مسرح المقهورين لأوغوستو بوال..

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مسرح المقهورين لأوغوستو بوال..

    • نشأ بعد ثورات خلقت علائق غير تقليدية بالجمهور مسرح المقهورين لأوغوستو بوال..
    احمد السبياع
    كاتب وباحث مغربي
    تمكن “مسرح المقهورين Theatre of the oppressed” الذي أسسه وطوره البرازيلي أوغوستو بوال من الانتشار الواسع في مختلف بقاع العالم، كما تمكن كذلك من الوجود في أماكن أخرى، قد تصنف غير مسرحية من وجهة نظر تقليدية، من قبيل الملاعب الصغيرة، وساحات القرى النائية، وردهات المستشفيات، والسجون، والشواطئ، ومحطات القطارات، إلخ… ويمكن أن نضيف أن مسرح المقهورين تمكن كذلك من التسرب إلى مجالات أخرى، كالعلاج النفسي، والتنمية البشرية، والسياسة، والتربية والتعليم، إلخ… ولعل المرونة التي يمتاز بها مسرح أوغوستو بوال كانت واحدة من أهم أسباب انتشاره، حيث يملك قدرة مهمة على التأقلم مع الثقافات، وعلى التكيف مع مختلف الفضاءات، ويحوز طاقة اختراق الكثير من المجالات. إضافة إلى ارتباطه الحثيث بالهموم الآنية للناس، فهو مسرح موضوع بالأساس، لكنه مسرح تقنية أيضا، حيث يترابط فيه الفن والموضوع ترابطا متينا، وتتلاحم فيه التقنية بالمشاكل المطروحة التحاما عضويا.
    سيرة أوغوستو بوال الذاتية : الحياة في المسرح والمسرح في الحياة
    ولد أوغوستو بــوال Boal Augusto في ريو دي جانيرو/ البرازيل سنة 1931 وتوفي سنة 2009 وهو في الثامنة والسبعين. درس الهندسة الكيميائية، كما درس المسرح في الولايات المتحدة الأمريكية. وحينما عاد إلى البرازيل عمل في مسرح إرينا في سان باولو، وظل يديره ويخرج مسرحياته لخمس عشرة سنة (1956-1971) ونظرا لأن مسرحه كان يقف في صف المقهورين ضد قاهريهم فإنه قد اختطف سنة 1971 من الشارع من قبل العسكر الذين كانوا يحكمون البرازيل وقتها ثم سجن لأربعة أشهر تعرض خلالها لأصناف من التعذيب. بمجرد ما أطلق سراحه هاجر إلى البرازيل، وظل متجولا في الأرجنتين والبرتغال وفرنسا ودول أخرى. في سنة 1974 نشر كتابه الأول “مسرح المقهورين” الذي اشتهر شهرة كبيرة فور ظهوره، وترجم إلى لغات عدة، وصار صاحبه من أعلام المسرح في العالم.
    إن كل شيء قام به أوغوستو بوال، أو كل قرار اتخذه، أو كل حلم تمناه إلا ويرتبط ارتباطا وثيقًا بفن المسرح؛ إذ لا يمكن الفصل الحاسم داخل أحداث أيامه، وتصنيفها إلى صنفين: أحداث ترتبط بحياة بوال، وأحداث ترتبط بمسرحه. من ذلك مثلا أن الترشح لمنصب سياسي ما، وهو حدث يرتبط بالحياة، قد حوله بوال إلى تجربة مسرحية عميقة. وقد اقترحت تاليا Talia (ناشرة كتب بوال) على بوال أن يكتب سيرته الذاتية فرفض بحجة أن المنجز المسرحي للمبدع هو المهم وليس المبدع ذاته، وكان ردها: إن المنجز الإبداعي والمبدع ذاته متداخلان ومرتبطان.”1. وهذا هو واقع بوال فعليا، فالحياة والمسرح عنده لا ينفصلان أبدا.
    لكن بدا لبوال حينها أن كتابة سيرة ذاتية هو نوع من النرجسية، فرفض أن يجمع أيام حياته في كتاب. كما أن السيرة الذاتية Autobiography يجب أن تكون بمثابة الخاتمة، أي بعد أن يقرر بوال أنه فعل كل ما عليه أن يفعله، وأنه يجب أن يخلد إلى الراحة، وهذا ما لا يقبله بوال. ولكن حينما خلا إلى نفسه، بدأ يتذكر وقائع حياته الطويلة، ووجد أنها تستحق أن تسجل ليقرأها كل مهتم، وأن كل الناس الذين شاركوه تفاصيل حياته يستحقون أن يخلدهم بين دفتي كتاب، فقرر بوال أنه لن يكتب سيرة ذاتية لكنه سيكتب مذكرات memories، محفزا بذكر الناس الذين أثروا فيه وساعدوه ليشكرهم ويكرمهم بهذا الكتاب. ومحفزا بكون وقائع حياته ارتبطت ارتباطا وثيقا بمسرحه. وبالفعل فقد اكتمل مسرح المقهورين نظرية وتطبيقا بسيرته الذاتية التي صدرت سنة 2001 بعنوان “هاملت وابن بيكر: حياتي في المسرح والسياسة Hamlet and the Baker’s Son My Life In Theatre and Politics”.

