مراجعة | «عائشة لا تستُطيع الطيران» لـ مراد مصطفى
العيش في عالم يسحق أحلامك يوميًا
كان ـ خاص «سينماتوغراف»
في فيلم «عائشة لا تستُطيع الطيران، Aisha Can't Fly Away »، الذي عُرض أمس ضمن قسم «نظرة ما» بمهرجان كان السينمائي الــ78، يُبدع المخرج المصري مراد مصطفى فيلمًا هادئًا وعاصفًا - رثاءٌ بطيء الإيقاع لا هوادة فيه للنساء اللواتي يعشن على الهامش ويسيرن بيننا دون أن نراهم.
يدور الفيلم حول عائشة، مهاجرة سودانية تبلغ من العمر 26 عامًا، تحاول النجاة في حي عين شمس القاسي بالقاهرة.
يغمرنا الفيلم فورًا في عالمها، ليس من خلال عرض درامي، بل ببساطة من خلال متابعتها.
نلتقي بعائشة بينما تتبعها الكاميرا كظلها وهي تصعد حافلة مكتظة تلو الأخرى. تزأر المدينة من حولها بكل فوضاها ولامبالاتها، بصوت عالٍ يكاد يطغى على صوتها. لكنها لا تتكلم كثيرًا على أي حال. ومع ذلك، فهي تخبرنا بكل شيء.
في أول تجربة تمثيلية لها، تقدم عارضة الأزياء بوليانا سيمون (من جنوب السودان تعيش في مصر) أداءً مؤثرًا.
تتواصل بعينيها فقط لدرجة أن هذا الفيلم قد يكون فيلمًا صامتًا، فنتمكن من فهم كل شيء.
عائشة هادئة، متحفظة، لكنها لا تغيب أبدًا. إنها امرأة تعلمت أن الصمت سبيل للبقاء، لكن صمتها يصم الآذان. إنها شبح في حياتها الخاصة، تتنقل بين المنازل كمقدمة رعاية، تخدم كبار السن في مصر، بينما بالكاد تتمسك بإنسانيتها. المنازل التي تنظفها ترمز إلى ثروة لن تبلغها أبدًا، فكل زيارة تُذكرها بما لن تحصل عليه أبدًا.
شقتها الخاصة، ذات الإضاءة الخافتة والمستأجرة من رجل عصابات محلي، تتناقض تمامًا مع هذا الواقع.
الأمن الذي وُعدت به له ثمن: فهي مُجبرة على إعطاء نسخة من مفتاح صاحب عملها للعصابة، مما يُمكّنه من اقتحامها. إنه خيار مُرعب ومفهوم في آنٍ واحد، يُبرز أنظمة الاستغلال التي تستغل من يسعون إلى حياة أفضل.
«عائشة لا تستطيع الطيران» هي انحدار بطيء أشبه بالحلم إلى كابوس يقظة. يمزج مراد مصطفى بين الواقعية السحرية والطبيعية والعناصر الخيالية، مُحوّلًا معاناة عائشة الهادئة إلى شيء يكاد يكون أسطوريًا. عندما يبدأ فمها بالنزيف وينفجر جلدها بطفح جلدي غريب وغير مُفسّر، يتضح أن عذابها الداخلي يتجلى جسديًا.
تميل الصور إلى نوع رعب الجسد، مستحضرةً أوجه تشابه مُقلقة بين تفككها النفسي وتحولها الخيالي.
رمزية النعامة المتكررة - طائرٌ تحلم به عائشة باستمرار - تُذكّر بالنساء المهمشات اللواتي يُعلّمن دفن رؤوسهن في الرمال، والصمت، وعدم الطيران، حتى لو حلمن يومًا بذلك.
يُحاكي الفيلم قصة ليلى أبو العلا القصيرة «النعامة»، حيث تُحرم النساء السودانيات من حقهن في الكلام، واتخاذ القرار، أو العيش بحرية.
إيقاع الفيلم بطيء، لكن ثقله العاطفي خانق. كل لقطة تبدو مُتعمّدة، وكل مشهد غارق في رعب هادئ. مع ذلك، هناك لحظات من الدفء؛ وجبات عشاء مشتركة مع عبدون، صديقها الطاهي المصري الذي يُقدّم لها اللطف، ولحظات قصيرة من الضحك بين نساء سودانيات أخريات في الحي. لكن هذه المشاهد تزيد من قسوة ما يليها. يُلمّح الفيلم إلى التحرر، بل وحتى إلى التحوّل، لكنه لا يُتيح رؤية ذلك. لا يوجد تنفيس، بل مجرد محاولة للنجاة.
