ألعَودةُ إلى جَيكور"

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ألعَودةُ إلى جَيكور"

    "ألعَودةُ إلى جَيكور"
    قصة قصيرة علي البدر
    الذكرى الثامنة والخمسين لرحيل الشاعر بدر شاكر السياب
    24/12/2022 - 24/12/1964
    ولم يألف الناس مشهدا أحال الصخب إلى دهشة وقلق. وكنا نادراً ما نرى تابوتاً أو موكبَ تشييعٍ، فقد كان الموتُ رهيباً. ومن يرى جسدَ ميتِ أو مجردَ وجههُ، يبقى أسيراً وسط دائرة ماشاهده. صمت مطبقٌ ورجُلٌ بدا من كلامه أنه خليجي. دشداشة بيضاء وبشرة لوَّحتها الشمس وقسمات ألم وحزن مرسومة على وجهه.
    - السلام عليكم. فين بيت "بدر شاكر السياب؟" رحت “للمعقل” وطلعتلي عايْلَهْ مَتْعِرْفَهْ وْجيتْ هْني أسأل عليه.
    - وعليكم السلام. آسفين عمّو والله منعرفه وماكو بيت بهذ الاسم بهاي المحله...
    ولأكثر من خمسةِ عقودِ، يدور هذا الحوار البسيط مع هذا الرجل في أعماقي، ومازالت قسماتُ وجهه مرسومةً في مخيَّلتي. أجل ومَن يعرفه ونحن مجموعة من طلبةِ المدارس متجمعين قرب باب جامع السيف في البصره القديمه. "السياب.. بدر شاكر السياب".. ياترى هل اقوم بدفنه وحدي؟ تساءل الرجل. لا لا مستحيل. هذا مستحيل.. ترجَّل من سيارته والتف حوله بعض الرجال وحملوا الجنازة وأدخلوها حيث التف حولها الباكون فوجدت نفسي ابكي بحرقة، ليست عليه وانما تذكرت أمي وهي تبكي على قبر أبي الذي لم أحضر جنازنه. هرولت مسرعا الى البيت واخبرتُ أخي الكبير بما حدث فأسف لذلك ولَعَنَ الظرووفَ التي تحاربُ الشاعرَ والقاص والعالم وأصحاب الكفاءه. قال أخي ذلك متحمساً وهو يركز في عينَيَ.. هذا الانسانُ من عائلة كريمة. فُصِلَ من دائرته وطُرِدَت عائلتُه من بيتها. سيأتي يومٌ ويتغنى الناسُ بأشعاره ويصبح له شأنٌ كبير، لكنك لن تَراَنِي ياصغيري. قد أَغيبُ أو أُغَيَّبُ فجأة عنك. وفي بلدنا يُكَرَمُ الانسانُ بعد موته. أريدك أن تشعر بهموم الاخرين، والأرضُ التي نقف عليها الان وتَحْملُنا ونحن فخورون بها. ستضمنا بأمان ويلفنا ترابُها يوماً ما.
    - وهذا الرجل الخليجي؟
    - مابه؟ تكلم. تساءل أخي.
    - حمل الجنازة وهو يبكي ويردد كلاماً لا أفهمه ؟ "سيُّبتُ وحيداً كالمسيح جرًّ في المنفى صليبه".
    - كلام مؤلم َشبيه ببيت شعر السياب. نظر إليَّ وطوقني بذراعيه وشعرت بحنان غريب عندما بدت دقات قلبه تنبض في صدري. صّمَتَ قليلاً وقال بصوت مبحوح. " أنت أخي الصغير وصديقي الحبيب في هذه الحياة.
    وتدور الأيام وتصبح نبوءةُ أخي الذي غاب عنا، حقيقة، ووقف السياب شامخًا. رفعتُ رأسي فبان وجهه وبدت عيناه شاخصتين نحو شارع ممتد ازدحمت به حركة المارة. اتجه البعض نحو "جسر الداكير" "وساحة أسد بابل" ،بينما توزعت نظرات الاخرين متفحصة طوله الفارع وربطة عنقه العريضة. أربعة أمتار وجسد برونزي وقاعدة عريضة أصبحت جزءً منه تسمَّر فوقها صامتًا. سنون مضت وصمتك لا يفارقني. حَمَلَكَ الغريبُ عبر الحدود وخَوْفُك يرن صداه سابحاً في الأعماق. "إني أخاف.. أخاف من شبحٍ تخبؤه الفصول!" .
    - وتحقق خوفك . حملوك وحيدا عندما حان يومك الأخير:
    - "هذا هو اليوم الأخير، فليته دون انتهاء!"
    - ستزهو الأيام يابدر. لاتحزن.
    - "ليت الكواكبَ لا تسير، والساعة العجلى تنام على الزمان فلا تفيق!"
