غرق الغريب!

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • غرق الغريب!

    غرق الغريب!
    عيسى جابلي 9 سبتمبر 2022
    قص
    هالة عز الدين، لبنان
    شارك هذا المقال
    حجم الخط




    انتشلوني منذ يومين. كنت فاقدًا الوعي تقريبًا، ولكنّني تبيّنت الحشود المحيطة بموقع العملية بمشقّة. كانت تشكيلة من العساكر ورجال الشّرطة تطوّق الموقع بشريط أحمر، وتمنع الحضور من الاقتراب. وكانت فلاشات المصوّرين تغشي بصري، وتعيد إليّ الوعي من حين إلى آخر، فأتحسّس الحبال المشدودة إلى خصري وأطرافي. كان رجال الحماية المدنيّة يصيحون في سائق إحدى الرّافعات أن يسحبني بهدوء. ولمّا قال صوت جهوريّ:

    - يكفي.. تمّت العمليّة بنجاح..

    انهمك رجال الإنقاذ في ربطي إلى سرير متحرّك ذي عجلات دفعوه إلى قلب سيّارة إسعاف. وقبل أن يطيروا بي إلى المستشفى، سمعت فرقة نحاسيّة تعزف أناشيد انتصار حماسيّة احتفاء بنجاح العمليّة. وبين غفواتي ونوبات إغمائي تصلني كلمات بعض الفضوليّين:

    - لقد صار شيخًا هرمًا!

    ***

    أفقت في المستشفى بعد ساعات، فإذا امرأة تقول إنّها زوجتي جالسة بجانبي مُطرِقةً. كانت دمعات تنساب من عينيها في صمت. وكانت يداي موصولتين إلى أجهزة تسجّل نبضي وحرارتي وتحصي عدد دقّات قلبي وأنفاسي. ابتسمت في وجهي ممرّضة قائلة:

    - لقد نجوتَ..

    لم أكن أفهم ما يجري، فنظرتُ إلى المرأة الّتي تقول إنّها زوجتي مُبديًا دهشتي، فسألتْ الممرّضة عن نتائج الفحوصات والتّحاليل. وصل طبيب، وراح يقرأ عليّ تقريرًا طويلًا بعد أن طمأنني:

    - ضغط الدّم مرتفع جدّا، دقّات القلب فوق المعدّل، هناك تصلّب في الشّرايين، وضعف في البصر، وبعض الاضطرابات في الدّماغ نسعى لتشخيصها..

    ثمّ تابع:

    - لقد أثّر فيك الصّمت الطّويل كثيرًا، زيادة عن انعدام الحركة والضّغط النّفسيّ وطول الانحناء..

    ونظر إلى المرأة الّتي تقول إنّها زوجتي قائلًا:

    - يحتاج إلى راحة طويلة.. إنّه يستعيد الوعي تدريجيًا، وبحلول المساء سيكون بخير..

    ***

    في مساء ذلك اليوم بدأت أستعيد ذاكرتي. أدركتُ أنّني في المستشفى، وأيقنت أنّني لم أكن أحلم، ولم أكن مجنونًا. أخبرتني المرأة الّتي تقول إنّها زوجتي أنّه بُني منذ عام، ولم يعد أهل البلدة مضطرّين إلى التّنقّل خارجها للعلاج.

    جاء الطّبيب، فسمح لي بالمغادرة طالبًا من المرأة أن تهتمّ بي وأن تعلمه بكلّ طارئ. أمسكتْ بيدي، فخرجنا. كنت كالخارج من كهف. أجهد نفسي لتعرّف المكان، ولكنّني لم أعرفه. لقد تغيّر كلّ شيء تقريبًا. امتدّت شوارع طويلة تشقّ البلدة طولًا وعرضًا، ونبتت على حوافّها بنايات عملاقة تقف على مغازات بلّوريّة. سألتُ عن كشك عهدته يبيع الجرائد والمجلاّت، فأخبرتني المرأة الّتي تقول إنّها زوجتي أنّ عمارة عملاقة بُنيت مكانه. وأشارت بإصبعها قائلة:

    - هي تلك، في الشّارع المقابل، البناية الّتي تقف على ذلك الطّابق الأرضيّ البلّوريّ الّذي يضمّ قاعة للألعاب الرّقميّة والأقراص المضغوطة ومقهى للإنترنت.

