محمود شبر لـ"العرب": لا قيمة جمالية للوحة ما لم تكن لها قيمة فكرية
عنترة يسافر عبر الزمن في لوحات تتمرد على المألوف.
الأربعاء 2025/07/09
ShareWhatsAppTwitterFacebook

كل لوحة خطاب وحكاية
محمود شبر ليس مجرد فنان تشكيلي يعيد إنتاج الجمال كما هو، بل هو صانع رؤى، يبعث الحياة في المساحات، ويحرر اللون من أسر السكون. "العرب" التقت الفنان التشكيلي العراقي، في حديث حول كيفية التحرر من أسر الأسلوبية التقليدية التي خلص إليها ليخلق بصمته الخاصة به في المشهد التشكيلي المعاصر وأهم التحديات التي واجهها في ذلك.
منذ خطواته الأولى في معهد الفنون الجميلة ببغداد، كان القلق رفيقا دائما للفنان التشكيلي محمود شبر، يلحّ عليه بسؤال الهوية والأسلوب، ذاك السؤال الذي لا يجاب عنه إلا بالمجازفة والاحتراق في أتون التجريب، بحثا عن بصمته الخاصة التي مثلت تحديا وجوديا، لا مجرد مسألة تقنية.
لم يذعن لسطوة الأسماء اللامعة التي سبقته، ولم يركن إلى مهاد التقليد، بل اختار دربا وعرا، لا يقبل السكون ولا يأبه بالمألوف. رأى أن الأسلوب ليس قيدا، بل طيفٌ من الروح يتلبّس العمل، وبهذا الفهم المختلف، استطاع التحرر من تكرار الذات، ليخلق بصمة لا تتبع نسقا محددا، وإنما تحمل مرونة الانتقال، وجرأة المواجهة، حتى أضحى اسمه علامة فارقة في المشهد التشكيلي المعاصر.
لم تكن لوحاته مجرد مشاهد بصرية، بل خطابات مشفرة، تفيض برموز تستعصي على القراءة العجلى، محملة بدوال ومدلولات تسائل المتلقي قبل أن تمنحه إجابات. التقط شبر حكايات لم تكتب بعد، ومنحها وجوها بصرية تخلّدها خارج حدود الزمان والمكان. ولأنه يؤمن أن الفن ليس فعل استنساخ بل فعل تفكيك وإعادة تركيب، جاءت أعماله لتكسر السياقات المألوفة، وتعيد قراءة التاريخ بألوان غير تقليدية، كما فعل في استدعائه للثورة الحسينية، حيث غاص في أبعادها الإنسانية متحررا من ثقل الأطر الجاهزة، ليعيد تشكيلها وفق رؤية معاصرة، تحاكي جوهر القضية لا قشورها.
يقر محمود شبر في حديثه لـ”العرب” أن “الأسلوب هو الذي يميز بين المبدع والحرفي، وهو أحد ركائز الابتكار التي يستند إليها المبدع في تحقيق ذاته، وهو مركز ‘الأنا‘ للفنان، ودونه لا يمكن أن يكون للفنان أثر أو شيء يذكر. ويمكننا أن نستدل على أهمية هذا الموضوع، الذي يكون في الغالب الأعم الشغل الشاغل للمشتغلين في ميدان الفنون الجميلة، وقد يحتاج وقتا طويلا للاستدلال عليه أو الوصول إليه.”
البحث عن أثر
محمود شبر: الفن ليس كيف ترسم، وإن كان هذا ضروريا، بل الفن هو كيف تفكر، وهذا أجده أكثر ضرورة وأهمية
يقول الفنان “بالنسبة إليّ، ومنذ بداياتي في احتراف فن الرسم، وقتها كنت طالبا في معهد الفنون الجميلة ببغداد (1980 – 1985)، كان ينتابني قلق وشعور متعب بهذا المعنى، الذي لم أكن أدري كيف يمكن أن يتطوّر معي. صرت أبحث من خلال زياراتي المنتظمة لكل المعارض التي تقام في بغداد، سواء كانت جماعية أو فردية، وأطّلع على تجارب الفنانين الذين سبقوني في عالم التشكيل، محاولا استقصاء وتتبع آليات اشتغالاتهم وتفكيكها، للتقرب من وجهات نظرهم المطروحة في أعمالهم. وفي كل مرة، كنت أرى أنني فشلت في فهم ما يريدون طرحه في تلك الأعمال أو تلك المعارض، ربما لأنني لم أر ما يشي بأنه حقيقي أو صادق، كذلك اعتقادي بأن ما شاهدته لم يكن سوى تكرار أو إعادة تدوير لتجارب سبقت تجارب تلك الأسماء اللامعة وقتها، في ثمانينات القرن الماضي”.