ومن أكثر المشاهد لفتًا للانتباه، مشهد عائشة وهي ترتدي قناع باتمان وتلعب الغميضة مع حفيد رجل عجوز مفترس ترعاه. الصورة عبثية وعميقة، مُقدّمة رعاية صامتة ومُضطهدة تُجبر على ارتداء زي بطل في خيال شخص آخر.
إنها لحظة كان من الممكن أن تُشكّل نقطة تحوّل، لكنها تتلاشى كحلم منسي بعد استيقاظ. يُغازل مصطفى السريالية، لكنه لا يدع الخيال ينطلق بكامل قوته - ربما لأنه، مثل عائشة، لا يُسمح له بذلك أبدًا. فعندما تتوقع من عائشة أن تصرخ أو تُقاوم، لا تفعل. وربما هذه هي الفكرة.
هذا ليس فيلمًا عن الانتصار - إنه عن الصمود. عن العيش في عالم تُسحق فيه أحلامك يوميًا ويصبح جسدك ساحة معركة.
يدور الفيلم حول كيف أن الحروب الخفية - من عنصرية وسلطة أبوية وعنف اقتصادي - تترك ندوبًا عميقة كالرصاص.
قد لا تتمكن عائشة، كالنعامة، من الطيران، لكنها لا تزال تعيش. وفي عالم كعالمها، يُعد هذا بحد ذاته تحديًا.
فيلم مصطفى هو تأمل بطيء، كئيب، وخانق أحيانًا في حياة امرأة خفية. لن يتحلى الجميع بالصبر على «عائشة لا تستطيع الطيران»، لكن من يملك الصبر سيجد امرأة تنزف، تحلم، تتحطم، ومع ذلك تبقى صامدة.
https://cinematographweb.com/
#فيلم، #فيديو، #أفلام، #فيديوهات، #ممثل، #ممثلين، #ممثلة، #ممثلات، #سينما، #سيما، #هوليوود، #فيلم_اليوم، #رعب، #رومانس، #كوميدي، #أكشن، #خيال_علمي، #وثائقي، #تاريخي، #مهرجانات_سينمائية، #سينما_العالم، #سينما_مختلفة، #تقارير_فنية، #مراجعات_أفلام، #بلاتوهات، #نجوم، #أخبار، #ذاكرة_العالم_أمام_عينيك
العيش في عالم يسحق أحلامك يوميًا
كان ـ خاص «سينماتوغراف»
في فيلم «عائشة لا تستُطيع الطيران، Aisha Can't Fly Away »، الذي عُرض أمس ضمن قسم «نظرة ما» بمهرجان كان السينمائي الــ78، يُبدع المخرج المصري مراد مصطفى فيلمًا هادئًا وعاصفًا - رثاءٌ بطيء الإيقاع لا هوادة فيه للنساء اللواتي يعشن على الهامش ويسيرن بيننا دون أن نراهم.
يدور الفيلم حول عائشة، مهاجرة سودانية تبلغ من العمر 26 عامًا، تحاول النجاة في حي عين شمس القاسي بالقاهرة.
يغمرنا الفيلم فورًا في عالمها، ليس من خلال عرض درامي، بل ببساطة من خلال متابعتها.
نلتقي بعائشة بينما تتبعها الكاميرا كظلها وهي تصعد حافلة مكتظة تلو الأخرى. تزأر المدينة من حولها بكل فوضاها ولامبالاتها، بصوت عالٍ يكاد يطغى على صوتها. لكنها لا تتكلم كثيرًا على أي حال. ومع ذلك، فهي تخبرنا بكل شيء.
في أول تجربة تمثيلية لها، تقدم عارضة الأزياء بوليانا سيمون (من جنوب السودان تعيش في مصر) أداءً مؤثرًا.
تتواصل بعينيها فقط لدرجة أن هذا الفيلم قد يكون فيلمًا صامتًا، فنتمكن من فهم كل شيء.
عائشة هادئة، متحفظة، لكنها لا تغيب أبدًا. إنها امرأة تعلمت أن الصمت سبيل للبقاء، لكن صمتها يصم الآذان. إنها شبح في حياتها الخاصة، تتنقل بين المنازل كمقدمة رعاية، تخدم كبار السن في مصر، بينما بالكاد تتمسك بإنسانيتها. المنازل التي تنظفها ترمز إلى ثروة لن تبلغها أبدًا، فكل زيارة تُذكرها بما لن تحصل عليه أبدًا.
شقتها الخاصة، ذات الإضاءة الخافتة والمستأجرة من رجل عصابات محلي، تتناقض تمامًا مع هذا الواقع.