    مسرح المقهورين : الخلفيات الفكرية والفلسفية
    الكلمة للجمهور
    تقوم فلسفة أوغوستو بوال على فهم رحب للمسرح بوصفه فنا، فالمسرح عنده ليس فن الأقلية الموهوبة، والفنان المسرحي لديه ليس بشرا ساميا يملك قدرات خارقة، كما أنه ليس ذلك الفرد المشهور الذي يلتف حوله الجمهور لأخذ الصور والتوقيعات، ولا المسرح بوصفه فضاء هو تلك البناية الفخمة المزينة بتزاويق مبدعة، وبألوان شتى من الزخارف والأشكال. إن المسرح لديه هو فن الجميع، وفن الحياة، يوجد أينما توجد الحياة، في الأسواق، والأحياء الهامشية، وفي المعامل، والمخازن والحقول، والشوارع. يقول بوال: “في الأصل، يوجد الممثل والمتفرج متلازمين داخل الشخص الواحد، وعندما ينفصلان ويتخصص أشخاص ما في التمثيل بينما يقتصر آخرون على الفرجة تولد الأشكال المسرحية بالشكل الذي نعرفها به اليوم. وهكذا أيضًا تولد “المسارح” أو تلك الأشكال المعمارية المكرسة لتقديس تلك القسمة، وذلك التخصيص، وهكذا أيضًا تولد مهنة الـ”ممثل”. ولا ينبغي لوجود المهنة المسرحية التي تنتمي لبعض الناس أن تحجب وجود الموهبة المسرحية واستمراريتها لدى الآخرين الذين يملكونها جميعًا. فالمسرح موهبة لدى كل كائن بشري.”2 ولقد شبه بوال المسرح بالدين، إذ إن الدين هو ملك لكل معتنقيه وليس لرجال الدين فقط، فكذلك المسرح إنه ملك للجميع، وعلى الجميع أن يمارسه وليس الممثلون فقط، حيث قال : “المسرح لا يمكن أن يسجن داخل المباني المسرحية، تماما مثل الدين الذي لا يمكن أن يسجن داخل الكنائس؛ لغة المسرح وأشكاله العديدة لا يمكن أن تكون ملكية خاصة للممثلين. تماما مثل الديانات التي لا يمكن أن تكون حكرا على رجال الدين”3
    وبهذا يثق بوال بقدرة كل البشر دون تمييز على التمثيل، بل إنه يطالب الجميع بالتمثيل، ومسرح بوال أساسا يقوم على هذه الفكرة، “التمثيل للجميع”. ويقترح بوال أيضا مصطلحا جديدا وهو Spect-Actor وهو تركيب لـكلمة Spectator المتفرج وكلمة Actor الممثل، لتكون الحصيلة المتفرج-الممثل، يقول بوال “أنا، أوغوستو بوال، أريدُ من المتفرج أن يأخذ دور الممثل، وأن يقتحم الشخصية وكذلك الخشبة، أريد منه أن يغادر فضاءه الخاص وأن يقترح الحل. عن طريق أخذ موقع على الخشبة، يملك المتفرج- الممثل the Spect-Actor القدرة على تقديم مشهد وبكل مسؤولية. وتصبح الخشبة فضاء لعرض الواقع، والمتخيل fiction. لكن المتفرج- الممثل ليس خياليا، إنه موجود في المشهد المسرحي وخارجه، في واقع مزدوج”4
    وانسجاما مع نفس الطرح، يقترح بوال أن يشارك الفنان المسرحي حيله مع المتفرج، وأن يمكنه من الآليات الأولية للعب المسرحي، يقول بوال “بالنسبة لي هكذا ينبغي أن يكون الساحر: في البداية يجب أن يعرض سحره من أجل أن يبهجنا، ثم عليه أن يلقننا حيله. هكذا ينبغي أن يكون الفنان، يجب علينا أن نكون مبدعين، ويجب علينا كذلك أن نعلم الجمهور كيف يكونون مبدعين، كيف يصنعون الفن، من أجل أن نستخدم نحن جميعا هذا الفن بطريقة تشاركية.”5
    ولقد ذهب أوغوستو بوال أبعد من منح حق الجمهور في اللعب المسرحي؛ حيث عمل طوال حياته على الاشتغال مع جماعات صغيرة، داخل أماكن وجودهم، كالسجناء، والخادمات، والعمال، وهم ليسوا ممثلين ولم يفكروا يوما في أن يمثلوا، بل ودفع بهم إلى خشبة المسرح ليكونوا ممثلين مُراقَبين من قبل حشد من الجمهور. وقد أورد بوال في مقدمة سيرته الذاتية حكاية شيقة عن جماعة من الخادمات جهزن مسرحية تحت إشرافه، فعبرن لبوال عن سأمهن من تقديم المسرحية داخل فضاءاتهن الضيقة، كالشوارع الصغيرة، والمرائب ومقرات الجمعيات، ولقد أردن أن يقدمن المسرحية في مسرح حقيقي، فأجاب بوال سعيدا: ولم لا؟. وحقق لهن هذه الرغبة.
    وقد بكت إحدى الخادمات بكاء حارا بعد تقديم العمل المسرحي أمام جمهور غفير اقتنى تذاكر خصيصا ليشاهد المسرحية. فسألها بوال عن سبب بكائها فالمفروض أن تفرح لنجاح المسرحية الكبير، فكان جوابها : “أنا خادمة، على الخادمات أن يكن غير ملحوظات، هذه طبيعة عملنا. على الطعام أن يكون معدا، على الوجبات أن تكون جاهزة فوق الطاولة، على الأواني أن تكون نظيفة، على المنزل أن يكون مرتبا، على الأطفال أن يجهزوا للذهاب إلى المدرسة صباحا. من يفعل كل ذلك؟. لا أحد، الخادمة غير الملحوظة. إذا كنت أخدم أسيادي على العشاء وسمعتهم يناقشون موضوعا ما، لدي رأي بخصوصه، علي أن أصمت. إضافة إلى كوني غير ملحوظة، علي أن أكون صامتة، وصماء. (…) هذا المساء، حينما كنا نتدرب، جاءني رجل يخبرني عن المكان الذي يجب أن أقف أو أتحرك داخله، حتى تشملني الإضاءة ولأكون مرئية من قبل كل الجماهير. رجل آخر ثبَّت ميكرو صغير على فستاني حتى يصل صوتي إلى كل جزء في المسرح. لأول مرة في حياتي، هناك أشخاص منشغلون ليجعلوني مرئية، ومسموعة. في هذا المساء، لأجلها، كل أفراد الأسرة التي أعمل لديها كانوا هناك، يرون جسدي، ينصتون إلى صوتي، يكتشفون أفكاري، يعرفون مشاعري. لقد كانوا هناك مع الجمهور، كانوا صامتين… في الظلام. (…) لقد بكيت حينما دخلت إلى غرفة الملابس، ونظرت إلى نفسي في المرآة: لقد رأيت امرأة. لأول مرة في حياتي أراني امرأة في المرآة. (…) قبل ذلك، عندما كنت أنظر إلى المرآة، كنت أرى خادمة، هذه الليلة، رأيت امرأة. أنا امرأة.”6
    ويؤشر هذا على شخصية أوغوستو بوال الفذة، مخرج مسرحي بعيد عن التعالي، لا ينظر إلى الفنان بوصفه حالة استثنائية يجب أن تبجل وأن تؤخذ معها الصور. بل هو مهني يعمل مع الناس وبهم. كما أن الفن المسرحي ليس هبة نادرة وغامضة تمنح للبعض دون البعض، بل هي قدرة يمكن أن يكتسبها ويطورها جميع الناس. وبهذا أيضا يكون بوال يضع الصدق فوق الصنعة، فهو يعشق مشاهدة أشخاص يؤدون أدوارهم الحقيقية بصدق وكثيرا ما يضعهم مكان ممثلين محترفين يتقنون صنعتهم. فهذا، يقول بوال: “هو المسرح الذي أؤمن به: إنه المكان الذي نستطيع أن نقف فيه وأن نرى أنفسنا، لا أن نرى ما يخبرنا به الآخرون عن من نكون، ولا عن كيف ينبغي أن نكون. (…) المسرح هو المكان الذي يمكن أن ننظر فيه إلى أنفسنا ونقول: أنا رجل، أنا امرأة، أنا هو أنا.”7

