في أعمق حوار صحفي خضته حتى الآن، تواصلت معي ابتسام بركات، لا كمترجمة فحسب، بل كمحققة تنبش ما لا يُقال.
نُشر الحوار في جريدة القدس العربي، وكان صريحاً حتى العظم، قاسياً أحياناً، وعميقاً كما لو أنه نُحت من جمر.
أدعوه: حوار لا يُطمئن، لكنه يعرّي.
نص التحقيق:
جواد العقّاد يتحدّث من غزة: الشعر لا يملك رفاهية الصمت
ابتسام بركات
قررت هيئة تحرير مجلة «الأدب العالمي اليوم» الصادرة في الولايات المتحدة الأمريكية عن جامعة أوكلاهوما، تخصيص عددها الصادر في صيف 2025 لأصوات غزة الأدبية. اتصل بي المحرر المسؤول لأساهم في ترجمة النصوص من اللغة العربية إلى اللغة الإنكليزية.
عبر رحلة الترجمة، فوجئت بأن اللغة الأدبية، رغم أناقتها المتوقعة، صادمة إلى درجة أعمق بكثير من الأخبار المباشرة، التي تشبه الأشلاء العاجلة. هذا لأن الأدب حين يهرب في الحرب، لا يأخذ معه إلا المشاعر التي تثير البراكين في الضمائر. من يعبر إلى عالم الأدب ويترك الشاطئ بجرأة عليه أن يعرّي قلبه ويحمله على رأس قلمه ويغامر بكل ما يملك من أجل التوطن في سطر ما يستعصي على النسيان في عالمٍ النسيان، هي شيمته العنيدة.
في الأدب والشعر تقف الحقيقة غاضبة بجراحها الثخينة، والحرف يؤلم مثل يد إنسان كُسِرت، والكتابة تصير مضنية مثل عملية خياطة الجراح، فهي تتطلب الانتباه الكامل تحت قصف الطائرات أو قصف العواطف.
تَرجمتُ كمن يجمع الأشلاء ليعيد طفلاً بُترت أطرافه إلى حياته، في لغة أخرى بعيداً عن لغة الحرب. وباتفاق مع الحبر والورق، أبقيتُ له طريقاً للعودة إلى لغته الأولى بعد أن يكبر وتصير له أطراف صناعية، أو بعد أن تنمو له أطراف طبيعية من شدة رغبته في اللعب فيغير قوانين الكون. قلت في نفسي: تنبت الأغصان على الأشجار من جديد في الربيع، بعد أن تكسرها العواصف في الشتاء، ما الذي يمنع أن تنبت الأطراف لآلاف الأطفال في غزة من جديد بعد أن بترتها الحرب! ورفعت صلاتي أن يُمنَح الأطفال القدرة على أن تنمو من جديد أطرافهم كأغصان الشجر.
حين انتهيت من الترجمة لمجلة «الأدب العالمي اليوم»، قررت أن أبحث عن أصوات أخرى من غزة، لتخرج هذه الأصوات من الحصار مجازاً عبر معبر اللغة.
الشاعر جواد العقّاد يعيش في مدينة خان يونس، أو ما تبقّى منها. على مدى أيام، حسب توفر اتصال الإنترنت تحت القصف، جرى بيننا هذا الحوار عن الشعر والأدب والحياة والموت:
* كيف غيّرت الحرب علاقتك باللغة؟
– تغيرت علاقتي بنفسي وبالعالم، بما في ذلك اللغة. تغيرت رؤيتي للحياة والموت، لم أعُد أثق بالمجاز. الشعر مهما اتّسع ضيّق أمام طفلٍ يبحث عن يد أمه بين الركام. واللغة تقف عاجزة أمام الدم. لهذا بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لم أعُد أطرح سؤال محمود درويش:
«ألا تحفظون قليلاً من الشّعر كي توقفوا الْمذْبحةْ؟»
صار السؤال: هل أستطيع قول ما لا يُقال؟ هل الشِّعر من ضحايا الحرب؟ بعد الحرب صار الشعر مشبعاً بمفردات الموت، والغضب، والخراب. أتلعثم وأبكي وأنا أتحدث عن المذابح. كيف يمكن تحويل ركام المدن إلى مشاعر؟ لا أعرف إن كانت كتابة الشِّعر في الوقت الحاضر ممكنة، أم أنها ضربٌ من العبث.