ويتابع “أتذكر أنّ أحد أساتذتي في معهد الفنون قال لي: ‘محمود، عليك أن ترسم لوحة، إذا رأيتها بين مئة عمل، أقول إنها لك‘. وبقيت وصيته عالقة في ذهني، أتذكرها كلما أمسكت بفرشاتي لأرسم. وهكذا، رأيت أن القضية ليست بهذه السهولة، وأنها غير متاحة للجميع، لأنها تحتاج إلى وعي كبير وثقافة بصرية أعمق، كما تحتاج إلى صدق وثبات على الإذعان لما تمليه ذات الفنان عليه.”
وهكذا، أصبحت له قناعاته الخاصة والمغايرة لما يخص مفهوم “الأسلوب”، الذي ظل راكدا دون تغيرات داخل الوسط التشكيلي العراقي، وهو المفهوم المشابه إلى حدّ كبير بوصية أستاذه الذي أراد أن يعرف عمله من بين مجموعة أعمال داخل قاعة واحدة. وهذا الفهم نفسه، أصبح بمثابة “الفخ” الذي وقع فيه الكثير من الأسماء (المهمة)، حيث صار نتاجهم مكررا، خوفا من مخالفة النسق الذي يسيرون عليه، وهذه قضية خطرة بالنسبة إلى المبدع، الذي يجب عليه ألا يكرر نفسه.
ويتابع شبر “صرت أرى أن الأسلوب يكمن في ‘الروح‘، عكس أولئك الذين يعتقدون أن مصدره ‘العقل‘. وهذا في حد ذاته يجعل لي حضورا مختلفا عن حضور الآخرين. كذلك، صرت أرى أن القوة تكمن في مدى تأثيرك على الآخرين، لا تأثرك بهم، ما أعطاني حرية أكبر في التفكير، ورشاقة في التنقل من منطقة إلى أخرى دون تردد أو حذر من انتقادات قد يوجهها البعض من المعتقدين بوجوب قولبة الخطاب البصري تحت ذريعة الأسلوب. لهذا، كانت انتقالاتي حرة ومرنة عبر جميع المعارض الشخصية التي أقمتها في أماكن مختلفة. وأصبح مفهوم الأسلوب لدي مختلفا، ولم يعد يمثل عائقا في الإنجاز مثلما كان في بداياتي.”
ويكمل “إن الفنون المعاصرة لها إملاءاتها المغايرة في ما يخص الأسلوب، وأصبح للفكرة حضور فاعل.”
تكثيف هذه العلاقات السيميائية داخل السطح التصويري مهم لإنتاج لوحة تثير التساؤل لدى المتلقي، وتدفعه للتوقف عندها
تتميز أعماله بكثافة الرموز والشفرات البصرية، تسأله “العرب” كيف يوظف هذه العناصر في بناء سردية بصرية تتجاوز حدود الزمان والمكان، ليجيبنا “يعتبر الخطاب البصري المعاصر خطاب ‘علامة‘، وخطاب ‘دال ومدلول‘، وبالنسبة إليّ، أرى أن تكثيف هذه العلاقات السيميائية داخل السطح التصويري مهم لإنتاج لوحة تثير التساؤل لدى المتلقي، وتدفعه إلى التوقف وإعادة النظر فيها، لسبر أغوارها وفك رموزها التي أرادها الفنان.”
ويلفت إلى أن حيث اللوحة لا تمثل عنده قيمة جمالية ما لم تكن لها قيمة فكرية. إن تطور الفكر الجمالي، والنظرة إلى الرسم بشكل عام، من خلال الطروحات الفلسفية التي رافقت الأعمال الفنية منذ الإغريق صعودا، جعل فن الرسم عالما آخر، لا يمت بصلة إلى ما كان عليه في البدايات.
ويشدد على أن الدعوة إلى “ضرب المركز” و”موت المؤلف” كانت لها تداعيات بالغة الأثر على النتاج الفني العالمي بالمجمل. وليس خفيا أن هذا الذي جاء به نيتشه كان امتدادا لما قال به سوسير، حول العلاقة الاعتباطية بين الدوال، وحركة قطعة “الفرس” في رقعة الشطرنج.