    نظرية تعليم المقهورين..
    باولو فرايري ومسرح المقهورين
    توجه باولو فرايري إلى المقهورين لغاية تعليمهم، وقد أنتج نظرية عن بيداغوجية تعليم المقهورين ودفعهم نحو التطور. فالدرس وتجربته لابد أن يأتيا من قبل المقهورين والذين يتعاطفون معهم، ذلك أن النضال من أجل استعادة إنسانية المقهورين هو في واقعه امتلاك لناحية الكرم الحقيقي، فمن أفضل من المقهورين في معرفة حقيقة مجتمع الاضطهاد؟ ومن أكثر من المقهورين يعاني ويلات ذلك المجتمع؟ بل من أحق من المقهورين في فهم حاجتهم إلى تحقيق الحرية؟ بيد أن الحرية لا تتحقق بالصدفة، وإنما بالنضال المدرك لضرورة تجسيدها، وهو نضال أساسه الحب ويقف في كل الظروف نقيضا لشعور العنف والكراهية اللذين تعتمل بهما قلوب القاهرين.”8
    وقد اعترض باولو فرايري على ما سماه التعليم البنكي، وهو التعليم القائم على التلقين، حيث الأستاذ هو العليم والحائز على المعرفة والتلميذ هو الإناء الفارغ الذي ينتظر الامتلاء، حيث لا يحق له سوى الاستماع والحفظ، فالتلاميذ بهذا يتحولون إلى بنوك يودع الأستاذ فيها معلوماته. والعلاقة التي تنشأ بين الأستاذ وتلميذه في هذه الحالة هي علاقة التعالي والتراتبية، حيث الأستاذ في رتبة أعلى بكثير من التلميذ. وقد طرح فرايري مفهوم التعليم الحواري، القائم على الحوار بين الأستاذ والتلميذ، وعلى احترام التلميذ بوصفه ذاتا واعية تملك قدرات التحليل والمناقشة والرد والاعتراض. ويتميز هذا المنهج بكونه يفتح علاقة مختلفة بين الأستاذ وتلميذه قائمة على الإدراك المتبادل وعلى المساواة والاحترام، وعلى حق الاختلاف. كأن مادة التعلم تقع في الوسط بينهما، وهما معا يتناوبان على طرحها ومناقشتها وفهمها. كما تهتم هذه النظرية بطرح الإشكاليات ومناقشاتها وليس تلقين المعلومات والمعطيات.
    وقد شارك أوغوستو بوال في حملة سنة 1973 لمحو الأمية وتعرف حينها على بيداغوجية تعليم المقهورين. وقد استفاد من هذه النظرية من عدة نواحٍ، حيث إنه توجه بمسرحه إلى المقهورين دون غيرهم، ثم اقتبس مبدأ الحوارية بين الأستاذ والتلميذ، وهي حوارية أقامها بوال بين الممثل والمتفرج، بل جعل المتفرج يحل محل الممثل، ثم إن النتائج التي يريد أن يخلص إليها فرايري هي ذاتها في المجمل تلك التي يتوق بوال إلى تحقيقها. ولقد نُفي الرجلان معا خارج البرازيل بسبب ثورية أفكارهما ومنجزاتهما.

    الغاية من مسرح المقهورين
    يقول بوال: “إن المسرح بكل أشكاله بالضرورة سياسي، لأن جميع أنشطة الإنسان سياسية، والمسرح واحد من هذه الأنشطة. إن هؤلاء الذين يحاولون أن يفصلوا المسرح عن السياسة، إنما يحاولون أن يقودوننا إلى منطقة خاطئة، وهذا في حد ذاته موقف سياسي.”9
    وقد أصر بوال طوال حياته الفنية على الوجود في المكان الذي يكون فيه المسرح أكثر فائدة وأهمية في حياة الناس، حيث إنه كثيرا ما نأى بمسرحه بعيدا عن الصالات المسرحية الفخمة، مقتحما فضاءات الأزمنة، والأمكنة حيث يوجد المقهورون من الناس بوفرة، وحيث بإمكانه أن يعاين هموم الناس عن قرب وأن يقاربها مسرحيا. فجميع أشكال مسرح المقهورين التي اقترحها بوال تهدف بالأساس إلى الكشف عن القهر وفضحه ثم تدريب المقهورين على الخروج من قهرهم. حتى إن البنية وسيرورة وتطور كل شكل على حدة، تفضي جميعها إلى نفس الهدف، وهو التأثير في الجمهور وحثه على إيجاد مخرج من القهر الممارس عليه. إن ارتباط المسرح بالسياسة عند بوال أبعد من أن ننعت مسرحه بالسياسي فقط، إنه بعبارة أدق يمارس السياسة بالمسرح.