    - نامت الساعة يابدر على الثكالى والأيتام. نامت وياليتها يابدر تفيق. نامت لتصحو على الشارع العتيق.
    - وتلك الحروب، ردَّ بدر متحمساً، قَطعت الرؤوسَ ومزَّقت آلأشلاء. لماذا هذا الغرور؟ "غرور هذا الهالك الإنسان وهذا الحاضر المشدود بالأجل! أَلأِجْلِ فجور أنثى أو آتقادٍ متوَّج بالثار؟". هكذا أراه. وهناك في الشفق. تنوح نساؤنا المترملات، يولول الأطفال عند مدارج الأفق. هلمَّ فقد شهدتُ، دماً وأشلاءً. تفجر في بلادي قمقم ملأتْه بالنار دهور الجوع والحرمان."
    - هذا ما خشيته يابدر. تعيش مع همومنا. أما تسمع كركرات الأطفال يحومون حولك كفراشات تراقصها الرياح وأزهار تفوح عطراً. أما تنسى همومك لحظة؟
    - "رأيتُ أن أفئدة التتار، وأذؤبَ الغار أرق من الرعاع القالعين نواظر الأطفال، والشاوين بالنار شفاهَ الحلمةِ العذراء ." وجيكور..خجلى تعاتبني. ماذا دهى قومُك يابدر؟ " أنمشي نحن في الزمن أم إنه الماشي ونحن فيه وقوف؟ أين أوله وأين آخره؟ هل مرَّ أطوله أم مرّ أقصره الممتد في الشجن؟" وأنا لنخلتي باشتياق. إليك يا جيكور. لحضنك يا كوت المراجيج. لحضن أمي أعود. لأبي الذي لم أحضر جنازته. غريب عبر المسافات أغني إليك يا عراق. " لأني غريب. لأن العراق الحبيب بعيد وإني هنا باشتياق. إليه، إليها... أنادي: عراق، فيرجع لي من ندائي نحيب، تفجر عنه الصدى. أحسُّ بأني عبرت المدى إلى عالم من ردى لايجيب."
    تحسس بيده اليسرى صدره ومسحت أصابعه آثر الشضايا المرسومة عليه ثم طوقت ذراعه اليمنى خصره محاولاً دسها في جيبه متلمساً كتابه الذي مزقته شضايا حرب مجنونة ، لكنه انتفض وكأن شيئأ أيقظه من رقدة طويلة. رمقني بنظرة فلاحت ابتسامة غير معهودة بينما رُسِمَت خيوطُ تفاؤلٍ على وجهه وبدا يتمايل كسعفة تحملها الرياح. همً بالكلام فقاطعته معاتباً:
    - جئتُ ونشوةُ اللقاءِ أحمِلُها. كفانا هَماً وأنت العارفُ الدّاري. أتبكيني يا سيّابُ والزمنُ أتعَبَني ودهرٌ ضاعَ فيه البائعُ والشّاري؟
    - ستضحك يوماً وتلوي القدر وتصهر الحديد وتنصب القضبان ليقبع خلفها الغربان. مللت سماع صوت الرجاء: "جيكور، أين الخبز والماء. ألليل وافى وقد نام الأدلاء والركب سهرانُ من جوع ومن عطشِ والريح صرِ وكل الأفق أصداء. جيكور. مدّي لنا باباً فندخله أو سامرينا بنجم فيه أضواء"
    - وماذا بعد يا سياب؟ تسمرت قدماي. لابد من الفراق أمام زحف ساعة السحر. مددت ذراعي نحوه مودعاَ ولاحت ابتسامة لم أألفها عند لقاءاتي المتككرة معه. حاول الإنحناء فلم يستطع. أشار بسبابته نحوي فأيقنت أن شيئاً ما لابد أن يقوله. كلماتٌ ما زال صداها يرن في أعماقي أسمعها كلما تطوقتني الهموم وتتوغل فيَّ الهواجس.
    - "عيناكِ غابتا نخيل ساعة السحر، أو شرفتان راح ينأى عنهما المطر. وترقص الأضواء... كالأقمار في نهر، يرجه المجداف وهناً ساعة السحر.
    أشرت له ملوحاً بيدي. وداعًا وداعًا، بينما ظلَّ صوتُه يلاحقني من بعيد..
    - " كأن أقواسَ السحابِ تشربُ الغيوم وقطرة فقطرة تذوب في المطر. وكركر الأطفال في عرائش الكروم، ودغدغت صمتُ العصافيرِ على الشجر أنشودة المطر.
    - "مطر.
    - مطر.
    - مطر..."
    · جَيكور قرية في البصرة بجنوب العراق ولد فيها بدر شاكر السياب.
    · ألداكير Dockyardمنطقة رسو وتصليح السفن.



يعمل...
X