في مفهوم الأيديولوجيا

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • في مفهوم الأيديولوجيا

    في مفهوم الأيديولوجيا "استُخدم مفهوم الأيديولوجيا أول مرة عام 1797 من قبل المنظر الفرنسي ديستوت دو تراسي، وكان يعني بالنسبة له مجرد “علم أفكار” عام، أي دراسة كيف نفكر ونتكلم ونحاجج. والمفهوم مشتق من الكلمتين اليونانيتين eidos (فكر) وlogos (سبب، خطاب)، وارتبط بمشروع تأسيس علم الظواهر العقلية ودراسة تكوين الأفكار.

    وقد أدرك دو تراسي أنه على الرغم من أن الاسم كان جديداً، إلا أن العلم كان له تاريخ جدير بالاعتبار. يمكن القول بالفعل إنه أضاف تحسينات طفيفة فقط إلى النظام الذي وضعه كونديلاك. لكن "علم الأفكار" يعود إلى أوقات مختلفة في التاريخ الفرنسي؛ وعندما قدم دو تراسي مفهوم “أيديولوجيا”، وجد هو وزملاؤه الممارسون للعلم الجديد أنفسهم يواجهون صعوبات سياسية. وأدركوا أن الوقت كان حرجاً لاستخدام هكذا مفهوم في ظل الأوضاع السياسية والثقافية السائدة.

    اكتسب مفهوم الأيديولوجيا عدداً من المعاني خلال قرنين من وجوده القصير، وتمت صياغته من خلال وجهات نظر مختلفة. وعند فحص كيف تعاملت العلوم الاجتماعية، على وجه الخصوص، مع الأيديولوجيا، غالباً ما نجد أن الانطباع الأول للمرء يكون ارتباكاً كبيراً. مثّلت في البداية القائمة الطويلة من الكتب والمقالات التي يرتبط فيها علم الاجتماع بالأيديولوجيا – آلاف النصوص – صعوبة إضافية في فهم الأيديولوجيا؛ نظراً لاختلاف التعريفات ووجهات النظر ونماذج المقاربات لهذا المفهوم على نحو كبير.

    المفارقة التي ينبغي الإشارة إليها هي أن الماركسية لديها قِدم في كلا الاتجاهين: من ناحية، فإن الرجوع إلى كارل ماركس يوفر للعلوم الاجتماعية أحد أكثر مصادرها مصداقية. ومن ناحية أخرى، برزت الماركسية في القرن العشرين باعتبارها أيديولوجيا بامتياز؛ نتيجة الفهم الجامد للماركسية من قبل الأحزاب الشيوعية، خصوصاً تلك التي كانت في السلطة، والتي حولت نصوصها إلى مسلمات غير قابلة للتطور، وعدم النظر إلى الماركسية كمشروع فكري متواصل يغتني ويتطور مع مستجدات العصر. وكان هذا من الأسباب الرئيسة التي أدت إلى إخفاق تجربة البلدان الاشتراكية.

    لا تزال الأيديولوجيا من المفاهيم الملتبسة في العلوم الاجتماعية، التي يدور النقاش حولها، وهي موضع خلاف كبير. وهناك العديد من التعريفات لهذا المفهوم. فقد اعتبر ماركس أن الأيديولوجيا هي تشويه للواقع و"وعي زائف" لصالح طبقة اجتماعية معينة، وعادة ما تكون الطبقة الحاكمة. واعتُبرت نظريات ماركس علمية، وبالتالي فهي ليست أيديولوجية.

    وهي "تمثّل عند إنغلز، في قراءته لماركس، ومن ثم العديد من الاتجاهات الماركسية، تجلياً لـ "الوعي الزائف"؛ أي معتقدات غير صائبة يؤمن بها كثيرون بسبب تثبيت الطبقة الحاكمة لها بهدف إضفاء الشرعية على الوضع القائم، والتستر على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية التي يقاسيها العمال في الواقع" (1).

