من آسيا إلى المتوسط.. قص الأساطير الفن الأكثر قدما من بنيان الحضارات

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • من آسيا إلى المتوسط.. قص الأساطير الفن الأكثر قدما من بنيان الحضارات

    من آسيا إلى المتوسط.. قص الأساطير الفن الأكثر قدما من بنيان الحضارات


    موسوعة ترصد أهم الأساطير وتكشف أسباب تشابهها.
    الثلاثاء 2025/07/08
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    من المستحيل فهم الحيوات البشرية دونما إدراك لأساطيرها

    من الخطأ الاعتقاد بأن الأساطير البشرية ليست ذات قيمة اليوم، ويتم وضعها في خانة الازدراء والتحقير والتعامل معها على أنها مجرد خيال مبكر ساذج، بينما الحقيقة عكس ذلك، إذ تمثل هذه القصص مفتاحا أساسيا لفهم التاريخ البشري والمشتركات بين عقول أناس قد يكونون متباعدين كليا.

    يعد كتاب “فصول مختارة من علم الأساطير: موسوعة مصورة” للمؤرخ البريطاني ريتشارد كافنديش (1930–2016) ـ أحد أبرز المراجع العالمية في دراسة الأساطير والسحر والأديان ـ إضافة نوعية للمكتبة العربية بترجمة د.سمير الشيخ، الأستاذ المتخصص في اللغة الإنجليزية والسيميائيات.

    يقدم هذا العمل رحلة ثرية عبر عوالم الأساطير المتنوعة، بدءا من آسيا بأساطيرها الهندوسية (لويندي أوفلاهيرتي) والبوذية (لـم. م. جي مارا سينغ) والزرادشتية (لجي. ر. هينلز) والصينية (لأنتوني كريستي)، مرورا بشرق المتوسط حيث يسلط م. أي. جي رجاردسن الضوء على الأساطير العراقية والسورية والفلسطينية القديمة، ويبرز ديفيد روزالي عوالم الأساطير المصرية. أما من الغرب، فيتناول كين الأساطير اليونانية، ويستعرض جون فيركسن أساطير روما وديانات الأسرار.
    قصص لا تواريخ


    يقدم الكتاب عبر عشرة فصول وبمقدمة للدكتور خزعل الماجدي لوحة شاملة للعلاقة بين الآلهة والبشر، مظهرا تباين الثقافات في تصوير هذه العلاقة: من التداخل الواضح في الأساطير الهندوسية والإغريقية، إلى الفاصل الحاد في أساطير بلاد الرافدين، وصولا إلى النموذج البوذي الذي يركز على الصراع الإنساني بعيدا عن العالم الإلهي. كما يبحث في مفاهيم أساسية مثل التجسيد (الأنثروبومورفيزم)، الذي يظهر جليا في الأساطير الهندوسية والمسيحية، ليظهر كيف تعبر الأساطير عن رؤية الإنسان القديم للوجود وقضاياه المصيرية.

    بهذا، لا يقتصر الكتاب على سرد الحكايات المقدسة، بل يغوص في أعماقها بوصفها نصوصا تأويلية كشفتْ عن مخاوف الإنسان وفضاءاته الروحية، من الموت إلى الكوارث الطبيعية، مقدما إياها كمرايا تعكس سعيه الدائم لفهم العالم وتفسير غوامضه.

    في مقدمته، يكشف المترجم د.سمير الشيخ أن الانتقاء يبدو غير مقنع أول وهلة، ولكن عذر الكاتب/ المترجم – إن كان ثمة عذر – هو الحقب الزمنية التي برزت بها هذه المنارات المضيئة. فإذا كانت والدة السيد المسيح تمثل تشكلا تاريخيا فارقا في تاريخ البشرية (وهو أمر مختلف عليه)، فإن هذه الأساطير قد ولدت وتطورت ثم مالت إلى الأفول في حقب ما قبل الميلاد.

    ثمة أمر آخر تشترك به هذه المختارات، هي رؤية إنسان ما قبل الميلاد إلى العالم، وكيف كان الفكر الأسطوري الخطة الفكرية لتأويل ظواهر الوجود المبهمة. إننا عندما نتأمل الأساطير – بصرف النظر عن اختلافاتها – فإننا لا نتأمل بقصد الإمتاع في كونها قصصا مقدسة عن مآثر خارقة تقوم بها كينونات غير واقعية، بل نحن نتبصر في سياقات إنسانية لتأويل علامات وجودية كبرى مثل الحياة والموت والسماء والأرض والزلازل والبراكين والأوبئة التي كانت تؤرق الإنسان الأول وتخطف منه لحظة الهدأة.

