نيكيتا اليسييف: استاذ التاريخ الاسلامي في فرنسا -عاشق دمشقً والعارف بها - الفرنسي الروسي الأصل
اول مرة سمعت بنيكيتا اليسييف كانت لما كنت في الصف العاشر وقرأت كتابا عن نورالدين محمود الذي حكم دمشق وأجزاءه كبيرة من بلاد الشام في منتصف القرن الثاني عشر الميلادي والتي شهدت نهضة في عهده لم تشهدها منذ العصر الاموي وتم ضم مصر على أيامه وكان له دور بارز في تاريخ الحروب الصليبية. وقال مؤلف الكتاب وهو الدكتور عماد الدين خليل بأن افضل من كتب عن نورالدين هو نيكيتا اليسييف في كتاب في ثلاثة مجلدات. فسألت والدي عنه فقال لي الا تذكره كان يأتي لعندنا دائما ! وأطلعني على كتابه والذي بدأت بمحاولة قراءته عندما اصبحت في السنة الثالثة في قسم التاريخ جامعة دمشق وكان اعجابي كبير بالجزء الثالث منه التي تناول الجوانب الحضارية. لقد شعرت بأهمية كتاب اليسييف نورالدين من خلال ايضا صديقين لوالدي هما حسيب كيالي وصديقه الطبيب يحيى النص اللذان اعتادا المجيء لعندنا يوم الجمعة لقراءة كتاب نورالدين وكلاهما كان يتقن الفرنسية وكانا يحلمان بترجمته لكن لم يتحقق ذلك.
الحقيقة ان الكلام عن نيكيتا اليسييف متشعب جدا، حيث كان صديق والدي وفي نفس الوقت اتيحت لي الفرصة ان اجتمع به بشكل دوري مستمر في مدينة ليون لما كنت احضر للدكتوراة مابين عامي ١٩٨٥-١٩٩٠. خلال هذه اللقاءات كان يروي لي ذكرياته في دمشق والظروف التي عاشها خلال دراسته وعمل أبحاثه والتي خص دمشق جزءا مهما منها المدينة التي أمضى فيها حوالي عشرين عاما. لقد كانت في الحقيقة متعة ان تكون ضيافة نيكيتا اليسييف حيث كان يستقبلني في محطة القطار القادم من مدينة اكس ان بروفانس ،حيث كنت ادرس، وكنت احمل حقيبة جلدية من دمشق كان يعلق عليها قائلا هذه من سوق الخجا ! نتغدى سوية ونتحدث واستمع اليه باهتمام واحيانا نذهب إلى حديقة الحيوان المقابلة لبيته ونستمر بالحديث اثناء ذلك واستمر بطرح الاسئلة ايضا ثم نذهب إلى بيته حيث يقدم لي الشاي ثم يودعني قائلا بيتي بيتك !
توفي البروفيسور نيكيتا إليسييف في ليون يوم الثلاثاء 25 تشرين الثاني عام1997 ولد في بتروغراد / سانت بطرسبرغ عام 1915. نشأ في فرنسا والدته فيرا عالمة رياضيات ووالده سيرج إليسييف، وهو عالم مشهور في الحضارتين والثقافتين اليابانية والصينية، ومدير الدراسات في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا الفرنسية وأستاذ في جامعة هارفارد، تأثير كبير على نيكيتا وشقيقه فاديم، حيث أسس تكوينهما العلمي بقوة وشجعهما في اهتمامهما بالحضارات غير الأوروبية.، حصل نيكيتا على وسام المقاومة ضد النازية ولقب فارسًا ثم تمت ترقيته إلى رتبة ضابط جوقة الشرف.
تعلم نيكيتا اللغة العربية في معهد اللغات الشرقية، ودرس الاثار الإسلامية والنقوش الكتابية العربية وتاريخ المشرق الإسلامي على يد أستاذه جان سوفاجيه.
في عام 1945، تم تعيينه طالبًا مقيمًا في المعهد الفرنسي بدمشق ifd وغادر إلى سوريا مع روبرت مانتران، أقرب أصدقائه منذ المدرسة في عام 1936. بعد ان اختار مانتران الدراسات العثمانية، وكان له شأن في هذا المجال لاحقا تم تعيينه طالبًا مقيمًا في المعهد الفرنسي في اسطنبول. . وصل الباحثان الشابان إلى دمشق في نيسان/أبريل 1945 ومعهما جانين ودومينيك سورديل الزوجان اللامعان في التاريخ الإسلامي والنقوش الكتابية وتاريخ الفن والآثار الاسلامية واللذان سيكون لهما شأن كبير في السوربون.
حسب ماقال لي اليسييف: قدمنا جان سوفاجيه نحن الثلاثة أنا وروبير مانتران وجانين سورديل طلابه حال وصولنا إلى دمشق إلى والدك قائلا أنا سأسافر عائدا إلى فرنسا واعهد اليك بهؤلاء الشبان الثلاثة. فدعانا إلى مطعم يقدم العصافير وكانت اول مرة اكل فيها عصافير !
لم يكن مشوار اليسييف سهلا في سورية بعد استقلت البلاد ولم يعد كثير من الناس يلقي حتى السلام عليه. وكان قد اراد يعمل اطروحته على حي ساروجا بدمشق لكن الشرطة أوقفته. فنصحوه باختيار موضوع لا يتطلب دراسة ميدانية فاختار ان يعمل على نورالدين وكان ان كتب اطروحة دكتوراة التي استغرقت اكثر من عشر سنوات عن نورالدين. وقد كتب مقالات هامة بالتوازي ذات علاقة بأطروحته منها مقال: أوابد او ابنية نورالدين ومقال القاب نورالدين ومقال عن الطوبوغرافية الاقتصادية لدمشق ايام نورالدين واهتم كثيرا بالنقوش الكتابية ومتابعة النشر في هذا المجال وأشرف على مجلد عن النقوش الكتابية في مكة. ولعل من اهم أعماله ايضا ترجمته لجزء من تاريخ دمشق المسمى خطط دمشق وكان قد حققه صلاح الدين المنجد. وكانت الترجمة الفرنسية غنية بالحواشي والشروحات مع خريطة مهمة عن دمشق ايام ابن عساكر. ومازلت الجأ إلى هذه الترجمة رغم توفر النسخة العربية نظرا للشروحات والمعلومات الإضافية المقدمة في الحواشي.
