القرائن الجمالية للموروث الشعبي فـي تشكيل الخطاب المسرحي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • القرائن الجمالية للموروث الشعبي فـي تشكيل الخطاب المسرحي

    • مسرحية (مدق الحناء).. القرائن الجمالية للموروث الشعبي فـي تشكيل الخطاب المسرحي




    رياض موسى سكران*
    في هذه المقاربة النقدية التحليلية محاولة للكشف عن آليات توظيف الموروث الشعبي في عرض مسرحية (مدق الحناء) التي قدمتها فرقة مسرح مزون العمانية في مهرجان المسرح الخليجي الثالث, وحازت على جائزة أفضل عرض مسرحي, والوقوف على البعد الجمالي الذي كان ينطوي عليه هذا التوظيف..؟ وهل تفاعل هذا التوظيف مع قضايا العصر وإشكاليات الحياة الراهنة..؟ وكيف إن توظيفه كان مرهوناً بقدرة العرض على التعاطي مع متغيرات الحياة المعاصرة..؟ وهل كان توظيفاً لأجل تحقيق فرجة مجردة تهدف الإمتاع والإقناع أم إنه جاء تلبية لحاجات روحية وضرورات ثقافية ولغاية أسمى وهدف أكبر يرتبط بمجمل الأبعاد والفنية والآيديولوجية..؟
    يشكل الموروث الشعبي جزءاً لا يتجزأ من ثقافة الشعوب, على اختلاف هوياتها وأجناسها, كما إنه يمثل الرصيد الذي يجسد تأريخها ويعبر عن حاضرها, ومن خلاله وبوساطته, ترسم الأمم صورة لمستقبلها, فهو يحدد الطابع الخاص الذي يميز كل أمة عن الأمم الأخرى, ويمنح خصوصية كل شعب عن الشعوب الأخرى, فهو الوعاء الذي تستودع فيه الشعوب ممارساتها وطقوسها وشعائرها, وكل ما يصب في محتوى نهضتها الحضارية في مختلف مجالات الحياة الإنسانية.. ولأنه كل ذلك وأكثر, فإن الحاجة الى استقراء واستلهام ذلك الموروث الشعبي, بوصفه رصيداً حياً نابضاً, بتعدد أشكاله وتنوع مضامينه, في شتى حقول المعرفة وأصناف الإبداع وجماليات التعبير, يمثل ضرورة وحاجة في الوقت نفسه, فهو جزء من اعتزاز الفرد برصيد أمته النابض.
    ولإن العرض المسرحي, بشتى أشكاله ومختلف مستوياته وتنوع إتجاهاته, يمثل استجابة فكرية, وضرورة جمالية, لتَمثُل ومحاكاة ما يكتنزه الموروث الشعبي من إمكانات, وصيغ تعبيرية, عن قضايا الإنسان وهموم وطموحات الشعوب. فقد تباينت وتعددت واختلفت الرؤى المسرحية لذلك الموروث وتباينت طرائق تقديمه, مثلما تعددت وسائل التعبير عن كيفية استحضاره, وتَمثُله, وتأكيد دوره في ترسيخ الوعي بضرورته كحاجة في حياتنا المعاصرة التي تشهد تحديات الثورة التكنولوجية ووسائل الإتصال الحديثة التي جعلت العالم قرية صغيرة, وأزاحت خصوصية الثقافات الخاصة بكل شعب وكل أمة, فالحفاظ على هويتنا الثقافية ومنجزنا الحضاري وخصوصيتنا التاريخية, يستوجب تكريس ذلك الموروث الشعبي في حياتنا اليومية من خلال شتى مجالات الإبداع, ولعل واحد من أقدر الأشكال وأهمها في التعبير, هو المسرح الذي يحاكي ويجسد ذلك المعطى الحضاري والفكري والثقافي, من خلال عناصر تكوين وبناء كل ما يعبر عن ذلك الموروث بأنساقه المتعددة, وبما يشغل فضاء العرض من سينوغرافيا وأحداث ومكان وحركة شخوص, فضلاً عن طبيعة ذلك الحدث الدرامي وطريقة محاكاته..