    الجوكر The Joker: ركيزة من ركائز مسرح المقهورين
    يعتبر الجوكر عنصرا أساسيا من عناصر مسرح المقهورين؛ فهو واجب الحضور في كل صيغ مسرح المقهورين، إنه المنظم الذي يحضر في كل مكونات الفرجة المسرحية. فهو ينتمي إلى النص المسرحي وإلى الإخراج، وهو عضو لصيق بالجمهور، يعمل معه ولصالحه. فهو شيء من الخشبة (في حال وجودها) وشيء من الصالة. يقول بوال: “اقترحنا الجوكر ليكون شكلا ثابتا من الدراماتورجيا ومن الإخراج. إنه الخيط الناظم الذي يربط كل التجارب والاكتشافات التي أنجزت في مسرح أرينا Arena Theatre، إنه ملخص كل ما فعلناه من قبل. (…) إنه خطوة كبيرة في تطور مسرحنا”10
    بداية الجوكر
    قرر بوال ذات مرة وفرقةَ Arena Theatre بسان باولو الثورة على النمط السائد من المسرح في البرازيل، وهو مسرح برجوازي تقليدي يستنسخ شبيهه من المسرح الغربي. وكانت فكرة بوال وزملائه هو اكتشاف مسرح جديد يتقاطع مع تقاليد المسرح الغربي وينبع من روح الحياة البرازيلية. فبرز ما سمي حينها بنظام الجوكر Joker System، وهو ترسانة من التقنيات التي تهدف إلى الثورة على الواقعية وذلك عن طريق استخدام الأقنعة وتوزيع الأدوار بطريقة مبتكرة حيث يلعب جميع الممثلين كل الأدوار. وهذا الشكل من المسرح تطلب وجود “فرد” ينظم ويسير ويقدم، وهو الجوكر. يقول بوال عن نظام الجوكر “إنه ليس إبداعا طارئا؛ إنه مأخوذ عن خصائص مجتمعنا الحالية، وتحديدا، عن الشعب البرازيلي. والأهداف المتوخاة منه ذات طبيعة جمالية واقتصادية في نفس الوقت.”11
    تعريف الجوكر
    يقول أدريان جاكسون Adrian Jackson في مقدمة كتاب “ألعاب للممثلين وغير الممثلين”: “إن تعريف الجوكر يواجه صعوبة أخرى، ففي الإنجليزية قد يستدعي إلى ذهننا صورة عدو باتمان Batman. إن كلمة “جوكر” تحيل إلى الجوكر الموجود في أوراق اللعب، وليس لها أي ارتباط بفكرة لعب الطرائف والنكات. فالجوكر هو، حسب سياقات متعددة ومختلفة، المخرج/ المدير، المُحكم، المُيسِّر، وقائد الورشة. وفي سياق مسرح المنتدى، فالجوكر هو الشخص الذي يلعب دور الوسيط بين الجمهور والمؤدين، وهو لا ينتمي إلى أي منهما، تماما مثل الجوكر في مجموعة أوراق اللعب، فهو بدون انتماء لأي منها ولكنه بالمقابل ينتمي إليها جميعا”12
    عن الحاجة إلى الجوكر
    يرى بوال أن الشخصيات المسرحية تنتمي إلى الحكايات أكثر من انتمائها إلى الجمهور في زمانه ومكانه، فالشخصيات المسرحية هي ابتكار محض من قبل المسرحي، وهي تبعا لذلك مرتبطة بالخشبة أكثر من ارتباطها بالصالة. لذلك كان لزاما ابتكار شخصية جديدة، شخصية تعلن انتماءها للجمهور وتحرص على مصلحته، فشخصية الجوكر ليست كشخصيات الحكايات، إنها تنتمي إلى واقع الجمهور، إنه معاصر وجارٌ للمتفرج. ويترتب عن هذا أن كل ما يصدر عن الجوكر من قول أو فعل ينتمي إلى الحياة الآنية للجمهور. وهكذا فإن الجمهور يرى عالمين: عالم الحكاية وهي ذات طبيعة مسرحية وعالم الجوكر الذي هو ذو طبيعة أقرب إلى الحياة منها إلى المسرح.
    وللجوكر في مسرح المقهورين صلاحيات واسعة جدا، حيث هو “الحكواتي الذي يتوجه بالحديث إلى الجمهور بشكل مباشر، يملك بطاقة بيضاء، يمكنه أن يدخل أو يخرج من أي دور داخل المسرحية وفي أي وقت. (…) لديه دور polyvalent مثل المخرج، أو قائد حفل كبير ceremonies، أو مقدم برنامج ما، exegete، إنه يمثل الكاتب الذي يعرف القصة، تطور الحبكة، وله الحق في الفعل أكثر من أي شخصية أخرى.”13
    يقول بوال “الجوكر هو واقع سحري، إنه هو من يخلق هذا الواقع. إذا كان ضروريا، فبإمكانه أن يبتكر جدرانًا سحرية، معاركَ وجنودًا وأسلحة. وعلى جميع الممثلين الآخرين أن يتبنوا الواقع السحري الذي يبتكره ويصفه الجوكر. حين يقاتل، فإنه يبتكر السلاح، وحين يمتطي فإنه يبتكر الحصان، ليقتل نفسه فإنه يؤمن أن بين يديه خنجرا دون أن يوجد في حقيقة الأمر.”14

    أشكال مسرح المقهورين
    هناك خمس صيغ لمسرح المقهورين وهي: مسرح الصورة Image Theatre، المسرح المتخفي أو اللامرئي Invisible Theatre، مسرح المنتدى Forum Theatre، ومسرح الجريدة Newspaper Theatre، والمسرح التشريعي Legislative Theatre.
    مسرح الصورة Image Theatre
    لقد تبين لأوغوستو بوال أن اللغة أحيانا تتحول إلى وسيلة لعدم التواصل وسوء الفهم، حيث إنه في واحدة من تجاربه اشتغل مع مجموعة من أفراد جاءوا من ثقافات مختلفة، من كولومبيا، المكسيك ومن دول أخرى من أمريكا اللاتينية. وتم الاتفاق على استخدام الإسبانية، لكن سرعان ما تبين أن الكلمات ذاتها تفضي أحيانا إلى الارتباك في التواصل واختلاط الفهم. لذلك، طلب بوال من أفراد المجموعة أن يخلقوا صورا، صورا للعائلة، صورا لرئيس كل فرد، صورة للذكريات، صورة للرغبات، صورة لبلد كل فرد. هذه الصور لا يمكنها أن تعوض الكلمات التي تعبر عنها، كما أن هذه الصور لا يمكن ترجمتها إلى كلمات، إنها في حد ذاتها لغة.
    يقول بوال “في البداية، أطلقت على هذه التقنيات البسيطة مسرح الحركة الثابتة Statue Theatre لأن جميع التقنيات كانت ثابتة static. لكن فيما بعد، استخدمت تقنيات جديدة حيث أضيفت الحركة، ثم الكلمات أيضا. لذلك، هذا النظام من التقنيات أصبح مسرح الصورة.”15 ويستغل بوال في هذا الصنف بلاغة الصور وقدرة اللغة الإيمائية على الإبلاغ، بالتفاعل مع الأشكال، شكل الفضاء، شكل الأجساد وكذا الألوان، وكل مادة في فضاء الاشتغال.
    وهناك صيغتان لتقديم فرجة مسرح الصورة:
    الصيغة الأولى : يقترح الجوكر The Joker أن يتطوع خمسة أفراد فما فوق من أجل تقديم صورة مرئية عن موضوع مختارٍ سلفًا. لكن كل فرد على حدة حتى لا يحدث التأثر والتأثير بين الأفراد. ثم يسأل الجوكر الجمهور الحاضر إن كانت لدى أي منهم صورة أخرى مختلفة عن الصور التي عرضت، ومن بروز أفراد الجمهور إلى فضاء اللعب وتقديم صورهم الخاصة تتولد فرجة مسرح الصورة.
    الصيغة الثانية : تصلح حينما يتعلق الأمر بالتعامل مع مجموعة صغيرة من الناس. حيث يتم تشكيل دائرة من أفراد المجموعة، ثم يتم اقتراح موضوع ما، ويشرع كل فرد في تقديم صورة صامتة وثابتة static image عن الموضوع المقترح، ثم يشرع كل فرد في تأمل الصورة التي يقدمها الأفراد الآخرون.
    وتتطور الصيغتان إلى أبعاد من الحركة والتوتر والنقاش مؤدية إلى خلق فرجة مسرحية تشاركية وذلك عن طريق عملية التطوير نحو الإثارة The dynamisation والتي يشرف عليها وينظمها الجوكر.