ويكمل “يبدو أن كل هذا، وما سبقه وما تلاه، انعكس بشكل مباشر وكبير على فن الرسم، وعلى فهم إنتاج اللوحة. كثيرا ما تدهشني تلك الكتابات التي أراها على جدران مدينتي، وأنا أتجول في أزقتها، أراها جزءا من رسم لم يكتمل، وخطابا لم يقل بعد. فالرسوم، والذكريات، وكلمات الحب، وأرقام العقارات للبيوت، وتداخل بعضها ببعض، يخلق بعدا زمانيا يمكن الاستفادة منه، من خلال توظيفه لاختراع عالم مفارق يضج بجمال مختلف. وهذا ما دفعني إلى المداخلة بين مفردات مكتوبة وأخرى مرسومة، للوصول إلى لوحة تشبه في بنائها روحي المزدحمة بالعاطفة، ورأسي المزدحم بالأفكار.”
ويتابع “هذه اللوحة تحمل في كل هذا مقدارا عاليا من الصدق، يقارب لحظة وقوفي أمام مرآة الحقيقة، التي لا تكون بها رتوش. فما قيمة رسم شجرة كما هي، وأنا أعلم أن أفلاطون قال: ‘إن هذه الشجرة ليست هي تلك التي رسمتها أنت، بل هي مثال أو تمظهر لشجرة أخرى غير تلك التي أمامك، بل هي في عالم آخر، (عالم المثل)‘”.
التجريب الحصن المنيع

عن كيفية مزج أعماله بين الموروث الشعبي والتقنيات المعاصرة، وتوازنها بين هذين العنصرين دون أن تفقد لوحاته أصالتها أو حداثتها. يقول شبر “أسعى لأن تكون اللوحة غير خاضعة للبعد الزمني الذي يفرض قيودا على بناء ‘ميزان س‘ ضمن سردية لا يجوز القفز عليها أو تجاوزها. وهذا يتطلب إدراكا عميقا لمرجعيات الموروث وقصصه ووقائعه، إلى جانب فهم لآليات إنتاج اللوحة في لحظاتها الثلاث التي افترضتها وحددتها: اللحظة القبلية، وفترة الإنجاز، واللحظة البعدية، ومن ثم التواؤم مع روح المعاصرة، أي الزمن الذي نعيش فيه أثناء الرسم.”
والسؤال هنا وفق الفنان العراقي: ما الضوابط التي جاءت بها المعاصرة؟ هل هي مشابهة لتلك المعايير والضوابط الجمالية التي اعتمدت عليها اللوحة عبر العصور والمدارس الفنية، بما في ذلك الطروحات التي جاءت بها الحداثة؟ أم أنها مختلفة باختلاف أدوات التطور التي شملت جميع مناحي الحياة؟ الإجابة عن هذه التساؤلات تؤثر بشكل بالغ في طريقة الرسم التي يتبناها.
يتابع شبر “أنا من الذين يخوضون غمار التجريب دون تردد، وأرى فيه الحصن الحصين الذي يتمترس خلفه الفنان المبدع لإنتاج فن جديد مختلف عمّا قدمه الأوّلون. إنها عملية ليست سهلة، لكنها ليست مستحيلة على الباحث المجرب ما جعل أديسون ينجح في اختراع المصباح الكهربائي لم يكن سوى سلسلة من التجارب ‘الفاشلة‘، لكن إصراره وثقته بذاته مكّناه من تحقيق هدفه.” ويؤكد “نحن في حاجة إلى هذا النوع من الإصرار في الفن، ونحتاج إلى الإيمان بذواتنا حتى نحقق النجاح.”
أما فيما يخص أصالة اللوحة، يقول “نسعى، وبجدية عالية، إلى إنتاج ما يعكس سلوكنا وحياتنا وتفاصيلها. فكلما امتلكنا الصدق والجرأة في البحث، كانت النتائج أكثر تطابقا مع ما نفكر به ونعبر عنه. اللوحة الحقيقية هي ‘قول‘، وإذا كان قائلها صادقا، فسيصل صوته إلى الآخرين ولو بعد حين، والعكس صحيح.”
تسأله “العرب” هل تعكس لوحاته سيرة ذاتية مشفرة لمراحل حياته؟ وكيف استطاع من خلال تجاربه الشخصية أن يشكل ملامح مشروعه الفني؟ فيجيبنا “نعم، هي كذلك. فجميع معارضي الشخصية التي قدمتها كانت أشبه بسرد أردت البوح به للآخرين على شكل ألوان وخطوط.
