أندريه كالفيان… رسّام الشقوق التي تُخبِر عمّا كان

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أندريه كالفيان… رسّام الشقوق التي تُخبِر عمّا كان

    أندريه كالفيان… رسّام الشقوق التي تُخبِر عمّا كان



    تتقلَّب المراكب بأسماء الغائبين والموج يُعيد ما لا يعود (أندريه كالفيان)
    نُشر: 13:11-2 يوليو 2025 م ـ 07 مُحرَّم 1447 هـ
    TT

    20

    بعض الفنانين يرسمون ما يتمنّون أن يبقى، وآخرون يرسمون ما يخافون أن يضيع. أما أندريه كالفيان، فله انحياز واضح: هو لا يرسم الأمنيات ولا الخوف، وإنما ما بقي فعلاً رغم كل ما توارى... يرسم الوجوه التي تسكن التجاعيد عيونها، يرسم الأبواب التي ما عادت تُفتَح، والجدران التي تتداعى فوق ركام الذكريات... يرسم تلك الهوامش التي نمرُّ بها من دون انتباه، فإذا به يمنحها مركز الصورة.

    لا يفتنه الجمال السائد؛ فهو يبحث عن الأثر: عن الخطّ الذي يتركه التعب، عن الظلّ الذي ينساه الضوء، عن الأخشاب المُتهالكة، والحديد الصدئ، والزجاج المشروخ. في عالم يحتفي بالسطح، يشاء الذهابَ أعمق إلى حيث النداء الحقيقي.


    تُطلّ على الحنين من خلف الغبار (أندريه كالفيان)


    وجد بالرسم الوسيلة الأوفى ليُخرج ما يشعر به؛ فقد كان ضرورة منذ الطفولة. وحين كبُر، مزج بين المسامير والألوان. استخدم أدوات من معجم الورشة، مثل الآلة القاطعة والمسمار، كأنه يقول: الجمال ليس دوماً ناعماً، والذاكرة تُكتَب أيضاً بالخدوش.


    أماكن لا يمرُّ بها أحد... لكنها تحتفظ بالأثر (أندريه كالفيان)


    حين ترسم الحياة علامات الزمن على وجوه البشر، يراها البعض قسوة، ويرى فيها كالفيان نُضجاً وحقيقة وجمالاً من نوع آخر. ليس مصادفةً أن ينحاز للوجوه التي ينال منها العُمر، ولا أن يلتقط أبواباً صدئة في أحياء مهجورة، ولا أن يُطيل الوقوف عند سيارة قديمة تستريح تحت شجرة. هو لا يرسم الأشياء بقدر ما يرسم الزمن الذي مرَّ فوقها، والقصص التي خبأتها في تشققّاتها وهديرها المنسيّ.


    كلّ تجعيدة حكاية (أندريه كالفيان)


    وحين نقترب من عالمه، نجد أنّ الميناءَ استعارةُ العودةِ، مَن بقي ومَن رحل، المراكبِ التي غادرت ولم تعُد، والشختورةِ الصغيرةِ التي تواصل السباحة كأنها لم تسمع بمآسي الهجرة. الأبوابُ والشبابيك والشرفات في لوحاته لا تنتمي فقط إلى بيتٍ ما، وإنما إلى فكرة البيت؛ ذلك الذي يُهجَر، لكنه يبقى قائماً في القلب وفي الذاكرة الحيّة.

    جبيل، مدينته الساحلية، أكثر من خلفيّة في أعماله. إنها روح متسرّبة في التفاصيل. فهو ابن حجارتها القديمة، وابن الموج والأزقّة. يقول لـ«الشرق الأوسط»: «لطالما فتحتُ حواراً مع حجارة جبيل، وكنتُ أسمع قصصها. تلك الحجارة تعرف مَن مرَّ، ومتى عاد، ومَن لم يعد». في لوحاته، تتجسّد بانحناءاتها وبظلّ الرطوبة عليها. وهي إذ تتكرَّر، فذلك ليُذكّرنا أنها لا تُمحَى.


    توقفت منذ زمن... لكنها لا تزال تمضي في الذاكرة (أندريه كالفيان)


    ولا يتنكّر أندريه كالفيان لأرمنيته... يحملها في اسمه، في نظرته، في ذاكرة جماعية امتدَّت من الألم إلى الفنّ. يشعر بالامتنان لأولئك الذين جاءوا قبله وتركوا له ما يبني عليه. أجداده الذين حطّوا في جبيل بعد المجازر، أورثوه هذا المعنى العميق للجذور: أنّ الأصل ليس مكاناً فقط؛ إنه شريان، ذاكرة مضرَّجة، وحكاية تُروى حتى بعد انطفاء الراوي.


    تُطلّ على الحنين من خلف الغبار (أندريه كالفيان)


    لعلَّ أكثر ما يُميّز مشروعه الفنّي هو هذا الحنين البنّاء الذي لا يذرف الدمع بقدر ما يرسمه. كثيرون، كما يقول، أخبروه أنّ لوحاته أعادت إليهم بيتاً نُسِي، أو أباً هاجر، أو جدّاً لم يعرفوه إلا في الصور. وبعضهم، من المغتربين، وجد في أعماله عزاءً خفيفاً، كأنها تُصلح ما هشَّمته المسافة. هذه وظيفة الفنّ عنده: أن يُقارِب وأن يُعيد ترتيب ما يتناثر. يقول كالفيان: «البعض يظنّ أنّ مَن لم يُمنَح طفولةً مستقرّة، فإنه سيكبر ناقصاً. وأنا أؤكد: لا. الظروف لا تُحدّد المصير، فالإنسان يصنع نفسه، ولو من الشقوق». هذه الفلسفة تنطبق على لوحاته كما على حياته. كلّ شقٍّ في باب، كلّ صدأ، كلّ طبقة تقشَّرت من الحائط، ليست خراباً. هي إشارات. وإهمال الطفولة لا يعني غياب المستقبل، والاهتمام بالماضي لا يعني البقاء فيه.


    يرسم تلك الزوايا التي نمرُّ بها من دون انتباه (أندريه كالفيان)


    من معارضه الفردية في لبنان، إلى مشاركاته الخارجية، فتنظيمه معارض جماعية كان آخرها «بيبلوس آرت 2025»، يحرص كالفيان على ألا يتحوّل الفنّ إلى مناسبة فقط. يريده صلة. ويطمح أن يرى الأحفاد واقفين أمام وجوه مرسومة ببطء وصدق، فيتذكّروا ما لا ينبغي نسيانه، ويشعروا بأنّ الدم لا يمضي وحده، بل يحمل معه شعاع ضوء.

    شاء أندريه كالفيان أن يكون رسّام النسيان المتروك على المَفارق؛ ذاك الذي لم يعُد يلفت أحداً، فقرَّر أن يمنحه لوناً جديداً. لا يُفكّك الحاضر بقدر ما يُرمِّم به الماضي، ويُعيد للحجارة صوتها، وللأبواب المفتاح الذي ضاع.
يعمل...