    اختار علماء الاجتماع في النهاية إدراج الأيديولوجيا كموضوع للدراسة في تخصصهم. ولكن تطلب الأمر منهم الوصول إلى تعريف لهذا المفهوم المربك من خلال محاولات وضع المفاهيم المتعلقة به. لقد كان ماركس هنا أيضاً بمثابة أحد الآباء المؤسسين في هذا الميدان؛ فبالنسبة له، كانت الأيديولوجيا وظيفة للعلاقات الاجتماعية للإنتاج. بكلمات أخرى، افترض ماركس أن الأيديولوجيا لا يمكن فهمها دون الرجوع إلى البنية الاجتماعية، والعلاقات الاجتماعية، وطبيعة الفاعلين الذين ينقلونها.

    وبعد قرن تقريباً، في منتصف سبعينيات القرن العشرين، اقترح السوسيولوجي الفرنسي بيير أنسار، أحد ورثة هذا المنهج، تأسيس علم اجتماع الأيديولوجيات. علماً "أن عملية كشف الأيديولوجيات سهلة حينما تكون صريحة، لكنها أيضاً تكون غير مباشرة أو ضمنية أو مخفاة أو تأتي في بنيات خطاب يصعب الانتباه إليها" (2).

    خلال فترة طويلة استمرت حتى نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، احتل مفهوم الأيديولوجيا بالفعل مساحة متعددة المعاني. ولم يتداخل هذا إلى حد كبير مع اهتمامات علم الاجتماع، الذي بلغ سن الرشد في أعمال إميل دوركايم وماكس فيبر، ووصل إلى مرحلة النضج مع تالكوت بارسونز.

    وقد لعبت الأيديولوجيا دوراً رئيساً في النقاشات السياسية والأسئلة التاريخية الرئيسة المركزية، وغذّت النقاشات بشأن شؤون العالم، والاشتراكية، والاختيار بين اليمين واليسار... إلخ. حيث كان علماء الاجتماع مجرد فئة من المشتغلين في دراسة هذا الحقل، من بين حقول معرفية أخرى. وهكذا، في المرحلة التي امتدت من صياغة المصطلح إلى نهاية ثمانينيات القرن العشرين، كان علماء الاجتماع إما يبالغون في تقدير أهمية الأيديولوجيا، وإما يقللون من أهميتها.

    من ناحية أخرى، عادةً ما يربط الليبراليون الأيديولوجيا بما يسمونه أنظمة الفكر المغلقة التي تدّعي أنها الحقيقة المطلقة. وتزعم الليبرالية أنها مجموعة من المبادئ الفلسفية السليمة، في حين أن العقائد الأخرى مثل الماركسية هي أيديولوجيا. بينما تصنّف الليبرالية، من قبل الباحثين، بأنها أيديولوجيا. والدليل على ذلك ما أعلنه فرانسيس فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ والإنسان الأخير، بأن الديمقراطية الليبرالية هي النظام الأفضل الذي وصلت له البشرية، وبإمكانها أن تشكل فعلاً "منتهى التطور الأيديولوجي للإنسانية" و"الشكل النهائي لأي حكم إنساني"، أي أنها من هذه الزاوية "نهاية التاريخ". وهذا إقرار واضح بأن الليبرالية تمثّل أيديولوجيا بامتياز.

    وعن العلاقة بين الدولة والأيديولوجيا، يُجرى التأكيد أن مفاهيم مثل الدولة والسلطة لها حتماً دلالات أيديولوجية، تعتمد على التوجهات الثقافية والاجتماعية في المجتمع. وهناك من ينظر إلى الأيديولوجيا باعتبارها تنظيماً للأفكار والقيم في المجتمع، وأن ثمة تمييزاً بين الخطاب الأيديولوجي، الذي يمثل سياق النقاشات الأيديولوجية، وأيديولوجيات معينة تعبر بوجهات نظر مختلفة عن طبيعة المجتمع في الخطاب الأيديولوجي."

    د. هاشم نعمة

    المراجع

    (1) تون فان دايك، الأيديولوجيا والخطاب، ترجمة سعيد بكار ولحسن بوتكلاي، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2023، ص 94-95.
    (2) المصدر نفسه، ص 59.
    سالم يفوت
يعمل...