معرضي الأول في قاعة معهد الفنون الجميلة في بغداد كان عبارة عن مجموعة من الأعمال التي اختبأت خلفها مشاعر الحب والحرب، وذلك الشعور بالمجهول الذي كنت سأواجهه بعد التخرج وإنهاء الدراسة. آنذاك، كانت الحرب مستعرة، ثم جاء معرض ‘مصفوفات متراكبة‘، حيث بدت لوحاتي خاوية من المعنى، وكأن الحرب، بعد أن وضعت أوزارها، أخذت معها كل الكلمات ولم تترك خلفها سوى حزن عميق. أما معرض ‘مذكرات رجل من مواليد 1965‘، فلم يكن إلا تأكيد لهذه الحقيقة. وفي معرضي بالكويت عام 2014 الذي أسميته ‘حكايا شوبر‘، كان واضحا من عنوانه أن أغلب الأعمال كانت سردا لحوادث أثرت فيّ وتركت أثرها بداخلي.”
محمود شبر يقر أن الأسلوب هو الذي يميز بين المبدع والحرفي، وهو أحد ركائز الابتكار التي يستند إليها المبدع في تحقيق ذاته
ويكمل “هذا ما يجعلني أرى في الرسم ملاذا آمنا لتفريغ الشحنات الموجبة والسالبة التي تتركها تلك الوقائع في روحي، فتمطر غيماتها لوحات وألوانا وخطوطا وقصصا يكون فيها ‘أنا‘ ظاهرا ومستترا في الوقت نفسه، فجميع معارضي جزء مني، وأنا جزء منها، حتى في الأعمال التي جسّدت فيها عنترة وعبلة، كنت أنا… أنا.”
وعن أثر الحروب والصراعات التي عاشها ومدى انعكاسها على رؤيته الفنية؟ وهل يمكن للفن أن يكون فعل مقاومة أو وسيلة لمداواة الذاكرة الجمعية؟ يقول “للحرب أثر بالغ في بناء ذاكرتنا، وفي تشكيل أشيائنا، سواء تلك التي نعلمها أو التي لا نعلمها. إن الموت المستعجل يفرض علينا قلقا لم نعتده في أيام السلام، فتكون أفكارنا مزدحمة بالمجهول. ربما، وأقول ربما، يكون القلق نافعا للفنان ليظل متجددا، لكنني لا أعتقد أنه يجعله مجددا بالضرورة. الحرب، هي الحرب، تهدم فينا الكثير، ولا تبني إلا الخراب، ونحاول خلالها أن نحافظ على إنسانيتنا، وهنا تكمن الوظيفة الكبرى للفن، في تعزيز تلك الإنسانية، التي إن ثلمت، يصبح من الصعب استعادتها إلى حالتها الطبيعية.”
ونسأل الفنان التشكيلي محمود شبر عن مشروعه “الشوبرياليزم”، الذي سبق أن تحدث فيه عن كسر قيد الزمن في الفن، وكيف يمكن أن يسهم ذلك في تغيير فهم الجمهور للفن التشكيلي. يقول “الزمن داخل اللوحة يكون حاضرا وبقوة في ذهن الفنان أثناء التنفيذ، ما يؤثر في بناء التكوين التصويري للفكرة التي يسعى إلى تجسيدها. فمثلا، لا يردعني الزمن عن رسم سيارة بوليس تلاحق عنترة لأنه قام بالتحرش بعبلة في الشارع العام، مهديا إيّاها دبا في يوم الحب.”
ويضيف “هذا اللعب على مفهوم الزمان كنت قد أشرت إليه في بيان ‘الشوبرياليزم‘ الذي أصدرته عام 2020، وترك أصداء واسعة، مؤيدة ومعارضة. وبذلك، أتاح لي على الصعيد الشخصي إنجاز أعمال فنية لا تشبه الموجود من اللوحات، وهذا في حد ذاته مدعاة للفخر بالنسبة إليّ. الفن ليس كيف ترسم، وإن كان هذا ضروريا، بل الفن هو كيف تفكر، وهذا أجده أكثر ضرورة وأهمية.”
نسأل محمود شبر إلى أي مدى يرى أن الفن التشكيلي قادر على منافسة الأدب في تقديم خطاب؟ يقول “من خلال الرقيم الطيني الذي وجد على أرض سومر وبابل وأكد وآشور، كانت بلاد الرافدين الموئل الأول لهذا التوثيق للحكايا، حيث ارتبط الحرف بالرمز (الرسم). لطالما سعيت إلى فك هذه المزاوجة بين الكتابة والرسم، ثم إعادة توحيدهما من جديد. أما بخصوص السرد، فقد أطلق النقد الأدبي على النص الأدبي مصطلح ‘الخطاب المقروء‘، وعلى العمل الفني مصطلح ‘الخطاب المرئي‘، وكلاهما يشتركان في مفردة خطاب، وأن لوحاتي في أغلبها تحكي عنّي، بصورة مستترة أو ظاهرة، وهنا يحق لي أن أقول كل ما أريد قوله، وصولا إلى ما قالته الأسطورة عن جلجامش: هو الذي رأى كل شيء.”