*ما الذي يحفزك لمواصلة الكتابة إذن؟
– اللغة هي النافذة الأخيرة نحو النور. وهي الخبز في المجاعة، واليد التي تربّت على الكتف حين لا أحد حولك. قد لا تملك القصيدة، مهما كانت مهدّمة، القدرة على وقف المذبحة، لكنها وسط الجحيم، تحفظ للإنسان شيئاً من إنسانيته. وهذا لا يمكن تجاهله.
أكتبُ لكي أظلّ حيّاً. واللغة، ما زالت تقول لي: اكتُب! ولو كان العالم من حولك ينهار! قلت في مجموعتي «أقود الطيور من المذابح»:
نهارٌ متوحشٌ يقتلُ الضوءَ
يتدفقُ الدَّم إلى وجهِ السماءِ
والشمسُ تنسحبُ إلى الوراء
أحتمي باللغةِ
لا جدران لها
تقتحم سماءها الطائرات
وتقصف مجازاتِها المدافع
علّمتني الحرب أن أكتب موتي
وأنا واقف
*ماذا حلّ باللغة في الحرب؟
– رأيتها تصير وسيلة للبكاء بدلاً عن كونها وسيلة تواصل. تبكي وكأنها تحاول أن تلحق بالحقيقة: تلهث، تنهار، تتوسل والكلمات تموت. هكذا صرنا نكتب بجثث الكلمات، لا بحروفها. اللغة صارت جبانة، وتخاف من الحقيقة. أما الشعراء فلا يكتبون شعراً، بل تقارير من الجحيم في محاولة مستميتة للنجاة من الصمت.
* ما المفردات التي نزفت من أماكن البتر في جسد اللغة؟
– كلمات قديمة في القاموس صارت الآن يومية، وأينما ذهبت هذه الكلمات تحمل رائحة الموت.
أشلاء: لم تعد كلمة نكتبها في القصائد، بل هي حقيقة نصوّرها عبر هواتفنا، ونحملها في أكفان أهلنا.
نُـزوح: لم تعد هذه الكلمة تعني انتقالاً، بل اقتلاعاً من المنزل، من الذاكرة، من الإنسانية.
خيمة: لم تعد هذه الكلمة تعني رحيلاً مؤقتاً، بل أصبحت عنواناً دائماً للشتات، وتهديد الموت.
لقد سمعت طفلةً تقول لأُمها: متى نموت؟ لقد تأخّرنا!
هدنة: تعني أن العدّ التنازلي للمجزرة المقبلة قد بدأ
مجزرة: لم تعد حدثاً استثنائياً، بل وقتاً من أوقات اليوم
معبَر: تعني أنك إن عبرت، قد لا تعود
والكثير دخل إلى اللغة: الدم. الارتعاش. البطانية التي تغطي وجه الشهيد. الصمت الذي يسبق الانفجار.
*تتمزق اللغة مثل قماشة إذا حمّلناها ما لا طاقة لها به. ماذا يفعل شاعر بلغة ممزقة؟
– حين تتمزق اللغة، أشعر بأنها تعاقبني. تهرب مني، وتتركني في العراء، لكنني لا أكرهها، حتى وهي تتخلّى عني. أحبّها فأنا أعلم أنها تنكسر مثلي، وتئنّ تحت الألم ذاته. أحيانا أكتب جملة وأمحوها مئة مرة. لا لأني لا أعرف كيف أكتب، بل لأن اللغة لا تريد أن تُقال فهي خائفة، دامية، مضطربة، مثلي. أنا لا أواصل العمل. أنا أواصل الانهيار وأترك اللغة تنهار حتى تصير على مقاس الجرح الحقيقي، وليس على مقاس البلاغة.
