمالِ، تنبعثُ من أنغامِهِ موسيقى متآلفةٌ معَ موجاتِ البحرِ ومنسابةٌ برهافةٍ معَ هبوبِ نسيمِ الصَّباحِ ودندناتِ تغاريدِ البلابلِ، ومن خيالٍ مجنَّحٍ نحوَ همهماتِ الطَّبيعةِ وهي تفشي أسرارَ جمالِ الرُّوحِ للكائناتِ المتناثرةِ فوقَ خميلةِ الحياةِ. أشعرُ الآنَ في هذه اللَّحظاتِ وهو يعزفُ رحلةَ الأرواحِ، كأنّهُ يهدهدُ الأرواحَ المحلِّقةَ في منائرِ السَّماءِ برفقٍ، ويبتهلُ لأرواحِ المستمعينَ أيضاً، موسيقى مبلَّلةٌ بوهجِ الأحلامِ. راودَني مراراً كيفَ يلملمُ هذا الفنّانُ تجلِّياتِ ألحانِهِ، ويغوصُ في لبِّ آفاقِهِ بهذهِ الرّهافةِ الشَّاهقةِ، ويحوِّلُ النَّغمةَ إلى ما يُشبِهُ الكلمةَ، الموسيقى تترجمُ مشاعرَ فيّاضةً، تتهاطلُ مثلَ شلَّالاتِ الفرحِ فوقَ مخيالِ شمّة، ينسجُها بمهارةٍ مدهشةٍ وينثرُها فوقَ مهودِ الأطفالِ، لتناغي أرواحَهم المرفرفةَ فوقَ بسماتِ الصّباحِ. عندما يعزفُ "قصّةَ حبٍّ شرقيّة"، تضيءُ موسيقاهُ المساحاتِ المظلمةَ من أرواحِنا وخيالِنا وآهاتِنا وانكساراتِنا، ويفتحُ شهيَّتنا على حبِّ الحياةِ. يمحقُ لهيبَ الأسى الطَّاغي فوقَ ليالينا المكفهرّةِ بتراكماتِ الأنينِ، يرسمُ إشراقاتِ المحبّةِ فوقَ قلوبِنا العطشى لعناقِ الحياةِ. هل يلحّنُ موسيقاهُ على إيقاعِ قبلاتِ العشّاقِ وهم يحلِّقونَ ألقاً في سماءِ النَّعيمِ، أم أنّهُ يستوحي أنغامَهُ من نشوةِ الرُّوحِ وهي تسمو نحوَ أبهى الفراديسِ؟!
    يعزفُ شمَّة "قصّة حب شرقيّة" بطريقةٍ حلميّةٍ شوقيّةٍ حنينيَّةٍ ابتهاليّةٍ موغلةٍ في جموحِ الرّوحِ، كأنَّها تخاطبُ أفراحَ الكائناتِ المتراقصةِ فوقَ أعشابِ الحنينِ، وهم يمرحونَ في كنفِ الرّبيعِ. ترهفُ الأزاهيرُ السَّمعَ إلى هسيسِ ألحانِهِ، فترقصُ فرحاً موشَّحاً بندى الاخضرارِ. قصصُ الحبِّ عندَهُ شرقيّة كونيّة إنسانيّة، تنبعُ من وهجِ الشَّرقِ وتحلِّقُ فوقَ البحارِ كي تنثرَ بذورَ الحبِّ والعشقِ فوقَ مسارحَ من مذاقِ الانبهارِ. ينسجُ ألحانَهُ بإشراقاتِ روحِهِ عبرَ مقطوعةِ "إشراق"، ويطلقُ العنانَ لخيالِهِ، فيبهجُ القلوبَ العطشى لوهجِ الإشراقِ، تقفُ غزالةٌ في مقتبلِ العمرِ وسطَ الأدغالِ، تسمعُ بكلِّ مرحٍ إلى براعةِ الأنغامِ وهي تتداخلُ معَ خشخشاتِ الرِّيحِ وتناغي أغصانَ الأشجارِ، ينبعثُ اللّحنُ بحبورٍ إلى مسامعِ الغزلانِ وتزهو الطَّبيعةُ بكلِّ هذا الجمالِ المرتسمِ على خدودِ الدُّنيا، وفي "رحيل القمر" يهدهدُ القمرَ كأنّهُ على صداقةٍ معَ ضيائِهِ، فيبتسمُ اللَّيلُ لهدهداتِهِ ومناغاتِهِ ثمَّ يجمحُ في تجلِّياتِهِ معَ الشَّاعرِ أدونيس، فينتعشُ كلٌّ منهما ويحلِّقانِ بكلِّ ألقٍ نحوَ رحابِ القصيدةِ.