    وقد أجتهد الفنان المسرحي العماني في تقديمه لهذا المعطى من الثقافة الشعبية والموروث الشعبي عبر الفضاءات التي تحرك فيها عرض مسرحية (مدق الحناء) بشكل خاص, والتي يحاكي من خلالها تلك البيئة الشعبية باختلاف مفرداتها التي يمكن أن تقدم من خلال الفضاء المسرحي, وهي تحمل بعدها الجمالي والآيديولوجي, ضمن رؤية وخطة, تؤطر علاقة التفاعل مع العناصر الأخرى المشكلة لهندسة فضاء العرض, وضمن شروط وضوابط اللعبة المسرحية, بوصفها انتقاء وإعادة تشكيل وصياغة جديدة, فمن بين مفردات ذلك الموروث ما يمكن تقديمه مسرحيا ومنها ما يستلزم تطويعه أو إعادة صياغته ليتوافق مع اشتراطات اللعبة المسرحية, فمثلا كانت بيئة الصيادين وحياتهم حاضرة في العرض بعد تطويعها مسرحيا ضمن الشروط والضوابط الجمالية لصناعة المسرح, مثلما استحضر العرض عناصر منتقاة من فضاء البيئة البحرية والساحلية للخليج العربي, بل إن هذا الفضاء أصبح بيئة تتعايش فيها وبها ومن خلالها شخصيات العرض, وتنعكس فيها وتتأثر من خلالها مجريات الأحداث سلباً أم إيجاباً, فقد قدم العرض مشهداً بانورامياً للبيئة البحرية والساحلية العمانية وما يدور فيها من وقائع بطريقة مشوقة تشد المتلقي الى تلك البيئة بجمالياتها المتفردة والمخصوصة التي لا يمكن أن نجدها في مكان آخر.
    ويعد عرض مسرحية (مدق الحناء) إنموذجاً متميزاً في مسرحة موضوعات الموروث الشعبي ضمن نسق جماليات البيئة الشعبية, من خلال حكاية المسرحية التي تعايشت فيها الأحداث والشخوص, وخلقت الجو العام الذي نقل المتلقي إليه وغاص به الى أعماق البحر وأجواء السفينة, وبيئة الأحداث التي تعززت عبر بناء أبعاد شخصيات المسرحية ضمن نسق البيئة العام, لتكتمل شروط بناء الشخصية التي تسعى من أجل تحقيق فعل إقناع المتلقي بأن كل ما يجري على خشبة المسرح هو جزء لا يتجزأ من ذلك الجو الحقيقي وتلك البيئة الفعلية لهذه الشخصيات, فالنسق الجمالي للموروث الذي أعتمده العرض في بناء خطابه, هو الأقرب الى وجدان ومشاعر وروح الجمهور, وأكثر ارتباطا به وتمثيلا له, فالمدينة تتعرض للإختطاف من قبل أحد أبنائها, فيمارس سطوته عليهم وعلى مقدرات المدينة مستعينا بمجموعة من الغرباء, وحتى الغرباء سرعان ما ينقلب عليهم فيعانون الأسر ليصبح الصراع الدرامي صراعا متداخلا ما بينه وبين أبناء المدينة المطالبين بحقوقهم وحريتهم من طرف, وما بين أبناء المدينة والغرباء الذين أصبحوا أسرى يناضلون لنيل حريتهم منه, وفي الوقت نفسه يقاومون أبناء المدينة الذين أغتصبت مدينتهم, وهكذا تتعدد وتتداخل أطراف الصراع في المسرحية, ضمن رؤية, حققت تأثيرها في خلق حالة التواصل مع المتلقي من خلال نسيج العلاقات المتداخلة لوحدات الصراع الدرامي, وهو ما يسعى إليه العرض المسرحي أساساً, وذلك لإمتلاكه الأساس الروحي المرتبط بمشاعر جمهور المسرح..