الأمن الذي وُعدت به له ثمن: فهي مُجبرة على إعطاء نسخة من مفتاح صاحب عملها للعصابة، مما يُمكّنه من اقتحامها. إنه خيار مُرعب ومفهوم في آنٍ واحد، يُبرز أنظمة الاستغلال التي تستغل من يسعون إلى حياة أفضل.
«عائشة لا تستطيع الطيران» هي انحدار بطيء أشبه بالحلم إلى كابوس يقظة. يمزج مراد مصطفى بين الواقعية السحرية والطبيعية والعناصر الخيالية، مُحوّلًا معاناة عائشة الهادئة إلى شيء يكاد يكون أسطوريًا. عندما يبدأ فمها بالنزيف وينفجر جلدها بطفح جلدي غريب وغير مُفسّر، يتضح أن عذابها الداخلي يتجلى جسديًا.
تميل الصور إلى نوع رعب الجسد، مستحضرةً أوجه تشابه مُقلقة بين تفككها النفسي وتحولها الخيالي.
رمزية النعامة المتكررة - طائرٌ تحلم به عائشة باستمرار - تُذكّر بالنساء المهمشات اللواتي يُعلّمن دفن رؤوسهن في الرمال، والصمت، وعدم الطيران، حتى لو حلمن يومًا بذلك.
يُحاكي الفيلم قصة ليلى أبو العلا القصيرة «النعامة»، حيث تُحرم النساء السودانيات من حقهن في الكلام، واتخاذ القرار، أو العيش بحرية.
إيقاع الفيلم بطيء، لكن ثقله العاطفي خانق. كل لقطة تبدو مُتعمّدة، وكل مشهد غارق في رعب هادئ. مع ذلك، هناك لحظات من الدفء؛ وجبات عشاء مشتركة مع عبدون، صديقها الطاهي المصري الذي يُقدّم لها اللطف، ولحظات قصيرة من الضحك بين نساء سودانيات أخريات في الحي. لكن هذه المشاهد تزيد من قسوة ما يليها. يُلمّح الفيلم إلى التحرر، بل وحتى إلى التحوّل، لكنه لا يُتيح رؤية ذلك. لا يوجد تنفيس، بل مجرد محاولة للنجاة.
ومن أكثر المشاهد لفتًا للانتباه، مشهد عائشة وهي ترتدي قناع باتمان وتلعب الغميضة مع حفيد رجل عجوز مفترس ترعاه. الصورة عبثية وعميقة، مُقدّمة رعاية صامتة ومُضطهدة تُجبر على ارتداء زي بطل في خيال شخص آخر.
إنها لحظة كان من الممكن أن تُشكّل نقطة تحوّل، لكنها تتلاشى كحلم منسي بعد استيقاظ. يُغازل مصطفى السريالية، لكنه لا يدع الخيال ينطلق بكامل قوته - ربما لأنه، مثل عائشة، لا يُسمح له بذلك أبدًا. فعندما تتوقع من عائشة أن تصرخ أو تُقاوم، لا تفعل. وربما هذه هي الفكرة.
هذا ليس فيلمًا عن الانتصار - إنه عن الصمود. عن العيش في عالم تُسحق فيه أحلامك يوميًا ويصبح جسدك ساحة معركة.
يدور الفيلم حول كيف أن الحروب الخفية - من عنصرية وسلطة أبوية وعنف اقتصادي - تترك ندوبًا عميقة كالرصاص.
قد لا تتمكن عائشة، كالنعامة، من الطيران، لكنها لا تزال تعيش. وفي عالم كعالمها، يُعد هذا بحد ذاته تحديًا.
فيلم مصطفى هو تأمل بطيء، كئيب، وخانق أحيانًا في حياة امرأة خفية. لن يتحلى الجميع بالصبر على «عائشة لا تستطيع الطيران»، لكن من يملك الصبر سيجد امرأة تنزف، تحلم، تتحطم، ومع ذلك تبقى صامدة.
https://cinematographweb.com/
#فيلم، #فيديو، #أفلام، #فيديوهات، #ممثل، #ممثلين، #ممثلة، #ممثلات، #سينما، #سيما، #هوليوود، #فيلم_اليوم، #رعب، #رومانس، #كوميدي، #أكشن، #خيال_علمي، #وثائقي، #تاريخي، #مهرجانات_سينمائية، #سينما_العالم، #سينما_مختلفة، #تقارير_فنية، #مراجعات_أفلام، #بلاتوهات، #نجوم، #أخبار، #ذاكرة_العالم_أمام_عينيك