    ويؤكد مؤلف الموسوعة، المؤرخ البريطاني ريتشارد كافنديش، تزايد الاهتمام بعلم الأساطير بصورة راسخة خلال الأعوام المائة الأخيرة، ويقوي من ذلك الاهتمام الإدراك أن الأساطير ليست بالقصص الطفولية، أو أنها مجرد تفسيرات ما قبل العلم للعالم، إنما هي استبصارات جادة في الواقع. فالأساطير موجودة في المجتمعات قاطبة في الحاضر كما في الماضي. وهي جزء من نسيج الحياة الإنسانية تفسر المعتقدات وتشكل السلوكيات وتبرر المؤسسات والعادات والقيم.

    وبالنتيجة، فإنه لمن المستحيل فهم الحيوات البشرية دونما إدراك لأساطيرها. وهذا ينعكس في الطيف العريض من المنهجيات التي منها استقى المساهمون بهذا الكتاب، من ضمنها الأنثروبولوجيا (علم الأناسة)، الأركيولوجيا (علم الآثار)، الدراسات الدينية، الأديان المقارنة، تاريخ الأديان واللغة والأدب.

    ويرى أن الأساطير تقاليد متخيلة عن طبيعة وتاريخ ومصير العالم والآلهة والإنسان والمجتمع. لذا يتم تناولها هنا بوصفها مفاهيم تستحق الدراية؛ لما تعنيه لأولئك الذين يؤمنون بها، وبوصفها أيضا بيانات حول القضايا الجوهرية للحياة. إن واحدا من مضار الاستخدام الإزدرائي البالي لكلمة “أسطورة” بمعنى قصة ساذجة أو فكرة كاذبة هو الفهم ضمنا أن الأساطير تافهة. والواقع هو العكس. فهي من الأمور التي يعتبرها الناس من الأهمية أن يجدوا مكانا لهم في أساطيرهم.

    بذات الوقت، فإنه لمن المستحيل تجاهل الثوب التخييلي الذي ترتديه الأساطير. ثمة تعريف شائع مبتسر وهو أن الأسطورة “قصة عن الآلهة”، وآخر أكثر اتساعا عن الأسطورة أنها “قصة مقدسة”. إن كلا التعريفين ليسا من الدقة بمكان، ولكن من المؤكد حقا أن الأساطير سرديات عن مآثر الآلهة والكينونات الخارقية. هذه الأساطير إنما هي قصص وليست تواريخ. فالأحداث المرتبطة بها لم تحدث في واقع الأمر، ومع هذا، فإن الأساطير قد تضم حقيقة من نوع مختلف أشد عمقا.

    ويوضح كافنديش أن القلة من الناس ما تزال تعتقد، مثلا، أن الجنس البشري قد انحدر من آدم وحواء، الرجل الأول والمرأة الأولى اللذان كانا يعيشان في جنة عدن، وقد أغوتهما أفعى مضللة. ويتم قبول القصة بصورة عامة على أنها تخييل سردي، لكنه التخييل الممتلئ بالمعنى. ومثلما أنها لم تعد مقبولة على أنها حقيقية حرفيا كما كانت في السابق، فإن هناك شعورا بأن القصة حقيقية شعريا. إنها تفضي بأمر ثاقب عن الوضع الإنساني، وهو أمر لا يمكن أن يكون أشد تأثيرا بأي طريقة أخرى. وهذا ما يميز القصة عن التخييلات التافهة ويمنحها لقب “أسطورة.”

    ويضيف أن الأسطورة الدينية طريقة لنقل حقيقة مقدسة، ولكن ليس جميع الأساطير مقدسة، فالبعض منها اجتماعية أو تاريخية بالدرجة الأساس، والآلهة قد يؤدون أدوارا أقل شأنا أو لا دور لهم البتة. هذه الأساطير توضح لنا تاريخ ومبادئ المجتمع والمؤسسة والعرف أو التطور الاجتماعي. وبسردها حكاية شعب ما، مثلا، فإن الحكاية تقوي من الإحساس بالتضامن والهدف وبالثقة والتفاخر بالنفس. فالرومان قد استعاروا معظم أساطيرهم الدينية من الأغارقة. أما أساطيرهم فإنها تتعلق على نحو واسع بتاريخ روما: كيف تم بناء المدينة، وكيف واجهت الأخطار الجسام، وكيف عدت قوية، وما الخواص التي كان قد أظهرها رومان العصور الخوالي والتي على الرومان الجدد التباري بها؟