    المسرح المتخفي أو اللامرئي Invisible Theatre
    هو إشراك الناس في العرض المسرحي دون إشعارهم بذلك؛ فالجمهور يشارك بعفوية ودون أن يعرف أنه مشارك في فعل مسرحي، أو يتوقع أنه تحول إلى جمهور، لا قبل ولا أثناء ولا بعد انتهاء الحدث المسرحي. فالجمهور يظن أنه أمام حوادث واقعية، ويتصرف وفق ظنه هذا. ويحدُث المسرح المتخفي خارج قاعة المسرح وفي الأماكن العامة، كمحطة للقطار، مطعم… إلخ. على سبيل المثال: يدخل ممثل مطعم فندق فخم، حيث يوجد بشكل مسبق بعض الممثلين يتناولون طعامهم، فيطلب طعاما ثم يتذوقه فينادي على النادل ويشرع في التذمر من الطعام الرديء. ثم يأتيه النادل بوجبة ‘Barbecue à la pauper’ والتي تكلف 70 صول soles ولأن الثمن غالٍ فإن النادل يخبر الزبون (الممثل) بالثمن حتى يكون على بينة من أمره، ثم يأكل الممثل الوجبة اللذيذة والغالية، لكن في النهاية، يخبر النادل أنه ليس معه نقود، ألا يحق له أن يأكل طعاما فاخرا وهو الفقير، ثم يقول إنه سيدفع لكن بالعمل، حيث يقترح أن يعمل في الفندق مقابل مبلغ الوجبة، ثم يسأل الممثل عن أجر العامل في الفندق، فيرفض النادل الإفصاح عن الأجور، فيثار بهذا موضوع الأجور المنخفضة للعمال16. وهكذا يتدخل بعض الممثلين، ويحدث أن يتدخل الناس العاديون أيضا. وقد يتطور هذا الموقف البسيط نحو ألوان غريبة من التعقيد، وقد يكون تدخل الجمهور فعالا وقويا.
    ومن أمثلة المسرح المتخفي، ما تم تقديمه سنة 1986 على قناة ريو التلفزية، حيث يقف رجل أسود في السوق عارضا نفسه للبيع بوصفه عبدا، لأنه يرى أنه يكسب أقل بكثير مما كان يكسبه العبد في القرن التاسع عشر، وأن حياة العبد كانت أفضل من حياته، لذلك فهو يفضل أن يكون عبدا على أن يكون عاملا17.

    مسرح المنتدى
    Forum Theatre

    يقول بوال في تعريف مسرح المنتدى: “إن مسرح المنتدى هو شكل من أشكال المعارك التنافسية أو الألعاب، وكما للمعارك وللألعاب قواعد، فلمسرح المنتدى أيضا قواعد يمكن تعديلها لكن لا يمكن إلغاؤها، وذلك من أجل الحرص على أن جميع المشاركين/اللاعبين منخرطون بنفس الطاقة والحماس.”18، فمسرح المنتدى هو لعبة فنية يتشارك في صناعتها كل من الممثل والمتفرج-الممثل spect-actor؛ حيث يتم تقديم المسرحية بالطريقة المعتادة، ثم في مرحلة من العرض يتم طرح سؤال على الجمهور وأخذ رأيه في مسار الحدث، وعادة ما يكون الجواب، هو أن الأمور لا ينبغي أن تكون هكذا. فيتم إعادة لعب المسرحية بنفس الطريقة وسوقها نحو نفس النهاية، لكن يُطلب من الجمهور أن يقاطع الحدث المسرحي وأن يقترح نهاية أخرى أو حلولا أخرى للموقف المجسد في فضاء اللعب، ويطلب من المتفرج-الممثل أن ينطق كلمة “توقف” “Stop” حينما لا يتفق مع ما يحدث قبالته، حيث على الممثلين لحظتها أن يتوقفوا في أمكنتهم وأن ينتظروا تدخل المتفرج-الممثل، الذي بدوره ينخرط في اللعب المسرحي ويعوض أحد الممثلين، هذا الممثل الذي لا ينبغي له أن ينسحب من اللعب، بل عليه أن يظهر استعداده لتقديم المساعدة للمتفرج-الممثل في حالة كان في حاجة إليها. يقول بوال “بعبارات أخرى، يتبنى الممثلون رؤية محددة عن العالم وبالنتيجة سوف يحاولون أن يتشبثوا بفكرة أن العالم هو هكذا وأن يؤكدوا أن الأمور تسير على هذا النحو… إلى أن -وعلى الأقل- يتدخل المتفرج-الممثل ويغير الرؤية من فكرة تقديم العالم كما هو إلى فكرة تقديم العالم كما يمكن أن يكون.”19 لكن على الممثلين أن يجعلوا الأمر صعبا على المتفرج-الممثل حتى يعرف أن تغيير الوقائع في ميدان الحياة ليس بالأمر اليسير.
    وعن الغاية من هذا المسرح يقول بوال: “ليس الهدف من مسرح المنتدى هو الفوز، ولكن لنتعلم ولنتدرب. عن طريق لعب أفكارهم الخاصة، يتدرب المتفرجون-الممثلون spect-actors على الفعل في الحياة الحقيقية. إن الممثلين والجمهور على حد سواء يكتشفون، عن طريق اللعب، النتائج الممكنة لأفعالهم، إنهم يتعرفون على دوافع القاهرين the oppressors ليختبروا الخطط والاستراتيجيات الممكنة للمقهورين the oppressed.”20 فمسرح المنتدى بمثابة “التدريب الذي يسبق الفعل الحقيقي في الحياة”21 إنه بصيغة أخرى تمرين المقهورين على فك قهرهم وعلى الثورة ضد قاهريهم.
    إن المسرحية في مسرح المنتدى ليست بالضرورة عملا مسرحيا معدا سلفًا، حيث إنه من الممكن أن يبدأ العرض المسرحي بطرح سؤال على الجمهور حول مشاكلهم وأولوياتهم، ثم ينبغي بعد ذلك الانصياع مسرحيا لهذه الأولويات. هناك سؤال أو موضوع يجب أن يطرح دائما وبدقة في بداية المسرحية، غالبا ينبغي أن ينبع السؤال من الجمهور ذاته.
    ولعل واحدة من أهم ميزات مسرح المنتدى هي عدم القدرة على توقع رد فعل الجمهور، الذي يرفض أوغوستو أن يكون مختارا، فقد حدث أن عرض على بوال من قبل منتج أن يتم تقديم مسرح المنتدى على قناة تلفزية، لكن المنتج اشترط أن يكون الجمهور منتقى وبالتالي متحكما به وبردود فعله، فكان جواب بوال: “إن هذا ليس مسرح منتدى”، وقد اقترح بوال الخروج إلى الشارع لغاية تصوير حلقات مسرح المنتدى، لكن المنتج والمسؤولين عن القناة رفضوا ذلك رفضا نهائيا، لأنه لا يمكن معرفة ردود فعل الجمهور أو التحكم بها، فهم يريدون أن ينتجوا حلقات تحكي عن الماضي بينما كان بوال يريد أن يتحدث عن المستقبل.22
    فشرط الراهنية يعد أساسيا في مسرح المنتدى، حيث إن غاية القناة كانت هي أرشفة هذا المسرح وتقديم أمثلة عنه للمشاهدين، أمثلة يمكن العودة إليها بوصفها نموذجا معدا بعناية، وبهذا يفقد مسرح المنتدى راهنيته وعفويته وصدقه، ويتحول إلى نموذج كاذب ومصطنع وغير متصل بحياة الناس الآنية.
    ومن أمثلة مسرح المنتدى ما حكاه بوال عن تجربة استثنائية23 حدثت سنة 1977 في صقلية بإيطاليا، حينما كان هو وفريقه يستهدفون الفلاحين الذين يعملون في أراض لا يملكونها مقابل حصة صغيرة من المنتجات، وكان بقصة المسرحية عمدة مدينة ڭودرانو Godrano حيث يتم تقديمه بوصفه واحدا من أعظم القاهرين للفقراء. لكن أثناء تقديم المسرحية وبدل أن ينضم إلى الحدث المسرحي مواطنون مقهورون كما هي العادة في مسرح المنتدى، ظهر العمدة ذاته وقرر الدخول في اللعبة المسرحية ليدافع عن نفسه. كان يعرف جيدا ما يفعل وما يقول، لكنه لم يقنع الفلاحين بنزاهته في الحياة العادية، ولقد خسر في الانتخابات القادمة. وكان كما يقول بوال من غير الممكن إقناع العمدة بحقيقة كونه يقف في صف القاهرين، كما لم يكن ممكنا حثه على التغير. لكن ديموقراطية مسرح المنتدى تعطيه الحق في أخذ الكلمة وفي الدفاع عن نفسه.
    ولقد عرف مسرح المنتدى شهرة كبيرة وانتشر في مختلف مناطق العالم. يقول بوال: ” لربما إن مسرح المنتدى هو أكثر أشكال مسرح المقهورين ديموقراطية، وبالتأكيد هو الأكثر شهرة والأكثر ممارسة في كل العالم”24