ShareWhatsAppTwitterFacebook

عبدالكريم البليخ
صحافي سوري
عنترة يسافر عبر الزمن في لوحات تتمرد على المألوف.
الأربعاء 2025/07/09
ShareWhatsAppTwitterFacebook

كل لوحة خطاب وحكاية
محمود شبر ليس مجرد فنان تشكيلي يعيد إنتاج الجمال كما هو، بل هو صانع رؤى، يبعث الحياة في المساحات، ويحرر اللون من أسر السكون. "العرب" التقت الفنان التشكيلي العراقي، في حديث حول كيفية التحرر من أسر الأسلوبية التقليدية التي خلص إليها ليخلق بصمته الخاصة به في المشهد التشكيلي المعاصر وأهم التحديات التي واجهها في ذلك.
منذ خطواته الأولى في معهد الفنون الجميلة ببغداد، كان القلق رفيقا دائما للفنان التشكيلي محمود شبر، يلحّ عليه بسؤال الهوية والأسلوب، ذاك السؤال الذي لا يجاب عنه إلا بالمجازفة والاحتراق في أتون التجريب، بحثا عن بصمته الخاصة التي مثلت تحديا وجوديا، لا مجرد مسألة تقنية.
لم يذعن لسطوة الأسماء اللامعة التي سبقته، ولم يركن إلى مهاد التقليد، بل اختار دربا وعرا، لا يقبل السكون ولا يأبه بالمألوف. رأى أن الأسلوب ليس قيدا، بل طيفٌ من الروح يتلبّس العمل، وبهذا الفهم المختلف، استطاع التحرر من تكرار الذات، ليخلق بصمة لا تتبع نسقا محددا، وإنما تحمل مرونة الانتقال، وجرأة المواجهة، حتى أضحى اسمه علامة فارقة في المشهد التشكيلي المعاصر.
لم تكن لوحاته مجرد مشاهد بصرية، بل خطابات مشفرة، تفيض برموز تستعصي على القراءة العجلى، محملة بدوال ومدلولات تسائل المتلقي قبل أن تمنحه إجابات. التقط شبر حكايات لم تكتب بعد، ومنحها وجوها بصرية تخلّدها خارج حدود الزمان والمكان. ولأنه يؤمن أن الفن ليس فعل استنساخ بل فعل تفكيك وإعادة تركيب، جاءت أعماله لتكسر السياقات المألوفة، وتعيد قراءة التاريخ بألوان غير تقليدية، كما فعل في استدعائه للثورة الحسينية، حيث غاص في أبعادها الإنسانية متحررا من ثقل الأطر الجاهزة، ليعيد تشكيلها وفق رؤية معاصرة، تحاكي جوهر القضية لا قشورها.
يقر محمود شبر في حديثه لـ”العرب” أن “الأسلوب هو الذي يميز بين المبدع والحرفي، وهو أحد ركائز الابتكار التي يستند إليها المبدع في تحقيق ذاته، وهو مركز ‘الأنا‘ للفنان، ودونه لا يمكن أن يكون للفنان أثر أو شيء يذكر. ويمكننا أن نستدل على أهمية هذا الموضوع، الذي يكون في الغالب الأعم الشغل الشاغل للمشتغلين في ميدان الفنون الجميلة، وقد يحتاج وقتا طويلا للاستدلال عليه أو الوصول إليه.”
البحث عن أثر

يقول الفنان “بالنسبة إليّ، ومنذ بداياتي في احتراف فن الرسم، وقتها كنت طالبا في معهد الفنون الجميلة ببغداد (1980 – 1985)، كان ينتابني قلق وشعور متعب بهذا المعنى، الذي لم أكن أدري كيف يمكن أن يتطوّر معي. صرت أبحث من خلال زياراتي المنتظمة لكل المعارض التي تقام في بغداد، سواء كانت جماعية أو فردية، وأطّلع على تجارب الفنانين الذين سبقوني في عالم التشكيل، محاولا استقصاء وتتبع آليات اشتغالاتهم وتفكيكها، للتقرب من وجهات نظرهم المطروحة في أعمالهم. وفي كل مرة، كنت أرى أنني فشلت في فهم ما يريدون طرحه في تلك الأعمال أو تلك المعارض، ربما لأنني لم أر ما يشي بأنه حقيقي أو صادق، كذلك اعتقادي بأن ما شاهدته لم يكن سوى تكرار أو إعادة تدوير لتجارب سبقت تجارب تلك الأسماء اللامعة وقتها، في ثمانينات القرن الماضي”.
