"أمّ الزّين جيعان"!

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "أمّ الزّين جيعان"!

    "أمّ الزّين جيعان"!
    عيسى جابلي 13 أغسطس 2022
    قص
    (محمد بن مفتاح)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط

    في مدينتنا كاتب عجوز يكتب قصصًا تفوح منها رائحة الكافور، ويتطاير منها غبار السّنين، ولكنّه لم يشعر يومًا بالنّقص، ولا بالحرج، وهو يمطر المكتبات بما تخطّه يداه. قال له أحد القرّاء يومًا على هامش ملتقى من الملتقيات إنّه يكتب عالمًا أكله الزّمن، ولم يعد له أثر إلاّ في ذهنه. أحسّ بوخزة في قلبه أخفاها بابتسامة صفراء، وفي الليل صمّم على كتابة قصّة يمكن أن تكون من رحم العالم المعاصر. دخل مكتبه القديم، وأخذ قلمًا جديدًا ليوهم نفسه بأنه سيكتب قصّة خارقة يفخر بها الزّمن الرّاهن. فكّر طويلًا على مكتبه. تأمّل الحياة المعاصرة، وأخذ يستنطقها بحثا عن قصّة ترتقي إلى أحلام ذاك الفتى الّذي ساق له الملاحظة. فكّر في أن يكتب عن ألسنة من الأرقام تلتهم البشر في كلّ مكان، ولكنّه لم يجد تتمّتها المناسبة، وظلّت الفكرة غائمة في ذهنه، من دون أن يتمكّن من تطويرها. عدل عنها. قفزت إليه فكرة ماكنة عملاقة تقتات على عواطف البشر. تبلعهم فيخرجون قطعًا حديدًا ترطن بلغة غريبة. ولكنّ مآلها لم يكن بعيدًا عن الفكرة الأولى. أحسّ الكاتب العجوز بالملل، وتحوّل ملله سريعًا إلى إحباط. أسرع إلى دولاب الملابس فانتقى طقمًا أنيقًا أهدته إيّاه معجبة منذ أيّام. تأمّل العلامة التّجاريّة الملصقة به، ثم ارتداه وارتدى حذاء عصريًا ونظارتين جذّابتين وفق آخر تصميم، تعطّر وعاد إلى مكتبه، فأخذ القلم مجدّدا، ولكنّه رغم ذلك لم يجد مدخلًا إلى أيّ من أفكاره السابقة ولم يجد أفكارا جديدة يمكن أن تصله بالعالم المعاصر. وتأمّل الأمكنة والشّخصيات والأزمنة المعاصرة وتعقيدها، ففرّ هاربًا بتفكيره إلى رجل عرفه في صباه منذ سبعين عامًا، كان قد توفّي منذ زمن بعيد. وتذكّر أنّه لم يكتب عنه شيئًا رغم شهرته في المدينة، فأخذ يخطّ:
    "في ذلك المساء، أقبل "التّرّ" لافظًا الزّبد في كلّ الجهات كأنّه البحر الهائج. سكنت مدينة بئر الحفي، وتهيّبت لحدث عظيم يقع بعد حين.