    يعزفُ نصير شمّة موسيقاهُ وكأنّهُ يناجي الطّبيعةَ وما فيها من كائناتٍ برِّيّةٍ وأهليّةٍ، تزهو أنغامُهُ فوقَ مروجِ الغاباتِ، تسمعُ أرنبتانِ برّيتانِ موسيقى من نكهةِ العشبِ البرِّي، تتوقّفان وترهفان السَّمعَ باهتمامٍ على غيرِ عادتِهما، هل عرفتْ أنَّ هذه الأنغامَ ليسَتْ زقزقاتِ العصافيرِ ولا تغريدَ الطّيورِ، لكنّها متماهيةٌ معَ ابتهالاتِها. ثمَّ تغمرُهُ "حالة وجد" فيعزفُ انبعاثَ وجدِهِ الموسيقي وهو في ذروةِ شموخِهِ، ويهدي انبعاثاتِهِ للمفكِّر الرّاحل إدوارد سعيد، تزدادُ الحياةُ بهاءً عندما تموجُ أنغامُ الموسيقى فوقَ خدودِ الدُّنيا، فتمشِّطُ الأحزانَ المتناثرةَ فوقَ هضابِ العمرِ، تزهو الأرضُ بهذا الاحتفاءِ المنسابِ مثلَ شلّالاتِ الحنينِ المتدفِّقةِ من أعالي الجروفِ فوقَ عذوبةِ البحرِ، تتداخلُ أنغامُ شمّة معَ موجاتِ البحرِ ومعَ أرواحِ المبدعينَ الخلَّاقينَ من طينِ إدوارد سعيد.
    وفي "أرض السَّواد"، يبحرُ شمّة في دكنةِ الحياةِ ويحوِّلُها إلى ضياءٍ عبرَ جموحِهِ الموسيقيِّ، ويغوصُ في عوالمِ "بغداد كما يحبُّها" ويبهرُنا في عشقِهِ المعتَّقِ في حضارةِ بغداد فيوشّحُ وجهها الحضاري بالسّنابلِ، ويلوِّنُ وجهَ "ابراهيم"، وقيثارةَ زرياب بأنغامِ أحلامِنا الهاربةِ من انشراخاتِ الحياةِ، مركّزاً عبرَ تجلِّياتِهِ "بين الرّصافةِ والكرخِ"، فتسمو ابتهالاتُهُ إلى أن تعانقَ روحَ الأصالةِ المتفرِّدةِ في "أرضِ السَّوادِ"، المعجونةِ بالخصوبةِ والعطاءاتِ المتساميةِ إلى آفاقِ الجبالِ، متوقِّفاً عند "سليمة مراد"، مقطوعةٌ عذبةٌ، كأنَّهُ يعيدُ مجدَ "العراقِ على مقامٍ واحدٍ"، مضمِّخاً أرضَ السّوادِ باخضرارٍ مندّى بحليبِ الحنطةِ. وسرعانَ ما أقامَ حفلاً موسيقيّاً في بغدادَ بعدَ إعلانِ وقفِ إطلاقِ النّارِ، في القاعةِ الآشوريّةِ بعنوان: "قادم من الماضي .. ذاهب للمستقبل"، وكانَتْ تماثيلُ الثّيرانِ المجنَّحةِ ترنو إلى موسيقاه وتتساءلُ بحسرةٍ: أينَ أنتَ يا جلجامش لترى ما نراهُ؟!