    ***

    توقّفت بي أمام مبنى عظيم، وجعلت تفتّش حقيبة يدها. أخرجت حزمة مفاتيح، وأدارت أحدها في باب خشبيّ، ثمّ سحبتني إلى الدّاخل قائلة:

    - وصلنا..

    كان رأسي يدور، وفيه تتلاطم صور قديمة غامضة، وانهالت عليّ أسئلة كالسّيل:

    - لم أكن أسكن هنا، كنتُ في..

    فقالت:

    - في منزل بطرف المدينة بعته لمّا كبر الأولاد.

    - المدينة!!

    - أنت معذور. أعرف أنّك تركتها قرية، ولكنّ المكان تغيّر بسرعة..

    - أين جارنا عمر وزوجته وأبناؤه وبناته؟!

    - تُوفّيا. تزوّج أبناؤه، وهاجر بعضهم إلى ألمانيا وإيطاليا. أمّا البنات فقد تزوّجن، ورحلن إلى العاصمة مع أزواجهنّ..

    كنت أشعر بوحشة غريبة حادّة وقاسية تعصف بقلبي. أتأمّل المكان. في إحدى الغرف وجدتُ سريرًا تذكّرت أنّني اشتريته منذ زمن بعيد لمّا تزوّجتُ. في أحد الرّفوف وجدتُ ألبومًا من الصّور. كنتُ أتصفّحه، وهي تسألني:

    - ألن تسأل عن الأولاد؟

    - أولاد؟! أيّ أولاد؟!

    - أولادنا!

    كنتُ مذهولًا. سقط من رأسي كلّ شيء تقريبًا. أخذتْ الألبوم من يدي، وراحت تشير، بإصبعها فتذكر لي أسماءهم:

    - فراس.. لقد تزوّج. إنّه يعيش في كندا.

    وتضيف:

    - هذه سلمى.. كبرت هي الأخرى، وعيادتها في العاصمة قرب زوجها. سامر أيضًا ناقش الدّكتوراه. لقد صار رجلًا!

    ثمّ وضعت إصبعها على الرّجل الّذي يتوسّط الثّلاثة في الصّورة:

    - هذا أنت!

    أخذتُ الألبوم، ووقفتُ أمام مرآة أتأمّل وجهي، وأنظر إلى الصّورة. لقد تغيّر كلّ شيء تقريبا. تهدّل وجهي. شاب شعري. غزت التّجاعيد وجهي وقلبي. انتابني إحساسُ ساكني أهلِ الكهف لمّا غادروه. لم أعرف شيئا ممّا وجدتُ منذ أن انتشلوني من عالمي. حضنتِ المرأة ظهري قائلة:

    - لقد كنتُ سعيدة بك. نبّهتك مرارًا إلى أنّه سيخطفك منّا نهائيًّا، ولكنّك لم تكن تسمعني.

    استدرت نحوها وتأمّلتها مليًّا، وفي رأسي يدور صوت قديم قفز إليّ من الذّاكرة. ما زالت تحمل كثيرًا من تلك المرأة الشّابّة الّتي عهدتها منذ زمن بعيد. اتّضحت صورتها في ذهني أكثر لمّا عاد إليّ صوتها. كنت غريبًا عنها كجدار بارد. غادرتُ المكان متثاقلًا. خرجت إلى الشّارع أبحث عن أثر لذكرى تعيدني إلى المكان. ساعةُ وسطِ المدينة، الّتي لم تعد مدينة، تشير إلى مرور سنوات طويلة على آخر عهدي بالمكان.

    لا شيء ما زال يشدّني إلى هذا المكان ولا إلى هذا الزّمان.

    لقد تغيّر كلّ شيء في غفلة منّي. كنت غارقًا في عالم آخر من الأرقام والصّور الباردة. للحظة فكّرتُ لو تصدمني سيّارة مجنونة. قد تُنهي ألم الغريب في لحظة..

    كنت أجرّ قدميّ عائدًا إلى المنزل. لمّا فتحت لي المرأة الّتي تقول إنّها زوجتي، كان قلبي ينزف. وكان الألم في داخلي يتهاطل غزيرًا.

    نظرتُ إليها نظرة خاطفة بلا إحساس. شعرتُ أنّ دُوارًا أوقعني أرضًا. سمعتها تبكي بصوت عالٍ، فيما كنتُ أزحف على مرفقيّ بصعوبة بالغة أبحث عن هاتفي، حيث عالمي الّذي أخرجوني منه غريقًا منذ أيّام، مددتُ يدي نحوه لأغرق فيه من جديد..



    (تونس)
يعمل...
X