ويتابع “أتذكر أنّ أحد أساتذتي في معهد الفنون قال لي: ‘محمود، عليك أن ترسم لوحة، إذا رأيتها بين مئة عمل، أقول إنها لك‘. وبقيت وصيته عالقة في ذهني، أتذكرها كلما أمسكت بفرشاتي لأرسم. وهكذا، رأيت أن القضية ليست بهذه السهولة، وأنها غير متاحة للجميع، لأنها تحتاج إلى وعي كبير وثقافة بصرية أعمق، كما تحتاج إلى صدق وثبات على الإذعان لما تمليه ذات الفنان عليه.”
وهكذا، أصبحت له قناعاته الخاصة والمغايرة لما يخص مفهوم “الأسلوب”، الذي ظل راكدا دون تغيرات داخل الوسط التشكيلي العراقي، وهو المفهوم المشابه إلى حدّ كبير بوصية أستاذه الذي أراد أن يعرف عمله من بين مجموعة أعمال داخل قاعة واحدة. وهذا الفهم نفسه، أصبح بمثابة “الفخ” الذي وقع فيه الكثير من الأسماء (المهمة)، حيث صار نتاجهم مكررا، خوفا من مخالفة النسق الذي يسيرون عليه، وهذه قضية خطرة بالنسبة إلى المبدع، الذي يجب عليه ألا يكرر نفسه.
ويتابع شبر “صرت أرى أن الأسلوب يكمن في ‘الروح‘، عكس أولئك الذين يعتقدون أن مصدره ‘العقل‘. وهذا في حد ذاته يجعل لي حضورا مختلفا عن حضور الآخرين. كذلك، صرت أرى أن القوة تكمن في مدى تأثيرك على الآخرين، لا تأثرك بهم، ما أعطاني حرية أكبر في التفكير، ورشاقة في التنقل من منطقة إلى أخرى دون تردد أو حذر من انتقادات قد يوجهها البعض من المعتقدين بوجوب قولبة الخطاب البصري تحت ذريعة الأسلوب. لهذا، كانت انتقالاتي حرة ومرنة عبر جميع المعارض الشخصية التي أقمتها في أماكن مختلفة. وأصبح مفهوم الأسلوب لدي مختلفا، ولم يعد يمثل عائقا في الإنجاز مثلما كان في بداياتي.”
ويكمل “إن الفنون المعاصرة لها إملاءاتها المغايرة في ما يخص الأسلوب، وأصبح للفكرة حضور فاعل.”
تكثيف هذه العلاقات السيميائية داخل السطح التصويري مهم لإنتاج لوحة تثير التساؤل لدى المتلقي، وتدفعه للتوقف عندها
تتميز أعماله بكثافة الرموز والشفرات البصرية، تسأله “العرب” كيف يوظف هذه العناصر في بناء سردية بصرية تتجاوز حدود الزمان والمكان، ليجيبنا “يعتبر الخطاب البصري المعاصر خطاب ‘علامة‘، وخطاب ‘دال ومدلول‘، وبالنسبة إليّ، أرى أن تكثيف هذه العلاقات السيميائية داخل السطح التصويري مهم لإنتاج لوحة تثير التساؤل لدى المتلقي، وتدفعه إلى التوقف وإعادة النظر فيها، لسبر أغوارها وفك رموزها التي أرادها الفنان.”
ويلفت إلى أن حيث اللوحة لا تمثل عنده قيمة جمالية ما لم تكن لها قيمة فكرية. إن تطور الفكر الجمالي، والنظرة إلى الرسم بشكل عام، من خلال الطروحات الفلسفية التي رافقت الأعمال الفنية منذ الإغريق صعودا، جعل فن الرسم عالما آخر، لا يمت بصلة إلى ما كان عليه في البدايات.
ويشدد على أن الدعوة إلى “ضرب المركز” و”موت المؤلف” كانت لها تداعيات بالغة الأثر على النتاج الفني العالمي بالمجمل. وليس خفيا أن هذا الذي جاء به نيتشه كان امتدادا لما قال به سوسير، حول العلاقة الاعتباطية بين الدوال، وحركة قطعة “الفرس” في رقعة الشطرنج.
ويكمل “يبدو أن كل هذا، وما سبقه وما تلاه، انعكس بشكل مباشر وكبير على فن الرسم، وعلى فهم إنتاج اللوحة. كثيرا ما تدهشني تلك الكتابات التي أراها على جدران مدينتي، وأنا أتجول في أزقتها، أراها جزءا من رسم لم يكتمل، وخطابا لم يقل بعد. فالرسوم، والذكريات، وكلمات الحب، وأرقام العقارات للبيوت، وتداخل بعضها ببعض، يخلق بعدا زمانيا يمكن الاستفادة منه، من خلال توظيفه لاختراع عالم مفارق يضج بجمال مختلف. وهذا ما دفعني إلى المداخلة بين مفردات مكتوبة وأخرى مرسومة، للوصول إلى لوحة تشبه في بنائها روحي المزدحمة بالعاطفة، ورأسي المزدحم بالأفكار.”