*أَكثر الناس في هذه الحرب يبدو أنهم في حال من «الصّمم» أو «الطّرش» بالعامية، كيف يواصل الشاعر الاستماع لنفسه ولغيره، ويُسمِعُ من به صَمَم؟
-العالم في حالة «طرَش» مقصود. يبدو أن الآذان، خُلِقت لتَصُدّ السّمع، لا لتَسمع. لكن الكاتب لا يُقاس بمن يَسمَعه. دوره أن يحافظ على حاسَّة السَّمع داخله حية، مشتعلة، يقظة لأن أول مراحل السقوط هي أن نصاب نحن بالصمم ذاته. وأن نعتاد الدم، فنتكئ، ونصمت. الموقف من فلسطين ليس رأياً سياسياً؛ هو امتحان يومي للإنسان في داخلك، وخيط نجاتك من خيانة ذاتك. والكاتب، إذا ما كان صادقًا مع قلمه وضميره، يعرف أنه لا يملك رفاهية الحياد. فالكاتب الفلسطيني لا يكتب عن الحرب، بل منها، ولا يصف المذبحة، بل يعيشها. كل كلمة يكتبها هي محاولة لإنقاذ جزء من وطنه ونفسه قبل أن يُسحَق كل شيء أمام عينيه.
*الشّعر الحقيقي بطبعه عادل. من هو الشاعر الذي يلهمك، وفي شعره وَجَعٌ يقض مضجع الظلم؟
– معين بسيسو في قوله:
أنتَ إن نطقتَ مُتَّ
وإن سَكتَّ مُتَّ.
قُلها ومُتْ.
ومن موتٍ كهذا تصير للغة فرصة أن تعيش حرّة. الشعر ليس ترف النخبة. في زمن المجازر هو وقفة إنسان أعزل في وجه دبابة. في وقت الخوف، هو أن ترفع صوتك وتقول الحق، في الوقت الذي يصمت فيه الجميع. وهو أن تُبقي الحلم يتنفّس في وجه من يريد دفنه حياً.
*هناك من الشُّعراء من يتشاغلون بالغزل في وقت يموت فيه الأطفال جوعاً وعطشاً. هل يغيظك هذا؟
– هذه الحرب أخرجت الشعر من المكاتب والمهرجانات، فنزل إلى الحفر والخيام والجنازات لنعيشه قبل أن نكتبه. نحمله كأكفان مؤجلة، ونمضي به إلى الغد. هذا هو الشعر الذي لا يموت لأنه لا ينافق. والشاعر، إن كان حرّاً، يرى في غزة أمه وأخته وحبيبته. ومن يرى أمه وأخته وحبيبته تُقتَل في كل لحظة لا يستطيع أن يتغزّل.
الشعر سلوك، لا شغف وكلام منفصل عن الحياة. هو قرار، لا لهو. والصوت الذي لا يذهب إلى غزة وهي تصرخ، يموت في صدى نفسه. ويظل الكثير مؤجّلاً. وكذلك يظل السؤال: كيف أكتب عن أُمٍّ تجمع أشلاء أولادها في كيس نايلون؟ كيف أترجم رعشة طفل يحاول أَن ينام وهو محاط بركام مدينته؟
*الخوف عاطفة. وللعواطف أطياف وأعماق. ما عُمق الخوف الذي عرفته في هذه الحرب على غزة؟
– صرت أَخاف من الاندثار، فكل من عرفتهم تقريباً صاروا من الشهداء، أو صاروا أشباحاً تتسكع في ذاكرتي: جيران، أقارب، أصدقاء، أصحاب متاجر، أساتذة، طلاّب. لا يمكن أن أعدّهم. جميعهم رحلوا كأن المدينة تتخلص منّا واحداً تلو الآخر. هذه الحرب لا تكتفي بالقتل، بل تصرّ على سرقة ملامحنا، أصواتنا، وعلاقاتنا. كثيرون ماتوا، كثيرون جداً، حتى صرت أشعر بأن من بقي على قيد الحياة هو الاستثناء وليس المتوقّع. كل وجه أعرفه وسمعت أنه مات صار طعنة جديدة في القلب.
* هل كتبتَ اسمك على ذراعك نكاية بالموت، أم أنك كتبت على ذراعك قصيدة؟
– لم أكتب شيئاً على ذراعي. لكني أحمل هويتي كمن يحمل قلبه في يده. لا أقصد بها أن أُثبتَ من أكون، بل أريد أن أعلن أني أعيش، وسأعيش وسأنتزع من الحياة شيئاً جميلاً، حتى لو كان ذلك الشيء مجرد لحظة نقاء أو قصيدة لا تموت.