    وبالرغم من أن الأسطورة ربما بنيت على أحداث واقعية، لكن هذا الضرب من الأساطير يظل أيضا قصة ذات مغزى أخلاقي أكثر من كونها ذات مغزى تاريخي. فما من محاولة هناك لإقامة التفريق بين الأحداث الواقعية واللاواقعية. ويظل قص الأساطير الفن الأكثر قدما من بنيان التواريخ، وأن قيمة الأسطورة لا تعتمد على الدقة التاريخية.
    أساطير تتشابه



    الأساطير موجودة في المجتمعات قاطبة في الحاضر كما في الماضي. وهي جزء من نسيج الحياة الإنسانية


    يلفت كافنديش إلى أن العديد من الأساطير تطرح دستورا مشابها لسلطة الجماعة والمؤسسات والشعائر والتمايزات الاجتماعية والقوانين والأعراف والمعايير الأخلاقية والقيم والأفكار. ثمة أساطير من جميع أنحاء العالم تصف وتقر قوانين القرابة وتقاليد الزواج وآليات الصيد والزراعة والفن والحرب، بل وطرائق الأضحيات وسلطة الملوك والزعماء وتبعية النساء، وما إلى ذلك من الوجوه الكثيرة لبنية المجتمع.

    وللأساطير وظيفة أخلاقية مهمة في التعريف بما هو مقبول أو غير مقبول من السلوك. ويعد البعض منها سندات ملكية غير مكتوبة تبرر مطالبة شعب بأراضيه. والبعض الآخر يخدم أهداف النظام السياسية، سواء كانت الأرستقراطية أو الرهبنة، كما في مصر وروما واليابان، وبين الأزتيك في المكسيك أو شعب الإنكا في البيرو. هذه الأساطير تمكن الدولة من إدارة الشؤون الراهنة.

    ويبدو أن هناك حاجة عميقة في الطبيعة البشرية لسلطة من هذا النوع، سلطة تتخطى الجدل العقلي، والأمثلة لا تنحصر بالمجتمعات القبلية. ففي إنجلترا وفرنسا في القرن السابع عشر، كانت السلطة العليا للملوك يبررها الاعتقاد أنهم منتدبون من لدن الرب، وهي نظرية سياسية قد تجذرت في التقاليد الميثولوجية.

    أما الاتجاه المعاكس، أي صعود الديمقراطية، فكانت تبرره أسطورة العقد الاجتماعي. إن برامجيات ألمانيا النازية في التوسع العدواني والكراهية العنصرية الوحشية كان يبررها ولو جزئيا انبعاث الأساطير الألمانية القديمة. والإمبريالية اليابانية ما قبل العام 1945، لها نفس الوازع من خلال إحياء الأساطير التي تعلي من شأن القومية والحربية والاعتقاد بالسلطة الإلهية للدولة.

    ويؤكد أن ارتباط الأساطير بالشعائر هو ارتباط وثيق، على الرغم من أن جميع الأساطير التي تنبع من الشعيرة قد لا تلقى القبول الواسع. إن قصة خديعة بروميثيوس لزيوس من خلال اللحم عند الأضحية الأولى تقدم سلطة شرعية للشعيرة الإغريقية العرفية، والتي فيها أن لحم حيوان الأضحية لا يشوى، وهكذا يقدم إلى الإلهة، بل يؤكل من لدن العابدين.

    وبوجه عام، فإن الشعيرة تكرر وتعيد حدوث الأسطورة لكي تعيد خلقها بكل نتائجها النافعة للبشر.. ففي سوريا، كان يعاد ترتيل قصص انتصارات بعل (إله الخصب) على الأعداء، بل ويبدو تمثيلها بطقوس يراد منها التأكيد على الانتصار المتناظر للخصب على الجدب. تستخدم الأساطير بارتباطاتها بالشعائر وبهذه الطريقة من أجل إسباغ مصادر القوة وبلوغ التجربة التي لا يمكن بلوغها دون ذلك، ذلك أن الممثلين في الطقس يسهمون في الأسطورة المعاد تخليقها. فهم يؤخذون خارج هذا العالم والزمان ليصبحوا أحد الأشكال في الأسطورة والآلهة والأسلاف. والأمثلة الدرامية تحدث في مراسم الفودو وطقوس سكان أستراليا الأصليين.

    ويلاحظ كافنديش أن بعض الأساطير تتخطى الشعيرة والعرف لتواجه تساؤلات ومعضلات الحياة الإنسانية أينما تكون؛ فهي تفسر الكيفية التي بها جاء العالم إلى الوجود، وأصل الخليقة والإنسان والحيوان، وأصل الجنسين (الذكر والأنثى)، وكيف حصل البشر على النار، وكيف بدأ المجتمع، وكيف جاءت إلى العالم المآثر والشيخوخة والأمراض والعدو الأخير، الموت. وهنا أيضا، ومن خلال التفسير، تبرز الأساطير أيضا الحالة الراهنة للأشياء والعالم كما هو عليه الآن.