ويتابع “هذه اللوحة تحمل في كل هذا مقدارا عاليا من الصدق، يقارب لحظة وقوفي أمام مرآة الحقيقة، التي لا تكون بها رتوش. فما قيمة رسم شجرة كما هي، وأنا أعلم أن أفلاطون قال: ‘إن هذه الشجرة ليست هي تلك التي رسمتها أنت، بل هي مثال أو تمظهر لشجرة أخرى غير تلك التي أمامك، بل هي في عالم آخر، (عالم المثل)‘”.
التجريب الحصن المنيع

عن كيفية مزج أعماله بين الموروث الشعبي والتقنيات المعاصرة، وتوازنها بين هذين العنصرين دون أن تفقد لوحاته أصالتها أو حداثتها. يقول شبر “أسعى لأن تكون اللوحة غير خاضعة للبعد الزمني الذي يفرض قيودا على بناء ‘ميزان س‘ ضمن سردية لا يجوز القفز عليها أو تجاوزها. وهذا يتطلب إدراكا عميقا لمرجعيات الموروث وقصصه ووقائعه، إلى جانب فهم لآليات إنتاج اللوحة في لحظاتها الثلاث التي افترضتها وحددتها: اللحظة القبلية، وفترة الإنجاز، واللحظة البعدية، ومن ثم التواؤم مع روح المعاصرة، أي الزمن الذي نعيش فيه أثناء الرسم.”
والسؤال هنا وفق الفنان العراقي: ما الضوابط التي جاءت بها المعاصرة؟ هل هي مشابهة لتلك المعايير والضوابط الجمالية التي اعتمدت عليها اللوحة عبر العصور والمدارس الفنية، بما في ذلك الطروحات التي جاءت بها الحداثة؟ أم أنها مختلفة باختلاف أدوات التطور التي شملت جميع مناحي الحياة؟ الإجابة عن هذه التساؤلات تؤثر بشكل بالغ في طريقة الرسم التي يتبناها.
يتابع شبر “أنا من الذين يخوضون غمار التجريب دون تردد، وأرى فيه الحصن الحصين الذي يتمترس خلفه الفنان المبدع لإنتاج فن جديد مختلف عمّا قدمه الأوّلون. إنها عملية ليست سهلة، لكنها ليست مستحيلة على الباحث المجرب ما جعل أديسون ينجح في اختراع المصباح الكهربائي لم يكن سوى سلسلة من التجارب ‘الفاشلة‘، لكن إصراره وثقته بذاته مكّناه من تحقيق هدفه.” ويؤكد “نحن في حاجة إلى هذا النوع من الإصرار في الفن، ونحتاج إلى الإيمان بذواتنا حتى نحقق النجاح.”
أما فيما يخص أصالة اللوحة، يقول “نسعى، وبجدية عالية، إلى إنتاج ما يعكس سلوكنا وحياتنا وتفاصيلها. فكلما امتلكنا الصدق والجرأة في البحث، كانت النتائج أكثر تطابقا مع ما نفكر به ونعبر عنه. اللوحة الحقيقية هي ‘قول‘، وإذا كان قائلها صادقا، فسيصل صوته إلى الآخرين ولو بعد حين، والعكس صحيح.”
تسأله “العرب” هل تعكس لوحاته سيرة ذاتية مشفرة لمراحل حياته؟ وكيف استطاع من خلال تجاربه الشخصية أن يشكل ملامح مشروعه الفني؟ فيجيبنا “نعم، هي كذلك. فجميع معارضي الشخصية التي قدمتها كانت أشبه بسرد أردت البوح به للآخرين على شكل ألوان وخطوط.
معرضي الأول في قاعة معهد الفنون الجميلة في بغداد كان عبارة عن مجموعة من الأعمال التي اختبأت خلفها مشاعر الحب والحرب، وذلك الشعور بالمجهول الذي كنت سأواجهه بعد التخرج وإنهاء الدراسة. آنذاك، كانت الحرب مستعرة، ثم جاء معرض ‘مصفوفات متراكبة‘، حيث بدت لوحاتي خاوية من المعنى، وكأن الحرب، بعد أن وضعت أوزارها، أخذت معها كل الكلمات ولم تترك خلفها سوى حزن عميق. أما معرض ‘مذكرات رجل من مواليد 1965‘، فلم يكن إلا تأكيد لهذه الحقيقة. وفي معرضي بالكويت عام 2014 الذي أسميته ‘حكايا شوبر‘، كان واضحا من عنوانه أن أغلب الأعمال كانت سردا لحوادث أثرت فيّ وتركت أثرها بداخلي.”
