انا ابن التراب
للشاعر :علي نفنوف
دمي ليس ماء
دمي زرقة الغيم حين يغضب
لا يسيل ..
يتبخر في وجه السكاكين
جلدي ليس لحما
هو جلد الارض
محبوك من شروخ الزلازل
لا تمزقه الرياح
لا تقرأه الحرائق
عظمي
ليس عظما
هو بقايا اعمدة المعابد
حمل الف حرب
لم ينكسر
قلبي
ليس مضغة تنبض
بركان خامد
ينتظر
فمن قادر على اطفائي..؟
لا تحفر قبري
القبر نفسه ..أنا
و البذرة التي تنام فيه
لتصير شجرة تعانق الغيم
أنا سر التراب
وصراخه
كلما دُفنت
أعود
وكلما احُرقت
اهطل من جديد
الشاعر : علي نفنوف
********
الدراسة:
لقصيدة: انا ابن التراب
للشاعر السوري :علي نفنوف
١
تعد قصيدة انا ابن التراب للشاعر علي نفنوف نصا شعريا يتجاوز حدود التعبير المباشر إلى فضاء رمزي كثيف يعكس امتزاج الذات الإنسانية بعناصر الطبيعة والوجود ويعيد تشكيل صورة الإنسان ككائن خالد يتجدد باستمرار من رماد الفناء هذا النص يتقاطع من حيث الشكل والمضمون مع تجارب شعرية عربية معاصرة تنتمي إلى تيارات الحداثة وقصيدة النثر ويستدعي من الذاكرة الشعرية أصواتا مثل محمود درويش وأدونيس وسميح القاسم وتوفيق زياد
في الشكل تنتمي القصيدة إلى نمط قصيدة النثر حيث يغيب الوزن والقافية التقليدية لكن يعوض هذا الغياب بإيقاع داخلي متولد من التكرار البنيوي والتصعيد الرمزي تتكرر تراكيب مثل دمي ليس قلبي ليس لتمنح النص نسقا إيقاعيا داخليا يعزز من تماسكه يعتمد الشاعر على لغة مجازية عميقة تجعل من كل مكون جسدي رمزا كونيا أو تاريخيا الدم ليس ماء بل غيم غاضب لا يسيل بل يتبخر والعظم ليس عظما بل أعمدة معابد لم تنكسر رغم الحروب والجلد ليس لحما بل جلد الأرض ذاته هذه الصور لا تصف الجسد بل تعيد تشكيله كموقع أسطوري للمقاومة والبقاء
تلتقي هذه الصور بقوة مع شعر محمود درويش خصوصا في قصائده التي تتناول الهوية والارتباط بالأرض مثل سجل أنا عربي حيث تتجسد الأرض كجزء من الذات والكرامة تتشكل من تفاصيل الحياة اليومية البسيطة في نص نفنوف يتحول الجسد إلى الأرض نفسها إلى مكونات الطبيعة التي لا تفنى كما أن فكرة العودة والانبعاث بعد الموت تتكرر في القصيدة تماما كما تظهر في نصوص درويش التي تحتفي بالحياة رغم محاصرة الفقد والمنفى فالشاعر لا يدفن بل يعود ولا يحرق بل يهطل من جديد هذه الصيغة الأسطورية للبعث تجعل من الإنسان كيانا خالدا متحدا بالطبيعة لا يمكن اجتثاثه
كذلك تظهر في النص سمات من تجربة أدونيس لا سيما في اشتغال القصيدة على البنية الرمزية والتجريد الأسطوري يتحول الشاعر إلى ما يشبه الكائن الطقسي الذي ينطق بصوت الأرض وينبعث منها أنا القبر أنا سر التراب وصراخه عبارات تحول الذات إلى معادل رمزي للكون والمطلق كما تفعل قصائد أدونيس التي تتجاوز اللحظة المباشرة لتؤسس خطابا شعريا ميتافيزيقيا يتأمل الحياة والموت من عل كما في أغاني مهيار الدمشقي ينشئ نفنوف ذاتا تتكلم بلسان الماضي السحيق والحاضر الممزق والمستقبل الممكن ذاتا تسكن الأطلال وتحمل الحرب وتقاوم الفناء بالصمت والغضب الكوني.
إضافة إلى ذلك نجد صدى واضحا لشعر المقاومة كما في أعمال :سميح القاسم وتوفيق زياد حيث يصبح الموت فعلا من أفعال الحياة لا نهايتها في هذه القصيدة لا يوجد قبر لأن القبر ذاته هو الشاعر ولا توجد نهاية لأن كل نهاية تتولد منها بداية هذه الروح تذكرنا بقول: زياد.. باقون كأننا عشرون مستحيلا فالمعنى هنا ليس مجرد الإصرار على البقاء بل التأكيد على أن الوجود نفسه يتجدد بالمقاومة وأن التراب ليس نهاية الجسد بل بداية جديدة له
القصيدة بذلك تتحدى الصورة التقليدية للإنسان الضعيف وتبني بديلا عنها صورة إنسان أسطوري يتحول جسده إلى عناصر الطبيعة وتتحول هويته إلى ما يشبه الرمز الخالد الذي يتجاوز الألم والاحتراق والدفن هذا النوع من الكتابة يعيد رسم العلاقة بين الفرد والعالم بين الجسد والهوية بين الحياة والموت عبر لغة مشحونة بالشعرية والنبض الداخلي دون أن تقع في فخ الخطابة أو التقريرية.
هكذا يتشكل نص انا ابن التراب من خلال تداخل صوت الشاعر مع أصوات شعرية كبرى سبقت تجربته لكنه لا يذوب فيها بل يعيد صياغة حضورها في قالبه الخاص إنه صوت جديد لا يقلد بل يشارك لا يكرر بل يعيد تأويل المفردات الكبرى للحياة والموت والانبعاث مؤكدا أن الإنسان ليس كائنا زائلا بل سرا من أسرار التراب يتكرر ظهوره كلما حاول العالم محوه.
⸻*******--------