مسألة العلة في الفلسفة: تمثلات وإشكالات
"الغاية من هذا الموضوع الذي يتصدر الموضوعات الفلسفية تتمثل في بيان حاجة الممكن إلى علة توجده وتكون سبباً له، وتتمثل أيضاً في بيان أن هناك موجوداً لا يحتاج إلى علة، وهو واجب الوجود. وهذا هو الأصل في المسألة، ولو أنه لا يقتصر على واجب الوجود أحياناً، بدليل أن هناك أشياء غير واجبة الوجود لا تحتاج إلى علة، حالها حال واجب الوجود، مثل اللون الأبيض، فهو لا يحتاج إلى بياض ليكون أبيض، ولا السكر يحتاج إلى حلاوة ليكون حلواً.
ومن فوائد مبحث العلة أنه يفند إشكاليتي الدور والتسلسل اللتين تربكان العقل.
والعلاقة بين العلة والمعلول من المسائل العويصة في مباحث الفلسفة الإسلامية، فقد غاص الفلاسفة في التجريد. فالماديون حين أنكروا العلة الأولى أو الله الخالق، قالوا بأن الوجود لا علة له سوى علة الوجود ذاتها، على الضد من الإلهيين الذين قالوا بأن الوجود ممكن، والممكن بحاجة إلى علة لإيجاده، وهذه العلة لا بد أن تكون مكتفية بذاتها لكي لا نقع في الدور. ومن هنا قال صدر الدين الشيرازي بنظرية الإمكان الوجودي التي مفادها: إن الممكن مفتقر ذاتياً إلى العلة، بحيث إن وجوده كحاجة حركة القلم لحركة اليد.
ومن هنا، فارتباط العلة بالمعلول ارتباط وجودي، فحين تنعدم العلة ينعدم المعلول. ثم إنها علاقة تزامنية، فالمعلول لا يفترق عن علته، وهو علة وحدوية، أي أن لكل معلول علة واحدة، فلا يصدر عن العلة إلا معلول واحد. كذلك، هي علاقة مشابهة أو علاقة سنخية، بمعنى أن المعلول من سنخ العلة.
والمتأمل في العلة يجد أنها تصلح أن تكون جواباً لسؤال، لذلك تنوعت العلل بحسب تنوع السؤال. فحين يسأل المرء بأداة الاستفهام "من"، يكون الجواب بالعلة الفاعلية، وحين يسأل بـ "مِمَّ"، يكون الجواب بالعلة المادية، وحين يسأل بـ "كيف"، يكون الجواب بالعلة الصورية، وحين يسأل بـ "لماذا"، يكون الجواب بالعلة الغائية.
فلو أخذنا الكرسي مثالاً وسألنا عن موجده، فسيكون النجار، وهو العلة الفاعلية. ولو سألنا عن المادة التي صُنع منها، فسيكون الجواب الخشب، وهو العلة المادية. وحين نسأل عن الكيفية التي صارت عليها هيئة الخشب، فسيكون الجواب بالعلة الصورية. وهكذا مع السؤال الرابع، وهو الخاص بـ "لماذا" أو الغاية التي من أجلها صُنع الكرسي، فسيكون الجواب "الجلوس"، وهو الغاية العلية.
وفي حقيقة الأمر، إن العلة تدور مدار المعلول، لذلك فقد تكون تامة أو ناقصة، وقد تكون داخلية أو خارجية، وقد تكون بسيطة أو مركبة، وقد تكون غير تلك الأقسام. وعلى العموم، فإنها في كل الحالات لا بد أن تتصف بما ذكرناه سابقاً.
وما تقدم يسلِّمنا إلى موضوع الثبات والتغيير. فما يحتاج لعلة، فهذا متغير، وما اكتفى بذاته، وهو واجب الوجود فقط، فهذا ثابت لا يتغير، لأن التغيير يوجب الحركة، والحركة نقص. ثم إن المتغير حادث، والحادث مركب من أجزاء، بمعنى أنه مفتقر لغيره، وهو من علامات النقص، وكل ذلك يحتم فرض موجود ثابت لا تعتريه عوارض النقص، وهو الله.
ثم إن الله إذا كان غير متحرك، فهذا لا يعني أنه ساكن، لأن السكون يعقب الحركة، وقد مر أن الله غير متحرك.