    ***

    يمدّ جبل المدينة قامته الفارعة في السّماء باسطًا قدمه الكبيرة لتنبت فوقها مدينة بئر الحفي هادئة لا تهزّها ريح، ولا يعكّر صفوها مكدّر، سوى تلك الزّوابع الّتي يثيرها "أمّ الزّين" في لحظات جوعه.
    ورغم أنّ البناياتِ بناياتُ مدنٍ، والشّوارع شوارع مدن، وكذا الدّكاكين والمغازات والطّريق الوطنيّة الثّالثة الّتي تشقّها نصفين، رغم كلّ ذلك، فإنّ المدينة حافظت على طابعها الرّيفيّ المميّز، فالنّاس يعرفون بعضهم البعض، وإذا نادى أحدهم الآخر صاح بطلاقة كأنّه لم يغادر حقله لحظة، وإذا احتاج مالًا أقرضوه، وإذا جاع أطعموه، وإذا أقام فرحًا حضروا ليدفعوا له النّقود، ويملؤوا ساحات الرّقص من أجله.
    غير أنّ ما يطبع بئر الحفي بطابع الرّيف حقّا، إنّما هو تلك الجلسة المسائيّة الّتي تعقد أمام دكّان العمّ عمر. تبدأ حلقة الشّاي برجلين، فما إن تجهز الكأس الأولى حتّى يكون الشّمل قد التأم: العمّ عمر، والعمّ عليّ، والعمّ مصطفى، يلتحقون أوّلًا، ثمّ يتقاطر البقيّة بعد أن يتأكّدوا من أنّ ثمن الشّاي والفحم قد دفع وصارت جيوبهم في مأمن.
    كان العمّ عمر واحدًا من الّذين شاركوا في حرب التّحرير الجزائريّة، وقبلها التقى بعبد الكريم الخطّابي، قائد ثورة الرّيف المغربيّ. بعد الاستقلال، كان يوسفيًّا في الصّميم، وقد سجن لذلك سنوات. ثمّ صار قوميًّا بعد ذلك، وأسماء أبنائه يوسف وصالح تشهد على ذلك.. غير أنّ الفقر أسكته وألجأه إلى حانوت ورثه عن والده وأصبح "كاتبًا عموميًّا"، أو ببساطة "الكاتب العموميّ"، بما أنّه الوحيد في بئر الحفي.
    أمّا العمّ مصطفى فكان واحدًا من الإسلاميّين، وإن كان لا يضيره في لحظات الغضب أن يسبّ الدّين، ويلعن القضاء، ويبصق على القدر، ليركن إلى مسبحته في ما بعد مستغفرًا.
    وأمّا العمّ عليّ فله حالتان يعيشهما بالتّناوب: أبيض، أو أسود.. لا جديد في حياته سوى أنّ إحدى الحالات تطول أو تقصر. لم يدعْ مهنة عند بني آدم إلاّ جرّبها قبل أن يخرج منها جميعًا خاسرًا خاوي البطن. يشهد على ذلك ما يحتويه كوخه القديم في أقصى المدينة: محراث، وقرب ماء، ومنول خشبيّ، وفأس، وأوان طينيّة، وبقايا أكياس فحم ومشمش مجفّف وغرابيل قديمة وجلود حيوانات.. ذلك ما بقي من حرفه القديمة، أمّا اليوم، فلا شيء غير العربة، والحمار المربوط أمام الكوخ يسفّ التّراب.
    كانت العربة آخر ما تبقّى له. طاف بها أرجاء المدينة يوصل السّلع والمسافرين، والسّوط ينهال على مؤخّرة الحمار ضريبة ما أكل من تبن، ولسان العمّ عليّ يغزل عبارة "إرْ"، الّتي صارت "تِي إرْ"، واستقرّت "تِرْ" من كثرة الاستعمال. وصار العمّ عليّ للسّبب نفسه يسمّى "التّر"، وهي عبارة أصبحت، لارتباطها به، تعني في قاموس المدينة: من لا يملك شيئًا!
    وكان "التّرّ" يُقرأ بما في يده: أمّا السّوط فيعني أنّه شغّال، وأنّه نزل للتّوّ من "توصيلة" قبض بعدها نقودًا، لذلك لمّا يلمحه العمّ عمر قادمًا يستبشر لِمَا سيسمع من سباب وفذلكة. تنثال عبارات "التّرّ" على الجماعة واحدًا واحدًا. يسبّهم وأحزابهم، ويلعن تقصيرهم مع نسائهم ليلًا من دون أن يضحك. أمّا الجماعة فتظهر أسنانهم وتتّسع أشداقهم ويصرعهم الضّحك ذات اليمين وذات الشّمال..
    أمّا إذا كان "أمّ الزّين" في يد "التّرّ"، فإنّ كوكبًا ما يهمّ بالسّقوط على بئر الحفي: الشّرر في العينين اللّذين أكلتهما التّجاعيد، والفم الخالي من الأسنان مفتوح كفوهة قربة ينثر الزّبد والسّباب واللّعنات والكلام الفاحش. فلا تسمع من "التّرّ" إلاّ كلمات تُسمِّي "ما تحت الحزام" في لغة أهل المدينة، كلمات يتفنّن "التّرّ" في تنويعها مشكّلة قاموسًا مخصوصًا، ولو التقطته كاميرا نشرة الأنباء لكان كلامه جميعًا تلكَ الإشارة الصّوتيّة الّتي يدخلها مهندسو الصّوت على تسجيل ليغطّوا بها الكلمات النّابيّة، الّتي تتحوّل في التّسجيل إلى "طيط. طيط. طيط. طييييط...".