محمود شبر يقر أن الأسلوب هو الذي يميز بين المبدع والحرفي، وهو أحد ركائز الابتكار التي يستند إليها المبدع في تحقيق ذاته
ويكمل “هذا ما يجعلني أرى في الرسم ملاذا آمنا لتفريغ الشحنات الموجبة والسالبة التي تتركها تلك الوقائع في روحي، فتمطر غيماتها لوحات وألوانا وخطوطا وقصصا يكون فيها ‘أنا‘ ظاهرا ومستترا في الوقت نفسه، فجميع معارضي جزء مني، وأنا جزء منها، حتى في الأعمال التي جسّدت فيها عنترة وعبلة، كنت أنا… أنا.”
وعن أثر الحروب والصراعات التي عاشها ومدى انعكاسها على رؤيته الفنية؟ وهل يمكن للفن أن يكون فعل مقاومة أو وسيلة لمداواة الذاكرة الجمعية؟ يقول “للحرب أثر بالغ في بناء ذاكرتنا، وفي تشكيل أشيائنا، سواء تلك التي نعلمها أو التي لا نعلمها. إن الموت المستعجل يفرض علينا قلقا لم نعتده في أيام السلام، فتكون أفكارنا مزدحمة بالمجهول. ربما، وأقول ربما، يكون القلق نافعا للفنان ليظل متجددا، لكنني لا أعتقد أنه يجعله مجددا بالضرورة. الحرب، هي الحرب، تهدم فينا الكثير، ولا تبني إلا الخراب، ونحاول خلالها أن نحافظ على إنسانيتنا، وهنا تكمن الوظيفة الكبرى للفن، في تعزيز تلك الإنسانية، التي إن ثلمت، يصبح من الصعب استعادتها إلى حالتها الطبيعية.”
ونسأل الفنان التشكيلي محمود شبر عن مشروعه “الشوبرياليزم”، الذي سبق أن تحدث فيه عن كسر قيد الزمن في الفن، وكيف يمكن أن يسهم ذلك في تغيير فهم الجمهور للفن التشكيلي. يقول “الزمن داخل اللوحة يكون حاضرا وبقوة في ذهن الفنان أثناء التنفيذ، ما يؤثر في بناء التكوين التصويري للفكرة التي يسعى إلى تجسيدها. فمثلا، لا يردعني الزمن عن رسم سيارة بوليس تلاحق عنترة لأنه قام بالتحرش بعبلة في الشارع العام، مهديا إيّاها دبا في يوم الحب.”
ويضيف “هذا اللعب على مفهوم الزمان كنت قد أشرت إليه في بيان ‘الشوبرياليزم‘ الذي أصدرته عام 2020، وترك أصداء واسعة، مؤيدة ومعارضة. وبذلك، أتاح لي على الصعيد الشخصي إنجاز أعمال فنية لا تشبه الموجود من اللوحات، وهذا في حد ذاته مدعاة للفخر بالنسبة إليّ. الفن ليس كيف ترسم، وإن كان هذا ضروريا، بل الفن هو كيف تفكر، وهذا أجده أكثر ضرورة وأهمية.”
نسأل محمود شبر إلى أي مدى يرى أن الفن التشكيلي قادر على منافسة الأدب في تقديم خطاب؟ يقول “من خلال الرقيم الطيني الذي وجد على أرض سومر وبابل وأكد وآشور، كانت بلاد الرافدين الموئل الأول لهذا التوثيق للحكايا، حيث ارتبط الحرف بالرمز (الرسم). لطالما سعيت إلى فك هذه المزاوجة بين الكتابة والرسم، ثم إعادة توحيدهما من جديد. أما بخصوص السرد، فقد أطلق النقد الأدبي على النص الأدبي مصطلح ‘الخطاب المقروء‘، وعلى العمل الفني مصطلح ‘الخطاب المرئي‘، وكلاهما يشتركان في مفردة خطاب، وأن لوحاتي في أغلبها تحكي عنّي، بصورة مستترة أو ظاهرة، وهنا يحق لي أن أقول كل ما أريد قوله، وصولا إلى ما قالته الأسطورة عن جلجامش: هو الذي رأى كل شيء.”
ShareWhatsAppTwitterFacebook

عبدالكريم البليخ
صحافي سوري