وقد فصل الفلاسفة كثيراً موضوع الحركة والتغيير والسكون. فالتغيير حالة، إما دفعية كتحول البيضة إلى فرخ، أو تدريجية كتحول الماء إلى بخار. وقد قادهم هذا المبحث إلى مسألة القوة والفعل، التي يمكن أن نطلق عليها "مسألة الإنوجاد"، فالقوة تعني قابلية الوجود، والفعل يعني الوجود الظاهر بعد إن وجدانٍ استعدادياً.
والملاحظ أن الحركة تتعلق بالعرض وبالجوهر أيضاً. فإذا عرفنا أن الأعراض متعددة، كما مر سابقاً، نستطيع أن نقول بأن الحركة تتنوع بحسب العرض، وتسمى حينئذ بالحركة العرضية. أما إذا كانت الحركة في الجوهر، فتسمى بالحركة الجوهرية.
واستتبع مبحث الحركة مباحث أخرى تدور حول موضوعات الزمان والمكان ولوازم الحركة والفاعل والمنفعل. فللحركة لوازم وصفات تتمثل في حالة الجسم المتحرك. فلكل متحرك مبدأ يمثل نقطة الانطلاق، ومنتهى يمثل الهدف من الحركة، ومسافة كمية تتمثل في الحركة من موضع لآخر، وأخرى كيفية تتمثل في الانتقال من النبتة إلى الشجرة، وموضوع متحرك، وفاعل مسبب للحركة، وزمان تستغرقه الحركة.
والزمان أهم هذه اللوازم، إذ تتوقف عليه مباحث الحركة والتقدم والتأخر، أو الحادث والقديم. وهي مباحث تهدف كلها إلى التدليل على أسبقية واجب الوجود، أو الله، على مخلوقاته. لذلك، قسموا القدم بحسب الجهة التي يضاف إليها. فالقدم لا بد أن يكون إما بالزمان، كتقدم الأب على الابن، أو بالطبع، كتقدم الواحد على الاثنين، أو بالعلة، كتقدم حركة اليد على حركة القلم، أو بالرتبة، كتقدم الإمام على المأموم، أو بالشرف، كتقدم العالم على المتعلم.
وهناك أيضاً قدم بالماهية، أو بالحقيقة، أو بالدهر كما ورد في بعض المؤلفات. وبهذا التقسيم، وجدوا حلولاً لمسائل كثيرة، أهمها "قِدَم العالم" مثلاً."
د. علي حسين يوسف
"الغاية من هذا الموضوع الذي يتصدر الموضوعات الفلسفية تتمثل في بيان حاجة الممكن إلى علة توجده وتكون سبباً له، وتتمثل أيضاً في بيان أن هناك موجوداً لا يحتاج إلى علة، وهو واجب الوجود. وهذا هو الأصل في المسألة، ولو أنه لا يقتصر على واجب الوجود أحياناً، بدليل أن هناك أشياء غير واجبة الوجود لا تحتاج إلى علة، حالها حال واجب الوجود، مثل اللون الأبيض، فهو لا يحتاج إلى بياض ليكون أبيض، ولا السكر يحتاج إلى حلاوة ليكون حلواً.
ومن فوائد مبحث العلة أنه يفند إشكاليتي الدور والتسلسل اللتين تربكان العقل.
والعلاقة بين العلة والمعلول من المسائل العويصة في مباحث الفلسفة الإسلامية، فقد غاص الفلاسفة في التجريد. فالماديون حين أنكروا العلة الأولى أو الله الخالق، قالوا بأن الوجود لا علة له سوى علة الوجود ذاتها، على الضد من الإلهيين الذين قالوا بأن الوجود ممكن، والممكن بحاجة إلى علة لإيجاده، وهذه العلة لا بد أن تكون مكتفية بذاتها لكي لا نقع في الدور. ومن هنا قال صدر الدين الشيرازي بنظرية الإمكان الوجودي التي مفادها: إن الممكن مفتقر ذاتياً إلى العلة، بحيث إن وجوده كحاجة حركة القلم لحركة اليد.
ومن هنا، فارتباط العلة بالمعلول ارتباط وجودي، فحين تنعدم العلة ينعدم المعلول. ثم إنها علاقة تزامنية، فالمعلول لا يفترق عن علته، وهو علة وحدوية، أي أن لكل معلول علة واحدة، فلا يصدر عن العلة إلا معلول واحد. كذلك، هي علاقة مشابهة أو علاقة سنخية، بمعنى أن المعلول من سنخ العلة.