    مسرح الجريدة Newspaper Theatre
    لقد طور أوغوستو بوال هذه الصيغة حينما كان يعمل مديرًا فنيًا لفرقة Nucleus
    Group of the Arena Theatre of São Paulo وذلك سنة 1970 قبل أن يتم نفيه خارج البرازيل. ويتشكل مسرح الجريدة من “مجموعة من التقنيات البسيطة التي تساعد على تحويل المواد الإخبارية اليومية، أو أي مواد أخرى ذات الطبيعة غير الدرامية إلى فرجات مسرحية”25
    ويتم نزع الخبر من سياقه أو تعريته من الزخرفات الرسمية، وعرضه بطريقة جديدة، تتضمن رؤية موضوعية للوقائع والأحداث. كما يمكن أن يقرأ الخبر على إيقاع موسيقى مفارقة على سبيل السخرية. وقد يتم قراءة الخبر في جهة وفي ذات الوقت لعبه بالحركات في جهة أخرى، ولكن بأسلوب مفارق وساخر، حيث قد يتم لعب أشياء مناقضة لما جاء في الخبر على سبيل الفضح والسخرية. كما أن هناك عدة صيغ أخرى فنية لقراءة الخبر أو للعبه والسخرية منه.

    المسرح التشريعي Legislative Theatre
    في سنة 1992 قرر بوال ومعه مركز مسرح المقهورين بالبرازيل تقديم الدعم لحزب العمال لتحقيق الغاية الكبرى وهي غاية تغيير البلاد. غير أن الحزب اشترط ترشيح واحد من المركز للمجلس التشريعي في منصب المُشَرِّع vereador (legislator)، وكان أن وقع الاختيار على أوغوستو بوال الذي رفض في البداية، ثم وافق على الترشح على اعتبار أن فوزه مستحيل، لأن عدد المرشحين 1200 مرشح لـ42 مقعد فقط26، لذلك وافق بوال لغاية المشاركة في الحملة الانتخابية مسرحيا وليس لغاية الفوز. فبدأ المركز بمسرحة الحملة الانتخابية، في الساحات وفي الشوارع وفي كل الأماكن المتاحة وكل يوم كان يقدم عروضا هنا وهناك مع استغلال قدرات مسرح المنتدى على الإقناع، كل يوم كان يتم تقديم أغنية جديدة، وتضاف قصة جديدة. وكانت المفاجأة، لقد فاز بوال بالمنصب. وقد ساهمت حملة المركز الممسرحة في فضح رئيس الجمهورية وإظهار تجبره وظلمه، وبالنهاية في الإطاحة به، وساهمت الحملة في أن يكون عمدة مدينة Rio de Janeiro من حزب العمال.
    ويعد المسرح التشريعي مثالا بارزا على هذا التلاقي القوي والفعال بين المسرح والسياسة، وعلى قدرة المسرح الذي ابتكره بوال على الانخراط في الوقائع الآنية للناس، وعلى قدرته على الانغماس في بيئتهم وتمكينهم من المشاركة الفعالة، إن مسرح بوال هو مسرح تغيير. فالمسرح التشريعي هو “جعل المسرح في مركز الفعل السياسي -مركز اتخاذ القرارات- وذلك بممارسة المسرح بوصفه سياسة أكثر من ممارسة المسرح السياسي، ففي الحالة الأخيرة، يكتفي المسرح بالتعليق على السياسة، بينما في المسرح التشريعي، المسرح نفسه أحد الطرق التي يشتغل بها النشاط السياسي”27
    وهكذا، فإن الصيغ الخمسة للمسرح التي اقترحها أوغوستو بوال تضطلع بمهمة الانخراط الجدي والفاعل في حياة الناس الآنية، ومحاولة خلق الفارق بواسطة المسرح، كل ذلك عن طريق المشاركة الفعالة للناس/الجمهور.
    وكما هو ملاحظ، فإن جمهور المسرح عند بوال لا يخضع لذات النواميس والتقاليد التي يخضع لها جمهور المسرح التقليدي؛ فهو لا يقتني تذكرة ولا يكون مضطرا لدخول قاعة المسرح، ولا لارتداء ملابس رسمية أو التصرف وفق نموذج مسبق للتفرج، وليس عليه أيضا أن يراقب الممثل في تأدب من صالة مظلمة بعيدة عن الممثل. بل إن مسرح بوال جاء ليثور على هذا الشكل من المسرح؛ فجمهور مسرح بوال هو جمهور أحيانا بالمصادفة ودون أن يدري أنه يلعب دور الجمهور كما هو الحال في المسرح المتخفي، وفي أشكال المسارح الأخرى التي يقترحها بوال فإن الجمهور يتصرف كما لو كان في مقهى حيِّه، يرتدي ملابسه المعتادة ويمكنه أن يعترض وأن يعلق، بل وأن يمثل أيضا، مُقترِحًا تعديل نص المسرحية نحو آفاق أخرى.

