مرآة العبث المكسورة: أرابال وبيكيت.. تهشيم الواقع وصدى الوجود

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مرآة العبث المكسورة: أرابال وبيكيت.. تهشيم الواقع وصدى الوجود

    مرآة العبث المكسورة: أرابال وبيكيت.. تهشيم الواقع وصدى الوجود
    مقال من اعداد: كادر صفحة مسرح العبث

    يظل المسرح، بأبعاده المتعددة، ساحة للتعبير عن أعماق الوجود البشري وتناقضاته. وفي خضم تيارات الحداثة وما بعدها، برز اسمان لامعان شكّلا علامات فارقة في مسرح العبث: الإسباني فرناندو أرابال والإيرلندي صمويل بيكيت. ورغم اشتراكهما في تفتيت منطق الواقع وتقديم عوالم تبدو للوهلة الأولى فوضوية، إلا أن لكل منهما بصمته الخاصة ورؤيته المتميزة. هذا المقال يسعى إلى مقارنة مسرحياتهما من خلال استكشاف رؤاهما وأفكارهما، وآليات الكتابة التي يعتمدانها، وهياكل مسرحياتهما، واستخدامهما للغة، مع الاستشهاد بنصوصهما لتوضيح هذه الفروقات والتشابهات.

    ■ الرؤى والأفكار
    بين عبثية الوجود وعبثية السلطة:

    يتفق أرابال وبيكيت على تصوير عبثية الوجود الإنساني، لكنهما ينطلقان من زوايا مختلفة. يركز بيكيت بشكل أساسي على العبث الوجودي، حيث يجد الإنسان نفسه عالقًا في عالم لا معنى له، ينتظر بلا جدوى، ويتلاشى في صمت. شخصياته غالبًا ما تكون حبيسة لحالات الانتظار أو العجز، كما يتضح في هذا الاقتباس من مسرحيته الأشهر:

    - بيكيت (في انتظار جودو): "لا شيء يحدث، لا أحد يأتي، لا أحد يذهب، إنه فظيع!".

    في المقابل، يمزج أرابال العبث الوجودي بـالعبث السياسي والاجتماعي. مسرحياته تتضمن في الغالب نقداً لاذعاً للسلطة والقمع والحروب، ممزوجاً بسوداوية فكاهية وصورة كاريكاتورية للعالم. يظهر هذا جلياً في تعامله مع شخصيات السلطة والعسكر، كما في هذا المقطع:

    - أرابال (الفيل على سرير): "الجنرالات عبارة عن أطفال كبار يلعبون بألعاب خطيرة".

    ■ آليات الكتابة:
    التجريد والواقعية السريالية

    يستخدم كل من الكاتبين آليات كتابة تخدم رؤيته. يميل بيكيت إلى التجريد والاختزال الشديد. حواراته موجزة، وأفعال شخصياته محدودة، مما يخلق إحساسًا بالضياع واللامعنى. الفضاء المسرحي غالبًا ما يكون قاحلاً أو موحشًا، كما في هذا الوصف:

    - بيكيت (نهاية اللعبة): "غرفة داخلية عارية. نافذتان عاليتان. ستائر رمادية. كرسي متحرك في الوسط، مغطى بملاءة. بجانبه، يقف هام، مغطى هو الآخر بملاءة. في الزاوية، سلة مهملات. في الزاوية الأخرى، دلو قمامة".

    بينما يعتمد أرابال على الواقعية السريالية التي تمزج بين الفانتازيا والعناصر الصادمة والكوميديا السوداء. مسرحياته مليئة بالصور الغريبة والمواقف العبثية التي تفضح بشاعة الواقع بطريقة كاريكاتورية، كما نرى في هذا الحوار:

    - أرابال (بناء على طلب): "أمي، هل تعرفين لماذا الحرب؟" / "إنها ضرورية لبيع المزيد من القبعات".

    ■ الهيكل العام للمسرحيات: الدائرية والتفتيت

    فيما يتعلق بالهيكل العام للمسرحيات، فإن أعمال بيكيت تتسم بـالدائرية أو التكرار. الأحداث تميل إلى أن تتكرر دون تقدم حقيقي، مما يعكس حالة الجمود واليأس. نهاية مسرحياته تعود بنا إلى نقطة البداية، في الأعمّ الأغلب. كما في هذا المقطع:
    - بيكيت (الايام السعيدة): "تتوقف وينّي عن الكلام. صمت طويل. تبتسم وينّي".

    بالمقابل، قد تتضمن مسرحيات أرابال هياكل مفتتة أو غير خطية. المشاهد قد تكون قصيرة ومفاجئة، وتنتقل بين الكوميديا والتراجيديا بشكل سريع، مما يعكس فوضى العالم وتعقيده، كما يظهر هنا:

    - أرابال (حديقة المتع): "مشهد قصير جدًا: رجل يرتدي زي مهرج يركض عبر المسرح وهو يصرخ: 'لقد سرقوا أنفي! لقد سرقوا أنفي!".

    ■ اللغة: بين الصمت والثرثرة العبثية

    يستخدم كل كاتب اللغة بطريقة مميزة. لغة بيكيت غالبًا ما تكون مقتضبة وصامتة. هناك تركيز على الصمت والفراغات بين الكلمات، مما يعكس صعوبة التواصل والوحدة الوجودية. الكلمات تصبح قليلة الدلالة، كما في هذا الحوار:

    - بيكيت (في انتظار جودو): "فلاديمير: هل قلت شيئاً؟" / "إستراجون: لا".

    أما لغة أرابال فهي قد تكون ثرثرة عبثية، مليئة بالتناقضات والكلمات غير المنطقية، ولكنها في الوقت نفسه تحمل شحنات عاطفية قوية. هناك انفجار لغوي يعكس جنون العالم وشخصياته، كما في هذا المثال:

    - أرابال (مقبرة السيارات): "ميلوس: أنت مجنون! أنت مجنون!" / "فيناس: نعم، أنا مجنون بالحرية! مجنون بالحب! مجنون بالبراغيث!"

    خلاصة:

    على الرغم من انتمائهما إلى مسرح العبث، يقدم كل من فرناندو أرابال وصمويل بيكيت رؤى وأساليب مميزة. يركز بيكيت على العبث الوجودي العميق من خلال التجريد واللغة المقتضبة والهياكل الدائرية، كما يتضح في هذا التأمل:

    - بيكيت (شريط كراپ الأخير): "الظلام مرة أخرى. ثم مرة أخرى النور. ثم مرة أخرى الظلام".

    بينما يمزج أرابال العبث الوجودي بالنقدي الاجتماعي والسياسي، مستخدمًا الواقعية السريالية واللغة الثرثرة والهياكل المفتتة، كما يبرز في هذا التصريح الساخر:

    - أرابال (نزهة في جبهة المعركة): "الحرب شيء جميل. إنها تسمح للناس الذين لا يعرفون بعضهم البعض بأن يقتلوا بعضهم البعض بشكل مثالي".

    في النهاية، يمكن اعتبار مسرحياتهما مرآتين مكسورتين تعكسان عبثية الوجود الإنساني، لكن كل مرآة تقدم شظايا مختلفة وزوايا نظر فريدة لهذا العبث، مما يثري فهمنا للطبيعة الإنسانية في عالم يبدو في كثير من الأحيان بلا معنى.

    صفحة مسرح العبث.
يعمل...