تُعد (خبز على طاولة الخال ميلاد) الرواية الأولى لكاتبها الليبي (محمد النعّاس)، التي كتبها في فترة الحجر الصحي لجائحة كورونا، وقد فازت الرواية بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عام 2022.
تتحدث الرواية عن (ميلاد) الذكر الوحيد بين أخواته البنات ونشأته بينهن؛ ما جعل طبيعته تختلف عن الذكور الآخرين، فقد كان رقيق القلب عكس ابن عمه (العبسي) الذي كان فاحش اللسان والسلوك، لكن شخصية ميلاد كانت دائمًا محل انتقادٍ من الجميع ومنهم والداه؛ ما خلق ضغطًا عليه بجعله يجتهد ليخفي تصرفاته عن الجميع مع أنه يراها عاديةً، فأهل القرية يطلقون عليه المثل الشعبيّ الليبيّ "عيلة وخالها ميلاد" الذي يُعيّر به الرجل الذي لا يملك سلطةً على نساء بيته وفيه قدحٌ لأخلاق النساء أيضًا. كان (العبسي) هو من أخبر (ميلاد) أن أهل القرية يطلقون عليه تلك المقولة؛ ما جعل شخصيته تتخبط بين ما يؤمن به حقًّا وما يجب عليه فعله كما يرى المجتمع، فيجب عليه مثلًا أن يحكم على ابنة أخته ألّا ترتدي الجينز مرة أخرى، وألّا يسمح لزوجته بالعمل؛ لذلك يذهب (ميلاد) إلى أخته ويتشاجر معها بسبب ملابس ابنتها، ويساوره الشك في أخلاق زوجته مع ما بينهما من حب.
وتعرض الرواية التناقض الفجّ بين شخصية ميلاد والعبسي، وهذا يستفز القارئ وقد يكرههما في بعض المواقف، فقد كان العبسي يستغل ميلاد بطرائق عدّيدة منها: أن يقوم (ميلاد) بزراعة النباتات ليبيعها (العبسي) ويستفيد من ثمنها. كان والد ميلاد يقسو عليه ليجعل منه رجلًا يُعتمد عليه في المنزل والمخبز، لكنّ شخصية ميلاد الطيبة كانت تخذل والده فلم يصبح بالمواصفات الشائعة للرجل في المجتمعات القروية المتحفظة، فاستولى العم على المخبز بعد وفاة والد (ميلاد) وأصبح من أسوأ المخابز بعدما كانت مخبوزاته الإيطالية تنافس الخبازين الإيطاليين في الجودة. قد يكون سلوك العم هو ما جعل ميلاد يحقق رغبة والده في الانضمام إلى الخدمة العسكرية لعلّه يكتسب بعض الصفات التي يرى فيها المجتمع المعنى الصحيح للرجولة. تؤثر تلك التجربة في شخصية ميلاد بطريقة ما منذ اليوم الأول لانضمامه إلى الخدمة العسكرية، إذ يتعرّف على (المادونا) الذي سيتفنن في تعذيب وعقاب (ميلاد) بسبب أو بلا سبب.
وتعرض الرواية أيضًا علاقة ميلاد بالخَبز، فنرى وصفًا عذبًا لعملية خبز الأنواع المختلفة من الخُبز الإيطالي والكورواسون وعددٍ من المخبوزات الأخرى "عندما خرج الرغيف بالرائحة التي استدرجت ذكريات طفولتي، وبالطعم الذي جرى على لساني أوّل مرّةٍ منذ عشرين عامًا، قفزت من شدّة الفرح".
تتنوع شخصيات الرواية وتتقلّب علاقتهم بميلاد بين المحبة والنفور والاستغلال، فمثلا تتحوّل علاقته بأخته (صالحة) من الصداقة وكونها مستودع أسراره إلى الغيرة من زوجته (زينب) وسعيها إلى إفساد تلك الزيجة عن طريق الدجل والتمائم، فهي ترى في ذلك حمايةً له من زوجته المختلفة عنها وعن بقية نساء العائلة، فهي متحررة وتعمل، أما نساء العائلة الآخريات لا يعملن ولا يختلطن إلا بأفراد أُسرهن.
ونجد أن شخصية الأم أكثر تحفظًا من بناتها فهي ترى أنه لا يجب على (ميلاد) أن يجلس إليهن ويتناقش معهن في شؤونهن، لكنه كان يحب الأعمال المنزلية ويحب معاونة أخواته في صبغ أظافرهن، فهو يجد أنّ الطلاء المتقن للأظافر في المكان المحدد فنٌ ومهارةٌ؛ وذلك ما جعله مولعًا بالترتيب والتنظيف وغسل الأطباق.
إن مجتمعاتنا تعج بنسخٍ كثيرة عن ميلاد هذا، فهل كتب علينا أن نبقى حبيسي الأنماط المجتمعية التقليدية والقوالب المصممة مسبقًا، ثم يكون مصير أية محاولةٍ للخروج عن الطريق أو التمايز مشابهًا لمصير ميلاد، إما أن يصبح نسخةً من رجال مجتمعه أو يُنبذ من ذلك المجتمع ويُشَكَّك في رجولته.
المصدر:syr-res