وقد كانت فكرة نشر المخطوطات المتعلقة بدمشق من اهتماماته وكان يلتقي بصلاح الدين المنجد بشكل مستمر. وقد حاول ان يقيم تعاونا بينه او بين المعهد الفرنسي وبين المجمع العلمي العربي الذي كان يرأسه محمد كرد علي لكن ذلك لم يتحقق. ومن الطرائف التي رواها عن صلاح الدين المنجد أنهما كانا يلتقيان دائما وكل مرة يلتقيان يطرح اليسييف فكرة عن كتابة بحث عن موضوع محدد فكان المنجد يأتيه في المرة القادمة وقد كتب عن الموضوع الذي ذكره ويريد اليسييف ان يعمل عليه حتى كانت اخر مرة سأله عن ماذا تريد ان تعمل فأجابه اليسييف بنزق: سأكتب عن التواليتات في دمشق ! وبعدها لم يعد يسأله!
واذكر ان اليسييف له كتاب عن الف ليلة وليلة صدر عام ١٩٥٩ ومرة كنت عنده في البيت، ربما عام ١٩٨٩، فقال لي بأن احدهم كتب مقالة نقدية عن كتابه هذا ..وقال: لقد كتب دون ان يراعي في اي عام صدر هذا الكتاب ويحاسب كتابا صدر منذ أربعين عاما. وقال كذلك الحال مع الذين ينتقدون جان سوفاجيه اليوم دون الاخذ بعين الاعتبار في اي عام كتب هذا وضمن اية معطيات وظروف من حيث المصادر المتوفرة بشكل خاص.
كان لوالدي ملاحظة سلبية على اليسييف رغم الصداقة الطويلة بأنه كان عنده نوع من الأنانية حيث لما يستطيعا ان يعملا على مشروع مشترك. وضرب مثلا ان اليسييف كلف بكتابة دراسة عن مدينة حمص من الموسوعة الإسلامية فقال له هنري لاووست ان خالد معاذ عنده مادة واسعة حول الموضوع فجاء واطلع عليها ثم كتب الدراسة لوحده.
الف اليسييف ايضا كتابا تحت عنوان الشرق الاسلامي في العصور الوسطى والذي يعد من كتبه المتأخرة والذي لم يوفق فيه ولم يكن كتابا ناجحا رغم انه ترجم للعربية كما اذكر لكن ترجموا له اسوء ماكتب للأسف. وكانت دار النشر التي أصدرت الكتاب تريد ان تكلف ان المختصين بالكتابة عنه واحتارت مابين اليسييف وجان كلود غارسان واختارت اليسييف بالنهاية مما احزن غارسان وترك بينهما شرخا. وكنت اتمنى لو اعطيت الفرصة لغارسان.
كان اليسييف شخصا ودودا وإداريا بارعا أدار المعهد الفرنسي بدمشق حوالي عشرين عاما في ظروف صعبة عقبت الاستقلال وأيام الاضطرابات وحرب ال٦٧ حيث روى لي كيف طبخوا للزملاء في قبو المعهد الرز. كان له عبارة محببة بالعربية عندما يسمع شيئا لا يعجبه ويريد ان يسخر يقول لي: اي نعم سيدي !
آخر مرةً رأيت فيها اليسييف كانت في دمشق عام ١٩٩٧ عندما اتى الاحتفالية بمرور ٧٥ عاما على تأسيس المعهد الفرنسي بدمشق. بعد الاحتفالية ذهبنا إلى حلب لكنه لم يرغب في الذهاب. وقال لي: لقد عرفت حلب مع جان سوفاجيه وكانت اياما جميلة، لا اريد ان احرك الذكريات الجميلة هذا قد يفسدها، هذه المقولة قالها لي مرارا في الثمانينات عندما سألته عن عدم ذهابه إلى دمشق. اذكر خلال إقامته الأخيرة هذه عمل مقابلة تلفزيونية مع القناة الاجنبية ولم يخف المه خلالها من هدم معالم تاريخية عرفها جديدا خلال اقامته الطويلة في دمشق خلال الخمسينيات والستينيات.
الملفت ان اليسييف رغم تاريخه الطويل والأوسمة التي نالها واجه مشاكل في اواخر أيامه عندما اراد تجديد بطاقة هويته الشخصية ايام وزير الداخلية شارل باسكوا حيث وجد صعوبات في ذلك أدت إلى تعقيدات حتى قبض معاشه التقاعدي علما انه استمر في التدريس حتى اواخر أيامه حيث كان يقول لي التعليم هو ادمان مثله مثل المخدرات. وقد واجهتني المشاكل ايضا في نفس الفترة حين اردت تجديد اقامتي في فرنسا وكنت وقتها مدرس مشارك في برامج للدراسات العليا في باريس حيث قالوا بأن ملفي كله قد ضاع.
في الحقيقة اعترف في النهاية بصعوبة الكتابة عن نيكيتا اليسييف بدون استطرادات كثيرة ولم يكن سهلا ترتيب الأفكار حتى فتركتها كيفما اتفق عل ان يجد من يقرأها الفائدة والمتعة او تنشر مرة اخرى بشكل اكثر ترتيبا