*هل لديك أحلام تُقيتُ بها روحَك في وقت المجاعة؟
– نحن الفلسطينيين لا نملك ترف الأحلام الكبرى. كنا نحلم دوماً تحت القصف، في الزنازين، في المخيمات، وفي صفوف الانتظار على الحواجز. حلمي الكبير في الماضي كان أن أكتب بِحُرّية، أن أقول ما أشاء دون أن يُقَص لسان الحقيقة، أن أصل بكلمتي إلى العالم دون أن تُحاصرني بوابات التفتيش السياسي. أما الآن، فحلمي ألّا أموت تحت الركام، أن أنجو، وأن ينجو كل من أحب. أريد أن يبقى الوطن واقفًا رغم الكارثة، وأن يُكتب لهذا الشعب فجرٌ لا يليه قصف. أحلم اليوم ألا نُدفن ونحن أحياء.
*وهذان الحُلمان بحاجة إلى جسرٍ يَصلُ بينهما؟
– النزيف المستمر هو الجسر. واللغة التي قاومت الموت وظلت تكتب هي الجسر. كذلك الكتابة التي حملتني من حلمٍ مسروق إلى آخر مستحيل. عندي إيمان بأن الحبر يمكن أن يكون قارب نجاة في بحر من الغرق، وأن يأتي يوم لا تعلو فيه صوت البندقية على صوت القصيدة، ويصير الوطن بلا حواجز ولا خوف ولا عسس، وفيه يكتب الشعراء بِحُرّية، ويلعب الأطفال باطمئنان في كل مكان.
Ibtisam Barakat
نُشر الحوار في جريدة القدس العربي، وكان صريحاً حتى العظم، قاسياً أحياناً، وعميقاً كما لو أنه نُحت من جمر.
أدعوه: حوار لا يُطمئن، لكنه يعرّي.
نص التحقيق:
جواد العقّاد يتحدّث من غزة: الشعر لا يملك رفاهية الصمت
ابتسام بركات
قررت هيئة تحرير مجلة «الأدب العالمي اليوم» الصادرة في الولايات المتحدة الأمريكية عن جامعة أوكلاهوما، تخصيص عددها الصادر في صيف 2025 لأصوات غزة الأدبية. اتصل بي المحرر المسؤول لأساهم في ترجمة النصوص من اللغة العربية إلى اللغة الإنكليزية.
عبر رحلة الترجمة، فوجئت بأن اللغة الأدبية، رغم أناقتها المتوقعة، صادمة إلى درجة أعمق بكثير من الأخبار المباشرة، التي تشبه الأشلاء العاجلة. هذا لأن الأدب حين يهرب في الحرب، لا يأخذ معه إلا المشاعر التي تثير البراكين في الضمائر. من يعبر إلى عالم الأدب ويترك الشاطئ بجرأة عليه أن يعرّي قلبه ويحمله على رأس قلمه ويغامر بكل ما يملك من أجل التوطن في سطر ما يستعصي على النسيان في عالمٍ النسيان، هي شيمته العنيدة.
في الأدب والشعر تقف الحقيقة غاضبة بجراحها الثخينة، والحرف يؤلم مثل يد إنسان كُسِرت، والكتابة تصير مضنية مثل عملية خياطة الجراح، فهي تتطلب الانتباه الكامل تحت قصف الطائرات أو قصف العواطف.
تَرجمتُ كمن يجمع الأشلاء ليعيد طفلاً بُترت أطرافه إلى حياته، في لغة أخرى بعيداً عن لغة الحرب. وباتفاق مع الحبر والورق، أبقيتُ له طريقاً للعودة إلى لغته الأولى بعد أن يكبر وتصير له أطراف صناعية، أو بعد أن تنمو له أطراف طبيعية من شدة رغبته في اللعب فيغير قوانين الكون. قلت في نفسي: تنبت الأغصان على الأشجار من جديد في الربيع، بعد أن تكسرها العواصف في الشتاء، ما الذي يمنع أن تنبت الأطراف لآلاف الأطفال في غزة من جديد بعد أن بترتها الحرب! ورفعت صلاتي أن يُمنَح الأطفال القدرة على أن تنمو من جديد أطرافهم كأغصان الشجر.
حين انتهيت من الترجمة لمجلة «الأدب العالمي اليوم»، قررت أن أبحث عن أصوات أخرى من غزة، لتخرج هذه الأصوات من الحصار مجازاً عبر معبر اللغة.