    ***

    وصل الكاتب العجوز هذه اللّحظة من القصّة، فرأى أنّه كتب نصفها تقريبًا ولم تتحوّل بعد إلى قصّة، ولاحظ أنّه أطال في تقديم الشّخصيّات والمكان، فتمطّط الجزء الأهمّ من القصّة الّذي يفترض أن يكون أكثر تشويقًا لشدّ القارئ. أعاد قراءة بعض الجمل فوجدها طويلة ركيكة لكثرة التّمطيط بالمركّبات الموصولة. كما تبيّن أنّ عالم القصّة الّذي تدور فيه الأحداث لا يمتّ بصلة إلى المدينة الحاليّة، فلا أحد من هؤلاء ما زال موجودًا، واستبعد أن تشدّ قصّته ذاك الفتى صاحب الملاحظة. ففكّر في التخلّي عن المشروع. بحث عن فكرة جديدة. قلّب فكره طويلًا فلم يجد عليه بحرف واحد. فعاد إلى قصّته يكملها من دون أن يغيّر فيها حرفًا. ذاك هو عالمي، قال في نفسه، ولا شكّ في أنّ هناك من يكتب أسوأ من هذا.. وليكن..

    ***

    واصَلَ:

    "كان "التّرّ" قادمًا وفي يده "أمّ الزّين" المشرع في وجه المجهول (نسيت أن أخبركم بأنّ "أمّ الزّين" هو الاسم الرّسميّ لعكّاز التّرّ، وإذا كانت العكاكيز والعصيّ يُهشّ بها على الغنم، فإنّ التّرّ يهشّ به على غير ذلك). كان يدوّي كالرّعد. ضُمّت الأفواه، وغادر الحلقة كثيرون، غير أنّ العمّ عمر استقبله بكأس الشّاي، فذبّها "أمّ الزّين" بعيدًا، وطلب إليه الوقوف إلى طاولته حالًا. لم ينجح أحد في تهدئته. قال: "اكتب لي مطلب لَكْ البْهيم" (و"البهيم" في لغة "التّرّ" هو معتمد المدينة).
    سارع العمّ عمر إلى ورقة، وأخذ يكتب من دون تفكير، ولمّا سأله التّرّ عمّا كتب قرأ له: "الحمد للّه.." وكانت تلك آخر كلمة نطق بها قبل أن يهوي "أمّ الزّين" على رأسه، ويدخل في غيبوبة طويلة مضرّجًا بالدّماء. تحلّق حوله الجماعة يصبّون عليه الماء. كان "التّرّ" قد دفع العمّ مصطفى، الّذي تعثّر بالكانون، واشتعلت أطراف جبّته، ثمّ غادر لاعنًا سابًّا.
    رآه النّاس يحثّ الخطو شاتمًا، فوسّعوا له الطّريق، ولكنّهم، حالما يتجاوزهم، يسيرون خلفه صامتين يتهامسون وهم يعرفون أنّ كارثة ما على وشك أن تقع. وما إن وصل "التّرّ" إلى مبنى المعتمديّة حتّى كانت بئر الحفي كلّها واقفة خلفه تنتظر ما سيفعل. وسّع له "الصّبائحيّ" الطّريق، فدفع باب مكتب المعتمد الّذي أخذه الذّعر حالما قرع "أمّ الزّين" طاولته، وبعثر أوراقه وملفّاته وهاتفه. أمّا "التّرّ" فلم ينتظر سؤال "ما بك؟"، وإنّما راح يُسنِد إلى الجوع أفعالًا تُسنَد في العادة إلى ما يقوم به الأزواج من فنون النّكاح، أمّا المفعول به في كلّ الجمل، فقد كان الترّ نفسه:
    "أنت ﭬـاعد تحت المروحة والتّرّ يْنِيكْ فيه الشَّرّْ (الجوع)؟!! طيط البطالة! طيط بوك! طيط طيط ...".
    لم يستطع أحد تهدئته، ولا الاقتراب منه، أمّا المعتمد المسكين فقد فهم أنّ السّوق راكدة، وأنّ "التّرّ" لم يقبض ملّيمًا منذ أسبوع، وأنّ "الشّرّ" يكاد يقتله. وقديمًا دخل "الترّ" مكتب المعتمد، وخرج أكثر من مرّة بصرّة فيها مؤونة أيّام من الكسكسيّ والطّماطم المعلّبة وقوارير الزّيت.. ولكنّه هذه المرّة حلف بالطّلاق ـ مع أنّه أعزب منذ الولادة ـ ألاّ يغادر إلاّ إذا أركب المعتمد على الحمار وعاد به إلى بيته ليقبض ملاليمَ حلالًا ثمنَ توصيلةٍ.
    لم ينتظر قبول المعتمد المرتعش في ركن، وإنّما أمر بإحضار الحمار المربوط عند حنفيّة الماء. وما هي إلاّ دقائق حتّى كان الحمار في مكتب المعتمد! نعم في المكتب! كان المعتمد المسكين ينظر إلى الغلابى ممّن لم يروه يومًا إلاّ بعد تقديم أكثر من مطلب، غير أنّ أحدًا لم يتحرّك لنجدته خوفًا من "أمّ الزّين" الغاضب".