    إن الوظيفة العملية للأساطير قد لا تلبي الفضول إلى حد بعيد بقدر ما تخفف من وطأة التعاسة والألم والضنك، وذلك من خلال التفسير المقنع على نحو تخييلي للعالم ولوضع الإنسان. وبوضع الأسطورة في هذا الإطار المدرك، فإن شرور العالم، وهي وإن كانت غير مرحب بها، سوف تصبح أقل قسوة في تحملها.

    ويتفق كافنديش مع نظرية رائد علم الأساطير الفرنسي كلود ليفي شتراوس في أن الأساطير أبنية تضادات، كما الطبيعة والثقافة (النيء والمطبوخ)، الذكر والأنثى، النظام والفوضى، ويقول إنه في ضوء هذه النظرية، فإن الأساطير تبسط بشكل محجب تناقضات موروثة في الحياة التي لا يود العقل الواعي مواجهتها. فالفكر الأسطوري يتحرك من الوعي بالتناقضات صوب حلها، وما قصص الحالة المقلوبة رأسا على عقب للأشياء في عالم الأساطير إن هي إلا محاولة للتوسط ما بين الأضداد وحلولها. فالوظيفة الحقة للأسطورة تكمن في طرح “نموذج منطقي قادر على قهر التناقض”، والذي – كما يضيف شتراوس – يظل إنجازا مستحيلا عندما يكون التناقض حقيقيا.

    ويبين أن التشابهات والتوازيات بين الأساطير (وليس كل الأساطير)، والتي تفسر تفسيرا ميسرا وتاما تأثير الثقافات على بعضها البعض، تحيل إلى أن الأساطير تتضمن أنماطا عامة من التفكير. فعلى خط التوازيات، هناك الكثرة الكاثرة من الاختلافات الجوهرية، ولكن أن تحدث نفس الأنماط غالبا ما يكون ذلك كافيا لتبيان أن العقول البشرية تميل إلى طرح نفس الأجوبة لنفس المساءلات الأساسية.
    الأسطورة الدينية طريقة لنقل حقيقة مقدسة، ولكن ليس جميع الأساطير مقدسة، فالبعض منها اجتماعية أو تاريخية بالدرجة الأساس

    ثمة عامل مشترك لأساطير الشعوب المتباعدة تباعدا واسعا هو الشعور بالعيش في عالم تتسيده القوى الخفية اللابشرية (الآلهة والأرواح والكائنات الخارقية)، وثمة مقوم آخر مشترك مفاده اتجاه التركيز على شرور الوضع الإنساني وعلى جور الحياة بل وعلى أهوالها.

    هذه الحوافز والأنماط ذاتها تحدث في أساطير الخلق والنشوء، فالهيولي المائي المظلم قد وجد في البدء دونما نور، دونما شمس، دونما قمر أو نجوم، البيضة الكونية، الخلق من جسد إله ممزق أو وحش، انفصال الأرض عن السماء، خلق الإنسان من الأرض، من صلصال فخار أو من طين لازب، أو انبعاثه من الأرض. وثانية تطرح الأساطير وعلى نحو واسع ذات الأجوبة عن المساءلة عن السبب في أننا نموت. فالموت قد جاء إلى العالم نتيجة لخطأ ما، وأحيانا من لدن امرئ أو أحيانا من لدن إله أو رسول الآلهة. وغالبا ما يرتبط القمر بالفناء والخلود، والذي يظهر للعيان أنه يموت ثم يولد من جديد في السماء، والأفعى التي تجدد نفسها بسلخ جلدها.

    ويرى كافنديش أن ثمة ثيمات متكررة تتضمن كارثة كبرى قد حلت في الماضي السحيق، غالبا ما يكون طوفان عظيم، والذي يتبعه أن العالم يعاد انبعاثه صوب نظام وخلق جديديْن. ثمة جائحة أخرى قد تهدد المستقبل، عندما سيؤول العالم الراهن إلى دمار، كما في الأساطير الهندية والزرادشتية والمسيحية والإسكندنافية والمكسيكية.

    إن تصور الأرض الأم يظل تصورا على نحو واسع من الانتشار، كذلك أفكار الاتكال المشترك والعداء المشترك بين الرجل والمرأة، وبين الخليقة والحيوان بل وبين أفراد الأسرة الواحدة، كذلك الإحساس بالنظام والتوازن بين القوى الكونية والتي يتوقف عليها العالم والإنسان من أجل الحياة والأمن، فمن شأن أساطير الكثير من المجتمعات المختلفة أن تقوم بها.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    محمد الحمامصي
    كاتب مصري
يعمل...