    انتشار مسرح المقهورين في العالم
    لقد انتشر منهج مسرح المقهورين في مختلف بقاع العالم؛ في أوروبا وأمريكا والهند والعالم العربي ومناطق أخرى. حيث يمكن رصد عدد هام من التجارب ذائعة الصيت والمؤثرة بشكل مباشر وواضح على محيطها. ونذكر تجربة الفرقة الفرنسية “لن نفقد الأمل” والواضح من التسمية أنها فرقة ذات طابع توعوي وتربوي وتحفيزي، وقد أنجزت الفرقة مسرحية “المغفلون” التي تتناول موضوع الإرهاق النفسي الذي يواجهه موظفو الشركة الفرنسية للاتصالات France télécom، المهددون بالتسريح من العمل، حيث إنه كان من المحتمل طرد حوالي 400 عامل سنة 2008. وقد استهدفت الفرقة عمال هذه الشركة المعنيين بالطرد. وانقسمت المسرحية إلى جزأين كما هو مسرح بوال عادة؛ في البداية الكلمة للممثلين الذين يطرحون الموضوع من كل جوانبه ويناقشون الضغوطات الهائلة التي تمارس على العمال لتقديم استقالتهم، ثم بعد ذلك يأتي دور العمال ليمثلوا نظرتهم الخاصة للموضوع، بتنظيم من قبل شخصية الجوكر وبتنسيق مع الممثلين. وكانت جل تدخلات العمال تصبو إلى عدم تقديم الاستقالة والحفاظ على العمل. وقد تدرب العمال بهذه المسرحية على احتمالات طردهم وحججها الكثيرة، وتدربوا على سبل مواجهة هذه الحجج والحفاظ على عملهم وبالتالي على استقرار حياتهم.
    وهناك تجارب عدة في العالم العربي نذكر منها تجربة مسرح عشتار في فلسطين، تجربة الفنانة المسرحية نورا أمين في مصر قبل أن تهاجر من بلدها، ثم تجربة مسرح الأكواريوم والمسرح المحكور بالمغرب الذي سنقدم لمحة صغيرة عنه في هذه الدراسة، وقد تأسست فرقة “مسرح المحگور” في سياق حركة فبراير سنة 2012 بمدينة الدار البيضاء؛ وذلك بتضافر مجهودات مجموعة من الشباب على رأسهم حسني المخلص. وتهدف هذه الفرقة إلى الإسهام في النضال عن طريق المسرح والذي بدأ مع حركة 20 فبراير. وتستلهم “مسرح المقهورين” لأوغوستو بوال؛ حيث إن الجمهور ذاته يتحول إلى ممثل في مرحلة من مراحل العرض المسرحي، وحيث تعطى الكلمة للمتفرج ليدلي برأيه في مجريات العرض المسرحي، والقضايا التي يطرحها.
    ومن بين القضايا التي اشتغلت عليها فرقة “مسرح المحگور” قضية الرشوة؛ حيث قامت بجولة في مختلف المدن المغربية بمسرحيتها المسماة «استعجال الكلام» والتي أُنجزت بتعاون مع منظمة «ترانسبارنسي العالمية لمحاربة الرشوة». في هذه المسرحية وكما مسرح المقهورين وبالضبط شكل مسرح المنتدى، فإن الفرقة تتيح في مرحلة من مراحل العرض المسرحي الفرصة لتدخل الجمهور، ليس ليقول رأيه فقط بل ليعبر عن طريق التمثيل أو اقتراح وضعيات أخرى على الممثلين عن رأيه بشأن الرشوة وتجلياتها الكثيرة.
    وقد اشتغلت الفرقة على الكثير من المواضيع التي تجسد وضعية قاهر قوي مستبد، ومقهور مستكين ومستسلم؛ من قبيل العمل المسرحي “داها وداها” هذه العبارة التي يُتغنى بها في الأعراس المغربية والتي تحولت في العمل المسرحي إلى ترميز لملكية الرجل للمرأة في العلاقة الزوجية، وبالمجمل فإن العمل المسرحي يقارب القهر الممارس على الزوجة من قبل الزوج، وأيضا القهر الأكبر الممارس على المرأة من عموم المجتمع. ومن الناحية الفنية فإن العمل ارتكزت كتابة نصه على جلسات مكثفة مع نساء من حي سيدي مومن بالدار البيضاء، استمرت لثلاثة أسابيع.
    ومن أعمال الفرقة أيضا العمل المسرحي المسمى “بحال بحال” وهو يتناول موضوع المهاجرين الأفارقة في المغرب والقهر الممارس عليهم من مختلف الجهات. وقد تم منع العرض المسرحي من قبل السلطات لعدة مرات، لأنه يقدم صورة مختلفة عن تلك التي يسوِّقها النظام المغربي رسميا عن المغرب في بعده الإفريقي، وعن المغرب بوصفه وطنا ثانيا للمغاربة، يحتضن همومهم ويساند طموحهم.
    وقد اعتمدت الفرقة غير ما مرة في مشاريعها على إشراك الجمهور ليس أثناء العرض المسرحي فقط، بل في مرحلة إعداد النص المسرحي، من قبيل تجربة “داها وداها” أو حتى في مرحلة إيجاد فكرة العمل المسرحي ذاته، حيث تتوجه الفرقة للجمهور وتعرف احتياجاته والمواضيع التي تهمه ثم تمسرحها. ومن الناحية التقنية فإن الفرقة اعتمدت تقنية “الجوكر” التي تعد ركيزة من ركائز مسرح المقهورين؛ غير أن الفرقة عدلتها لتلائم المغرب وأوضاعه، حيث مزجت بين “الجوكر” كما نظر له أوغوستو بوال وشخصية “الحلايقي” في فرجة الحلقة الشعبية المغربية. ومن خصائص الحلايقي التي اقتبستها الفرقة هي تلك البداية وذلك التقديم الكوميدي الذي يبتدئ به الحلايقي حلقته للف الناس حوله، وقد اقتبست الفرقة هذه التقنية لأنها تقدم أغلب أعمالها المسرحية في الشارع، وتحتاج إلى تلك الشرارة الحارة التي تستطيع جلب الناس وإقناعهم بمشاهدة العمل المسرحي. تقنية التقديم هذه نراها أيضا عند الجوكر في مسرح المقهورين، حيث دائما ما يكون هناك تقديم لا يشترط أن يكون كوميديا، حيث يهتم غالبا بموضوع المسرحية وبثنائي القاهر والمقهور.