    حمل العرض في مقارباته الجمالية العديد من القيم الرمزية للإرادات المتعارضة والمواقف المتضاربة والنزعات المتصارعة داخل الذات, وهو محاكاة للصراع الأزلي بين قوى الخير وقوى الشر بمختلف أشكالهما وصورهما, وكل قوة منهما تسعى لتبرير وجودها, وها هو (رسلان) يبرر رغبته في الإستحواذ على السلطة وإغتصابه المدينة بعدم وجود من يحرص على أهلها ومواردها وخيراتها سواه, بعد أن مات وجيه المدينة, وبعد أن منح صاحبه (هجرس) منصب المساعد الذي أعانه كثيرا في السيطرة على المدينة وأهلها, ثم يكتشف أهل المدينة إن مدينتهم بلا موارد وهم ينتظرون ويدفعهم الأمل والحلم باكتمال بناء السفينة, وهذا هو الحلم الأكبر, فقد شرعوا ببناءها قبل موت الوجيه, وكان حلمهم في أن تساعدهم في الصيد والسفر, وتساعدهم في تبدل أحوالهم الى الأفضل, فيحاول (رسلان) أن يستولي على هذه السفينة, ويبدأ التعامل مع أهل المدينة كأنهم عبيد, وقد فرض سطوته عليهم بالقوة وبمساعدة الغرباء, الى أن يصل الى حد لا يمكن احتماله, فيثور عليه أبناء المدينة, حتى يتبدى خائفا مذعورا, وهشا مهزوزا من الداخل, ولا يمتلك القوة التي كان يدعيها, أما (هجرس) فقد كان ينفذ له كل رغباته وأوامره, حتى لو كانت على حساب قتل صديقه, فها هي الكوابيس تؤرقه بسبب قتله لصديقه إرضاءً للرغبة العدائية التي يحملها (رسلان) والتي تسيطر عليه وتتحكم في مصيره, لتتفاقم حالة الإنهيار النفسي عند (هجرس), فيعاقب نفسه بقطع يده, لتستمر الكوابيس بمطاردته ودفعه الى أن يختبيء في (مدق الحناء) الذي الذي تعمل عليه (أمه), فيموت في داخله إختناقا, أما (أمه) بائعة الحناء التي استمد العرض المسرحي عنوانه من مدقها, وهو عنوان ينطوي على عمق دلالي في الموروث الشعبي وما يحمله من انفتاح وأثر من جهة, وعمق سيميائي أشتغل عليه العرض المسرحي بطريقة (المكوك) الذي يدخل في تفعيل أو تحريك أو تغيير كل الوقائع, فالمدق كان حاضرا بقوة في كل التفاصيل والجزئيات وبشكل حقق تعاضدا موضوعيا مع بنية الحدث ورسم أبعاد الشخصيات.
    من جانب آخر فإن إستحضار الموروث الشعبي, والذي أصبح بيئة حية نابضة بالحياة والمصداقية, وهي بيئة تشحن رصيد الإحداث الدرامية للعرض, وتؤثر وتتأثر فيها, ولها مبرراتها وفلسفتها القائمة على أساس وعي المخرج وثقافته وذائقته الجمالية, وهي العناصر التي تتحكم في توجيه معادلات تفاعل العرض المتوازنة الأطراف, والموجهة أساساً لتحقيق عملية التواصل مع المتلقي, الطرف الأول: الموروث الشعبي وما يكتنز من طابع خاص ومتفرد يميزه بكل مفرداته المستخدمة في العرض, والطرف الثاني: ثقافة العرض المسرحي المعاصر واشتراطاته الحداثوية المعاصرة وتقنياته التكنولوجية من جانب آخر, ليحقق العرض تأثيره في الثقافة الراهنة والوعي الراهن للمتلقي.
    من هنا كان عرض (مدق الحناء) قادراً على تحقيق رسالته في تشكيل الوعي الجديد للمتلقي, وتوجيهه الى ذلك الخزين المعرفي والحضاري النابض بالحياة, والذي يمنح حياتنا المعاصرة طابعها الخاص ونكهتها المميزة, فضلاً عن تقديم خطاب فني جمالي يمتلك فرادته النوعية, وينأى بنفسه عن التقليد أو النسخ أو محاكاة تجارب مسرحية أخرى, فقد تعاضدت وتداخلت الأشكال التعبيرية بالمضامين الفكرية, بإحساس جمالي متوقد, يؤشر الى رؤية إخراجية لها (روحية) خاصة, منحت عرض (مدق الحناء) خصوصيته النوعية وسياقه الجمالي المنفتح و(روحيته), ليكشف سعي الفنان المسرحي لإثبات خصوصيته وفرادته..
    إن عملية استقراء وتحليل الكيفية التي وظف فيها المخرج (يوسف البلوشي) الموروث الشعبي في المسرح, تكشف عن بعد فكري, ورؤية إبداعية معاصرة, حيث كانت عملية التوظيف تهدف بالأساس الى خلق حالة التفاعل مع القضايا الراهنة من حياتنا اليومية, وكانت تلبية لحاجات روحية وثقافية واجتماعية, لترسّيخ تلك القيم التي ينطوي عليها الموروث الشعبي وأثره وتأثيره في عقول وأذهان شريحة واسعة من المجتمع, فلم يكن خيار المخرج (يوسف البلوشي) لهذا المعطى المؤثر في وجدان وثقافة وسلوك المجتمع اعتباطياً أو عابراً, بل كان واعياً, ومدروساً بعناية فائقة من حيث التعامل مع هذه الثيم والأفكار المنتقاة جمالياً, لدرجة وضعت أسس العلاقة بين الموروث الشعبي كنسق من أنساق الثقافة المؤثرة في المجتمع, وما حققته من آثار إيجابية في الحياة المعاصرة..