    ***

    أحسّ الكاتب العجوز أنّه عند هذه النّقطة قد سرّع في نسق الأحداث أكثر من الجزء الأوّل، وأنّ هذا الجزء أكثر طرافة بسبب طبيعة شخصيّة "التّرّ" المضحكة، فشعر بزهو عجيب، وندم عن تفكيره في التخلّي عن القصّة قبل قليل، وشعر بالبطولة لأنّه وجد القصّة الّتي يبحث عنها، فأخذته السّعادة إلى تصوّر نهاية ترتقي بالقصّة إلى تشيخوف، ودوستويفسكي، وماركيز، وكبار الكتّاب في العالم..

    ***

    كتب:
    "كان الجبل يتأهّب لاحتضان الشّمس لمّا سار الحمار متثاقلًا من الجوع يحمل على ظهره السّيّد المعتمد وقد بدت بدلته تحت نور المساء متناسقة تمامًا مع ربطة عنقه. وكان التّرّ يستحثّ الحمار ويجلده: "تِرْ. تِرْ.."، ويصيح في الرّاكب المغلوب على أمره: "يلزم كان كي نركّبك على بهيم() باش تعرف إلّي التّرّ ﭬـتلو الشّرّ؟؟!!". ولا ينسى أن يسبّ الكاتبَ العموميَّ صديقَه قائلًا: "الحمد للّه؟؟! نا الحمد للّه؟؟! منين جتني الحمد للّه؟؟! الحمد للّه.. طيط". كان العمّ عمر الّذي التحق بالرّكب قد فهم حينها سرّ القنبلة الّتي فجّرها في رأسه "التّرّ" هذا المساء.
    كانت النّعال تثير الغبار فيعلو فوق الموكب الضّخم. تقدّم التّر ووضع يده على عنق الحمار. بدأ يتباطأ. حسب النّاس أنّه تعب. اتّكأ على "أمّ الزّين". نظر إلى المعتمد المحمول على ظهر الحمار، وسرح ببصره بعيدًا بعيدًا..
    لـمّا التفّ القوم حوله كان قد سقط أرضًا. ظلّ "أمّ الزّين" نابتًا من إبطه واقفًا عاليًا كأنّما هو مشهر في وجه شبح ما..".

    ***

    اهتزّ الكاتب العجوز وهو يضع نقطة النّهاية للقصّة فرحًا، تفقّد بدلته الأنيقة، ووقف أمام المرآة يسوّي شعره الأشيب، ويتأمّل وجهه المجعّد، وطيّات رقبته، فرأى أنّ السّنين لم تأخذ وسامته. تذكّر الشّابّ صاحب الملاحظة، فبحث عنه من الغد. وجده في مقهى في المدينة، فأسرع إليه بقصّته، وانغمس في أوراقه يقرؤها على مسامعه. تابع الشّاب الفقرات الأولى، ولكنْ حالما رفع الكاتب العجوز بصره وهو يبلغ نصف القصّة ليرى أثرها في الشّابّ لم يجده، فصُعق صعقة من فاجأها مخاض في صحراء قاحلة. ظلّ فمه مفتوحًا، وقلبه يتمزّق ألمًا. حرّكه النّادل مرّات ومرّات، فلم يتحرّك. طلبوا الإسعاف. قاس الطّبيب نبضه. وجده بلا حراك. وجزم أنّه تحوّل إلى تمثال أشدّ صلابة من الحجر. استغرب النّاس كيف تحوّل كائن بشريّ إلى حجر صلد. هم الّذين عهدوا ذلك في خرافاتهم اللّيليّة لا في واقعهم. ولمّا بلغ الأمر مصلحة الآثار في المدينة، قرّرت أن تحافظ على هيئة الكاتب العجوز كما هي. نقل على هيئته تلك إلى مكتبه الّذي تحوّل بقرار جمهوريّ إلى متحفٍ يأتيه الفضوليّون من كلّ مكان من دون أن يعرف أحد إلى حدّ الآن كيف تحوّل الكاتب العجوز إلى تمثال!
يعمل...
X