    أحبُّ التَّأمُّلَ، والهدوءَ، والصَّفاءَ الذِّهني. في هذهِ الحالاتِ التَّأمُّليّةِ، أستمعُ بكلِّ جوارحي إلى موسيقى نصير شمّة، فإذ بي أحلِّقُ في حالةٍ ابتهاجيّةٍ في غايةِ الانبهارِ. يراوِدُني إحساسٌ بطريقةٍ لا أفهمُها، وكأنّي سمعتُ هذهِ الأنغامَ يوماً ما، في مكانٍ ما، دونَ أن أعلمَ كيفَ تناهتْ هذه الأنغامُ إلى مرامي الخيالِ وظلالِ الذّاكرة، ويراودُني أيضاً وأنا في أوجِ ابتهاجي، أنّي سمعتُها في زمنٍ بعيدٍ، وتوارَتْ في حنايا النّسيانِ، ثمَّ انبعثتْ من جديدٍ عبرَ حنينٍ معتَّقٍ يموجُ ألقاً في ظلالِ الرّوحِ، فجاءَ نصير شمّة وأيقظَها من مراميها المبرعمةِ في كينونَتِي منذُ الأزلِ. موسيقاهُ مبلَّلةٌ بحبورِ شهوةِ المطرِ، وفيما أنا في أوجِ تأمُّلي، تنسابُ إلى مسامعي أنغامُ رقصةِ الفرسِ الّتي يؤدّيها شمّة ببراعةٍ مدهشةٍ، وتقفزُ إلى ذهني تساؤلاتٌ غريبةُ الانبعاثِ، كيفَ يموسقُ هذا الفنّانُ المستنبَتُ من دهشةِ الشَّمسِ، خببَ الفرسِ وهي تسيرُ وكأنّنا نسمعُ صوتَ حوافرِها عبر دندناتِ موسيقاه، كأنّهُ يصوغُ ألحانَهُ من شموخِ الفرسِ ورقصتِها الإيقاعيّةِ وهي في أوجِ جموحِها الفرحيِّ؟! كيفَ يحوِّلُ هذا الكائنُ البديعُ النّغماتِ إلى حدثٍ، إلى حركةٍ، إلى لغةٍ ابتهاليّةٍ حواريّةٍ خلّاقةٍ؟! نصير شمّة طاقةٌ فنِّيَّةٌ متعانقةٌ معَ مذاقِ العشقِ، ومرفرفةٌ فوقَ غاباتِ الحنينِ. يرسمُ موسيقاهُ لوناً وحركةً وحرفاً. أنغامُهُ منبعثةٌ من ذبذباتِ أرواحِنا الغافيةِ فوقَ مهجةِ الحياةِ، كأنّها شهيقُنا المنساب من رحيقِ القصائدِ، انبعثتْ بكلِّ هذهِ الرّهافةِ كي تبلسمَ جراحَنا الخفيّة، ويدوِّنَ على إيقاعِ الابتهالِ تاريخَ سموِّ الموسيقى فوقَ أجنحةِ الغمامِ.
    أسمعُ موسيقاه وكأنّي أمامَ لوحاتٍ تشكيليّةٍ، مسربلةٍ بقصائدَ شعريّةٍ مجنّحةٍ نحوَ زقزقاتِ العصافيرِ، متناغمةٍ معَ عروضٍ مسرحيّةٍ سينمائيّةٍ غيرِ معهودةٍ من قبلُ، كأنّي أمامَ تدفُّقاتٍ روحانيّةٍ عشقيّةٍ شاهقةٍ شهقاتِ صباحٍ نديٍّ بأريجِ الزّنبقِ البرِّي، كأنِّي أمامَ غرامِ الرُّوحِ معَ مهجةِ السّماءِ. نصير شمّة حالةٌ منبعثةٌ من الأزمنةِ الصَّادحةِ، حلمٌ مفتوحٌ على منارةِ الخيالِ، يبهجُ قلوبنا الظَّمأى إلى متاريسَ محصِّنةٍ للأرواحِ الخلّاقةِ.
    لم أتفاجأ عندما تبيَّن لي أنَّ نصير شمّة قدَّمَ برنامجاً فنِّيَّاً بعنوان: "قراءة موسيقيّة للوحة" لمدّةِ ثلاثِ دقائق في تلفزيونِ العراق، لأنَّ موسيقاه تتعانقُ معَ فضاءاتِ التَّشكيلِ الفنّي، فهي بمثابةٍ لوحاتٍ تشكيليّةٍ، وأوافقُهُ الرأيَ فيما ذهبَ إليهِ، لأنَّهُ عندما يؤلِّفُ موسيقى تصويريّةً لأفلامٍ سينمائيّةٍ أو مسرحيّاتٍ أو دراما تلفزيونيّة، أو موسيقى لأدعية دينيّة، فهوَ يرسمُ لوحاتٍ تشكيليّةً عبرَ موسيقاهُ، لأنّهُ يؤلِّفُ موسيقى تحكي وتروي حَدَثاً حركةً فكرةً حكايةً لوناً صمتاً بسمةً حزناً إيقاعاً على أكثرِ من مسارٍ إبداعيٍّ، وكلُّ هذا غيرُ بعيدٍ عن التَّشكيلِ الفنّيِّ، فلا تتوقّفُ طموحاتُهُ عندَ حدودٍ معيَّنةٍ، فقد أسَّسَ عدَّةَ فرقٍ موسيقيّةٍ، لكلٍّ منها خصوصيَّتُها وفضاؤها وعالمُها، على سبيلِ المثالِ فرقة: "سداسي الأنامل الذّهبيّة"، من أمهرِ العازفينَ العراقيين، و"البيارق"، و"أوركسترا الشّرق"، وفرقٌ عديدةٌ أخرى، وقد شاركَ معَ العديدِ مِنَ الفنانينَ الأجانبِ في سياقِ حوارِ الإبداعِ الفنِّيِّ، والموسيقى لغةٌ عالميّةٌ شأنُها شأنَ التّشكيلِ الفنّيِّ، لا تحتاجُ إلى ترجمةٍ، بقدرِ ما تتطلُّبُ تذوٌّقاً فنِّيَّاً، ونجحَ في تواصلِهِ معَ مبدعي ومبدعاتِ الغربِ بمهارةٍ عاليةٍ!