    فالبحث في الكيفية التي أقترح (البلوشي) حلوله الإخراجية, يؤكد عن مقدرة عالية في التعامل المنفتح في التناول والمرونة الكبيرة في خلق القرائن المسرحية وبشكل معاصر, حقق حالة التواصل مع المتلقي على طول زمن العرض, وذلك عبر توظيف أنساق جمالية متعددة ومتباينة والتي أخذت مساحة كبيرة ومركزية في العرض وشكلت أحدى متعالياته التي تجسدت بعض المفردات المستخدمة في بيئة العرض مثل (مدق الحناء) الذي كانت تعمل عليه الأم, بوصفه النسق الأبرز الذي حقق حضورا شاخصا في تشكيل بنية الخطاب المسرحي إبتداءا من عنوان المسرحية وحتى خاتمتها, حيث إن حضوره في العرض بقي مرافقا لكل الإحداث ومتغيراتها وذلك من خلال صدى إيقاع صوته وحركته, حيث حمل أكثر من دلالة ومعطى إيحائي ورمزي, كونه حاملاً لنبض الحياة في المدينة وحاملاً لمشاعر القلق والهواجس التي تضطرب في داخل نفوس أبناء المدينة, فضلاً عن حضوره المادي المباشر وما حققه من من إيقاع يعكس أبعاد العلاقة بين أبناء المدينة من جهة وبين وحدات ومفردات صناعة الفرجة المسرحية بوصفها نسقاً جمالياً من أنساق العرض المسرحي, وبين مجمل سياقات حياة الإنسان المعاصرة المحكومة بايقاعية تهيمن عليها وتتحكم فيها. ولعل القرين الجمالي الأكثر إدهاشاً وتأثيراً في المتلقي تمثل في عملية عملية بناء السفينة الذي يجري متزامناً مع سير العرض, وهو تشكيل توسط خشبة المسرح ليشكل حضوراً مهيمناً في سير الإحداث من جهة, وحضوراً مهيمناً في سينوغرافيا العرض المثيرة للدهشة من جهة أخرى, مما خلق نوعا من تعاضد جوهري بين عملية بناء السفينة الذي شكل فضاءاً سينوغرافياً للعرض وبين الفعل الدرامي المتصاعد مع سير الحدث وتقدمه, مما خلق بيئة خصبة لتحقيق حالة الإقناع بعد أن تححق تفاعل المتلقي مع ما يحدث على الخشبة..
    فالمخرج انطلق بوعي متقدم من حقيقة إن فن المسرح يقوم في جوهره على أساس إنه (محاكاة) لحياة الإنسان وهواجسه وتطلعاته وأحلامه وطموحاته وأزماته ومشكلاته التي يعيشها في واقعه المتجدد والمتسارع مع سرعة ثقافة العصر وتقنيات الإتصال وثورة التكنولوجيا ومجمل تأثيراتها على حياته الراهنة, وفي الوقت نفسه, فإن المخرج امتلك القدرة والحس الجمالي في كيفية التحكم بأدواته الفنية التي من خلالها أجاد صناعة فرجته المسرحية بشكل هارموني منسجم ومتناسق الى درجة كبيرة من الإتقان والذائقة التي أحتكم إليها في صياغة مجمل مفردات العرض..
    فالموروث الشعبي في خطاب مسرحية (مدق الحناء) أتجه الى تمثُل القيم الروحية والوجدانية التي ينطوي عليها هذا النسق الثقافي, فضلاً عن تمثل جمالياته ضمن هذا السياق, والتي انطلقت من الوعي والإيمان بأن جوهر الثقافة الشعبية والموروث الشعبي هو الذي يشكل خصوصية وهوية ووجدان وضمير كل شعب حي, مثلما تختزل قيم وحضارة المجتمع في بلاغتها وحكمتها, وذلك كله يمثل القاعدة الأساسية التي إنطلق منها عرض مسرحية (مدق الحناء) في عملية إنتاج خطابه, الذي يسعى بالأساس الى تحقيق فعل التواصل مع المتلقي والتأثير فيه, من خلال ثوابت الفرجة في المسرح التي تتمثل في (الإمتاع والإقناع), فضلاً عن الإحتفاء بقيم ذلك الموروث في تلبية حاجات روحية وضرورات ثقافية مرتبطة بمجمل الأبعاد والفنية والآيديولوجية..

    -





يعمل...
X