والمتأمل في العلة يجد أنها تصلح أن تكون جواباً لسؤال، لذلك تنوعت العلل بحسب تنوع السؤال. فحين يسأل المرء بأداة الاستفهام "من"، يكون الجواب بالعلة الفاعلية، وحين يسأل بـ "مِمَّ"، يكون الجواب بالعلة المادية، وحين يسأل بـ "كيف"، يكون الجواب بالعلة الصورية، وحين يسأل بـ "لماذا"، يكون الجواب بالعلة الغائية.
فلو أخذنا الكرسي مثالاً وسألنا عن موجده، فسيكون النجار، وهو العلة الفاعلية. ولو سألنا عن المادة التي صُنع منها، فسيكون الجواب الخشب، وهو العلة المادية. وحين نسأل عن الكيفية التي صارت عليها هيئة الخشب، فسيكون الجواب بالعلة الصورية. وهكذا مع السؤال الرابع، وهو الخاص بـ "لماذا" أو الغاية التي من أجلها صُنع الكرسي، فسيكون الجواب "الجلوس"، وهو الغاية العلية.
وفي حقيقة الأمر، إن العلة تدور مدار المعلول، لذلك فقد تكون تامة أو ناقصة، وقد تكون داخلية أو خارجية، وقد تكون بسيطة أو مركبة، وقد تكون غير تلك الأقسام. وعلى العموم، فإنها في كل الحالات لا بد أن تتصف بما ذكرناه سابقاً.
وما تقدم يسلِّمنا إلى موضوع الثبات والتغيير. فما يحتاج لعلة، فهذا متغير، وما اكتفى بذاته، وهو واجب الوجود فقط، فهذا ثابت لا يتغير، لأن التغيير يوجب الحركة، والحركة نقص. ثم إن المتغير حادث، والحادث مركب من أجزاء، بمعنى أنه مفتقر لغيره، وهو من علامات النقص، وكل ذلك يحتم فرض موجود ثابت لا تعتريه عوارض النقص، وهو الله.
ثم إن الله إذا كان غير متحرك، فهذا لا يعني أنه ساكن، لأن السكون يعقب الحركة، وقد مر أن الله غير متحرك.
وقد فصل الفلاسفة كثيراً موضوع الحركة والتغيير والسكون. فالتغيير حالة، إما دفعية كتحول البيضة إلى فرخ، أو تدريجية كتحول الماء إلى بخار. وقد قادهم هذا المبحث إلى مسألة القوة والفعل، التي يمكن أن نطلق عليها "مسألة الإنوجاد"، فالقوة تعني قابلية الوجود، والفعل يعني الوجود الظاهر بعد إن وجدانٍ استعدادياً.
والملاحظ أن الحركة تتعلق بالعرض وبالجوهر أيضاً. فإذا عرفنا أن الأعراض متعددة، كما مر سابقاً، نستطيع أن نقول بأن الحركة تتنوع بحسب العرض، وتسمى حينئذ بالحركة العرضية. أما إذا كانت الحركة في الجوهر، فتسمى بالحركة الجوهرية.
واستتبع مبحث الحركة مباحث أخرى تدور حول موضوعات الزمان والمكان ولوازم الحركة والفاعل والمنفعل. فللحركة لوازم وصفات تتمثل في حالة الجسم المتحرك. فلكل متحرك مبدأ يمثل نقطة الانطلاق، ومنتهى يمثل الهدف من الحركة، ومسافة كمية تتمثل في الحركة من موضع لآخر، وأخرى كيفية تتمثل في الانتقال من النبتة إلى الشجرة، وموضوع متحرك، وفاعل مسبب للحركة، وزمان تستغرقه الحركة.
والزمان أهم هذه اللوازم، إذ تتوقف عليه مباحث الحركة والتقدم والتأخر، أو الحادث والقديم. وهي مباحث تهدف كلها إلى التدليل على أسبقية واجب الوجود، أو الله، على مخلوقاته. لذلك، قسموا القدم بحسب الجهة التي يضاف إليها. فالقدم لا بد أن يكون إما بالزمان، كتقدم الأب على الابن، أو بالطبع، كتقدم الواحد على الاثنين، أو بالعلة، كتقدم حركة اليد على حركة القلم، أو بالرتبة، كتقدم الإمام على المأموم، أو بالشرف، كتقدم العالم على المتعلم.
وهناك أيضاً قدم بالماهية، أو بالحقيقة، أو بالدهر كما ورد في بعض المؤلفات. وبهذا التقسيم، وجدوا حلولاً لمسائل كثيرة، أهمها "قِدَم العالم" مثلاً."
د. علي حسين يوسف