    انهالَتْ العديدُ من الجوائزِ على هذا الفنّانِ المدهشِ، مِنْ دُنيا الشّرقِ والغربِ ومن العديدِ مِنْ دُولِ العالمِ، لِمَا قدَّمَ من موسيقى خلّاقةٍ، استكمالاً لمسيرةِ جميل بشير ومنير بشير ومَنْ سبقوهُ وعلّموهُ، فحقَّقَ ما كانوا يطمحونَ إليهِ، وسطّرَ اسمَهُ في سجلِّ المبدعينَ الخالدينَ النَّادرينَ. وراحَ يتوِّجُ تاريخَهُ الفنّي بأعمالٍ إنسانيّةٍ بديعةٍ، وقدَّمَ العديدَ من الحفلاتِ الخيريّةِ للشعبِ العراقي خلالِ فترةِ الحصارِ الأهوجِ، ونادراً ما نجدُ هذا التَّقليدَ وبهذا الحماسِ عندَ مبدعي وفنّاني هذا الزّمان، بالطّرقِ والأساليبِ الّتي قامَ بها شمّة، عندما شاهدَ كيفَ ضاقَ الخناقُ على العراقِ من خلالِ الحصارِ الجائرِ، فاندفعَ بكلِّ حماسٍ للوقوفِ معَ الشَّعبِ العراقي المحاصَر وخاصَّةً وقوفُهُ معَ الأطفالِ، وبدأ بجولاتٍ موسيقيّة معَ "مجموعة جسر" في ربوعِ إيطاليا، وقدَّموا عروضاً موسيقيّةً عبرَ مهرجان: "أنغام على ضفافِ الرّافدين"، واستمرَّ في تقديمِ حفلاتِهِ في العديدِ من المدنِ الإيطاليّة إلى أن فاقَتْ خمسينَ حفلةً، وذهبَ ريعُها لأطفالِ العراقِ، وكسرَ الحصارَ عبرَ وفدٍ طبّيٍّ كبيرٍ من مصر إلى بغداد، ولم يهدأ له بالٌ إلَّا بتقديمِ المزيدِ من المساعداتِ والدّعمِ والمشاريعِ الَّتي كانتْ تدرُّ مالاً للشعبِ العراقي وللأطفالِ بالدَّرجةِ الأولى، وساعدَ الطّلابَ الجامعيين، ونسّقَ معَ الكثيرِ مِنَ المؤسَّساتِ والهيئاتِ العربيّةِ والعالميّةِ بتقديمِ الدَّعمِ للشعبِ العراقي وكسْرِ الحصارِ عليه، ونجحَ في مآربِهِ، أكثرَ مِنَ الكثيرِ مِنَ المؤسَّساتِ الَّتي كانَتْ ترعى هكذا توجّهات، وقامَ بواجبِهِ على الوجهِ الأكملِ، وجاءَتْ مواقفُهُ على حسابِ موسيقاهُ وطموحاتِهِ ومشاريعِهِ الفنِّيّةِ المتعدِّدةِ، معَ هذا استمرَّ يقدِّمُ أقصى ما لديهِ من إمكانيّاتٍ، مسخِّراً علاقاتِهِ وكلمتَهُ الّتي كانتْ مسموعةً للكثيرِ من الجهاتِ والهيئاتِ الَّتي كانَ يقصدُها، وكلُّ هذهِ العطاءاتِ الإنسانيّةِ الرَّائعةِ، تؤكِّدُ أنَّ الموسيقار نصير شمّة مبدعٌ في موسيقاهُ وتجلِّياتِ ألحانِهِ، ومبدعٌ في إنسيانيّتِهِ ومواقفِهِ ورؤاهُ وتوجُّهاتِهِ الّتي تصبُّ بكلِّ شموخٍ في أعماقِ الإبداعِ وإنسانيّةِ الإنسانِ!

    ستوكهولم: آب (أغسطس) 2021
    صبري يوسف
    أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
يعمل...
X