الطائر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الطائر



    الطائر
    دارين حوماني 19 أكتوبر 2022
    قص
    (perfect.com)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط




    كانوا يطرقون بابي بقوة، فيما أحاول ألّا أعير تلك الأصوات أي اهتمام. تقدّمت من الباب ثم تراجعت.. فعلت ذلك كثيرًا.. عامان كاملان وأنا أفعل ذلك حتى تعبت.. أحاول أن أغلق أذنيّ ولا أفتح لهم الباب.. أعترف أن أحدهم تسرّب من تحت الباب وأنّبني كثيرًا، قال لي إنه لن يشفق عليّ بعد الآن.. تمكنتُ من إلقائه كاملًا من النافذة.. آخر تمكّن في ظلام الليل أن يتسلّل من قفل الباب، خفتُ كثيرًا وبكيت وشعرت حينها أنني فعلًا استسلمت.. كان يضحك ويقول لي: "إن لم تخافي على نفسك خافي على أطفالك".. في تلك الليلة كتبتُ رسالة إلى شخصي غير المرئي بأنني استسلمت وأنني أدرك خطئي، ولكنني عدتُ وحذفتها بعد أن سقطت نجمة من السماء على رأسي فتحوّل المتسلل إلى ذبابة وطار بعيدًا في ظلام الليل..

    لا يوجد الكثير من الأشخاص الذين يمكن أن أكون معهم، لطالما شعرت بالخوف من أن أكون مع أحدهم. حاولت مرارًا، ولكني لم أفلح بأن أكون سعيدة، وربما هذا عائد إلى انخفاض رؤيتي للإنسانية. حدث أن كنت مرارًا مع شخوص مرئية لكني لم أستطع بعدها أن أحتفظ بحب نفسي كثيرًا.. أحدهم كانت أظافر أيديه قصيرة للغاية، وكأن لا أظافر له، وفي جسده ما يشبه الجهل بفهم الحب ومعنى الحياة.. آخر، كان رأسه يشبه جدًا العالم الضحل الذي كنت أسير فيه، وسريعًا ما كان ينتابني الندم الشديد.

    من أحد أخطائي أنني أدين نفسي باستمرار، وكما قال لي صديقي ذات يوم أنني أجلد نفسي كثيرًا، فقبل أن أطلب الرحمة لنفسي من الحياة عليّ أنا أن أرحمها. ومن أخطائي أنني أفكر كثيرًا، لا سيما عندما يتعلق الأمر بسرعة الزمن والجسد والبرد.. بالحياة التي عشتها وتلك التي كان يجب أن أعيشها ولم أعشها.. تبدأ الفكرة مثل نبتة في صدري فتصير على شكل شجرة بأغصان كثيفة، وكلما فكرت أجدني أتدهور في الخوف، إلى العمق، فأصير أكثر حزنًا.

    في ذلك اليوم، كنت مصرّة على أن أعيش الحب ولا أفكر بالأصوات التي تطرق باب بيتي.. هذه هي النقطة التي أود أن أقولها، لا أريد أن أفكر، أي لا أريد أن أحزن ولا أن أندم. ربما هو العطش.. ربما هي الحقيقة المخالفة للحرية التي ينبغي أن نضغط عليها حتى تذوب.. وربما هو الحب.. كنت أود أن أنتهي من هذا الذي أعيشه.. سأشرح أكثر، أن أنتهي من أن أكون دائمًا مع شخص مرئي وأنا في الحقيقة لست معه بل مع شخص آخر غير مرئي.. شخصي غير المرئي موجود وغير موجود، هو يجعلني أهدأ سريعًا ويجعلني أقلق سريعًا أيضًا، يجعلني أحب وأشعر بالسعادة سريعًا ويجعلني أغرق في حزني أيضًا سريعًا، وربما ذلك عائد لكونه بكل بساطة أنه غير مرئي.. أعتقد أن حبي له نابع من أنني أشعر أنه المكان الذي يمكن أن أحتمي في داخله حين أشعر أن لا مكان لي في هذا العالم. هل شعوري هذا نابع من كونه غير مرئي؟ هل هو الوهم؟ لذلك أصررت على أن أمضي إليه دون أن أفكر ودون أن أندم.

    الحقيقة موجودة في كل مكان أعيشه، هي الحياة التي تشبه الحزن الكبير.. لكن الحقيقة نفسها يمكن أن تكون جميلة مثل هطول الأمطار. يمكن لهؤلاء الواقفين خلف بابي أن يصمتوا فقط حين أمضي بعيدًا عن ذلك الباب، وعن تلك الأشجار التي في صدري..

    دفعتُ الزمن بهدوء في الفراغ وجئته من بعيد.. قطعت نصف الكرة الأرضية.. أخبرني غوغل أنني قطعت 10355 كلم على متن طائرة ورقية لأجده.. كُوني طائرًا، قال لي.. كان جسده بنكهة المكان الأكثر حرية، بنكهة السماء الداكنة الزرقة وقليل من النجوم، وبنكهة العبور في الضوء.. وضع فمه على روحي تمامًا، أخذ يجمع ما تبقّى مني، رتّبني وحوّلني إلى طائر يُبحر عاليًا فوق العالم وفوق الموت.. الفكرة الوحيدة التي بقيت تطرق باب بيتي هي أن العالم بالتأكيد لا يحتاج لي لأنقذه ولا الحياة ولا الإله، لا يحتاجون لي، أنا فقط أحتاج لإنقاذ نفسي.. كلمة، اثنتان، ثلاثة من الشغف العميق.. فقط.. وجسد أردتُ فقط أن أعهد به إليه.. حين لا نحذر فنحن غارقون في الحب. حين لا نندم فنحن عاشقون.. كان جسدي يريد فقط أن يؤخّر موعد البرد.. أن يلغيه.. وكانت الأصوات المخيفة خلف بابي تختفي ثم تختفي ثم تختفي مثل لا أفكار، مثل لا أحد..


يعمل...
X