    خاتمة
    لقد اصطبغ مسرح المقهورين بطبيعة المنطقة التي يحل بها؛ فقد كان بوال طوال حياته مهتما بتلقين الآخرين مسرحه أكثر من إخراج مسرحيات جديدة. إذ إن بوال أطر في مختلف مناطق العالم العديد من ورشات مسرح المقهورين، ومسرح المنتدى على وجه التحديد، إذ إن الأشكال الأخرى تُهمل عادة من قبل الفرق المسرحية. فبوال ذاته يعترف بمركزية مسرح المنتدى في نظريته عموما،
    نعتبر مسرح المقهورين إضافة حقيقية للمسرح في العالم، إذ جاء بعد ثورات مسرحية تهتم بخلق علاقة جديدة مع جمهورها، غير تقليدية في الغالب، فقد قلص جيزري جروتوفسكي من عدد جمهوره، ولعب بحيز التفرج، وطالب بريشت جمهوره أن لا ينغمس في وهم الأحداث وأن يفكر ويفعل، لكن بوال طالب الجمهور باللعب والتمثيل رفقة الممثلين، إنه هو الوحيد الذي أعطى فعليا الكلمة للجمهور، ومن هنا شهرة وانتشار نظريته. ويبقى أن النماذج المقدمة في هذه الدراسة قليلة جدا، نتمنى أن تسنح لنا فرصة التطرق إلى تجارب أخرى، والنظر إلى كيفية تبييئها مع فضاءاتها الثقافية الجديدة، وفحص تفاعل الجمهور الجديد مع مسرح أوغوستو بوال.
    1. Augusto Boal, Hamlet and the Baker’s Son My Life In Theatre and Politics,Translated by Adrian Jackson and Candida Blaker, Routledge, 2001, p xiii.
    2. أوجستو بوال، قوس قزح الرغبة منهج أوجستو بوال في المسرح والعلاج، تر : نورا أمين، ص 1، 2019، الهيئة العربية للمسرح، الإمارات، ص30.
    3. Augusto Boal, LEGISLATIVE THEATRE Using performance to make politics, TRANSLATED BY ADRIAN JACKSON, Routledge, p15.
    4. Augusto Boal, Theatre of the oppressed, Translated from Spanish by Charles A. and Maria-Odilia Leal McBride and Emily Fryer, Pluto Press , 2008, p xxi
    5. Augusto Boal ,Games for actors and non-actors, Translated by Adrian Jackson, Routledge, Second edition, 2005, p 17.

    6. Augusto Boal, Hamlet and the Baker’s Son My Life In Theatre and Politics,Translated by Adrian Jackson and Candida Blaker, Routledge, 2001, p x.
    7. Ibid, p x.
    8. باولو فرايري، تعليم المقهورين، ترجمة : يوسف نور عوض، دار القلم، بيروت، ص 28.
    9. Augusto Boal, Theatre of the oppressed, p xxiii.
    10. Ibid, p 150.
    11. Ibid, p 151
    12. Augusto Boal ,Games for actors and non-actors, p x x v i
    13. Mady Schutzman, JOK(ER)ING Joker runs wild, A Boal Companion dialogues on theatre and cultural politics, Edited by Jan Cohen-Cruz and Mady Schutzman, Routledge, 2006, p 133.
    14. Augusto Boal, Theatre of the oppressed, Translated from Spanish by Charles A. and Maria-Odilia Leal McBride and Emily Fryer, Pluto Press , 2008, p 159.
    15. Augusto Boal, GAMES FOR ACTORS AND NON-ACTORS, p 175.
    16.
    17. Playing Boal : theatre, therapy, activism, edited by Mady Schutzman and Jan Cohen-Cruz, Routledge, 2002, p21.
    18. Augusto Boal ,GAMES FOR ACTORS AND NON-ACTORS, p242.
    19. Augusto Boal, Theatre of the oppressed, p 123- 124.
    20. Augusto Boal ,GAMES FOR ACTORS AND NON-ACTORS, p 244.
    21. Augusto Boal, The Aesthetics of the Oppressed, Translated by Adrian Jackson, Routledge, 2006, p 6.
    22. Playing Boal : theatre, therapy, activism, P 22.
    23. Augusto Boal, The Aesthetics of the Oppressed, p 103.
    24. Ibid, p 6.
    25. Augusto Boal, Theatre of the oppressed, p 121.
    26. Augusto Boal, LEGISLATIVE THEATRE Using performance to make politics, p 10.
    27. Ibid, P 16.

    مراجع الدراسة
    المراجع باللغة العربية
    أوجستو بوال، قوس قزح الرغبة منهج أوجستو بوال في المسرح والعلاج، تر : نورا أمين، ص 1، 2019، الهيئة العربية للمسرح، الإمارات،
    باولو فرايري، تعليم المقهورين، ترجمة : يوسف نور عوض، دار القلم، بيروت،
    المراجع باللغة الإنجليزية
    Augusto Boal, Hamlet and the Baker’s Son My Life In Theatre and Politics,Translated by Adrian Jackson and Candida Blaker, Routledge, 2001,
    Augusto Boal, LEGISLATIVE THEATRE Using performance to make politics, TRANSLATED BY ADRIAN JACKSON, Routledge,
    Augusto Boal, Theatre of the oppressed, Translated from Spanish by Charles A. and Maria-Odilia Leal McBride and Emily Fryer, Pluto Press , 2008,
    Augusto Boal ,Games for actors and non-actors, Translated by Adrian Jackson, Routledge, Second edition, 2005,
    Augusto Boal, Hamlet and the Baker’s Son My Life In Theatre and Politics,Translated by Adrian Jackson and Candida Blaker, Routledge, 2001,
    Augusto Boal, The Aesthetics of the Oppressed, Translated by Adrian Jackson, Routledge, 2006, p 6.
    Mady Schutzman, JOK(ER)ING Joker runs wild, A Boal Companion dialogues on theatre and cultural politics, Edited by Jan Cohen-Cruz and Mady Schutzman, Routledge, 2006,
    Playing Boal : theatre, therapy, activism, edited by Mady Schutzman and Jan Cohen-Cruz, Routledge, 2002, p 21.


    أحمد السبياع

يعمل...
X