الشاعر جواد العقّاد يعيش في مدينة خان يونس، أو ما تبقّى منها. على مدى أيام، حسب توفر اتصال الإنترنت تحت القصف، جرى بيننا هذا الحوار عن الشعر والأدب والحياة والموت:
* كيف غيّرت الحرب علاقتك باللغة؟
– تغيرت علاقتي بنفسي وبالعالم، بما في ذلك اللغة. تغيرت رؤيتي للحياة والموت، لم أعُد أثق بالمجاز. الشعر مهما اتّسع ضيّق أمام طفلٍ يبحث عن يد أمه بين الركام. واللغة تقف عاجزة أمام الدم. لهذا بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لم أعُد أطرح سؤال محمود درويش:
«ألا تحفظون قليلاً من الشّعر كي توقفوا الْمذْبحةْ؟»
صار السؤال: هل أستطيع قول ما لا يُقال؟ هل الشِّعر من ضحايا الحرب؟ بعد الحرب صار الشعر مشبعاً بمفردات الموت، والغضب، والخراب. أتلعثم وأبكي وأنا أتحدث عن المذابح. كيف يمكن تحويل ركام المدن إلى مشاعر؟ لا أعرف إن كانت كتابة الشِّعر في الوقت الحاضر ممكنة، أم أنها ضربٌ من العبث.
*ما الذي يحفزك لمواصلة الكتابة إذن؟
– اللغة هي النافذة الأخيرة نحو النور. وهي الخبز في المجاعة، واليد التي تربّت على الكتف حين لا أحد حولك. قد لا تملك القصيدة، مهما كانت مهدّمة، القدرة على وقف المذبحة، لكنها وسط الجحيم، تحفظ للإنسان شيئاً من إنسانيته. وهذا لا يمكن تجاهله.
أكتبُ لكي أظلّ حيّاً. واللغة، ما زالت تقول لي: اكتُب! ولو كان العالم من حولك ينهار! قلت في مجموعتي «أقود الطيور من المذابح»:
نهارٌ متوحشٌ يقتلُ الضوءَ
يتدفقُ الدَّم إلى وجهِ السماءِ
والشمسُ تنسحبُ إلى الوراء
أحتمي باللغةِ
لا جدران لها
تقتحم سماءها الطائرات
وتقصف مجازاتِها المدافع
علّمتني الحرب أن أكتب موتي
وأنا واقف
*ماذا حلّ باللغة في الحرب؟
– رأيتها تصير وسيلة للبكاء بدلاً عن كونها وسيلة تواصل. تبكي وكأنها تحاول أن تلحق بالحقيقة: تلهث، تنهار، تتوسل والكلمات تموت. هكذا صرنا نكتب بجثث الكلمات، لا بحروفها. اللغة صارت جبانة، وتخاف من الحقيقة. أما الشعراء فلا يكتبون شعراً، بل تقارير من الجحيم في محاولة مستميتة للنجاة من الصمت.
* ما المفردات التي نزفت من أماكن البتر في جسد اللغة؟
– كلمات قديمة في القاموس صارت الآن يومية، وأينما ذهبت هذه الكلمات تحمل رائحة الموت.
أشلاء: لم تعد كلمة نكتبها في القصائد، بل هي حقيقة نصوّرها عبر هواتفنا، ونحملها في أكفان أهلنا.
نُـزوح: لم تعد هذه الكلمة تعني انتقالاً، بل اقتلاعاً من المنزل، من الذاكرة، من الإنسانية.
خيمة: لم تعد هذه الكلمة تعني رحيلاً مؤقتاً، بل أصبحت عنواناً دائماً للشتات، وتهديد الموت.
لقد سمعت طفلةً تقول لأُمها: متى نموت؟ لقد تأخّرنا!
هدنة: تعني أن العدّ التنازلي للمجزرة المقبلة قد بدأ
مجزرة: لم تعد حدثاً استثنائياً، بل وقتاً من أوقات اليوم
معبَر: تعني أنك إن عبرت، قد لا تعود
والكثير دخل إلى اللغة: الدم. الارتعاش. البطانية التي تغطي وجه الشهيد. الصمت الذي يسبق الانفجار.
*تتمزق اللغة مثل قماشة إذا حمّلناها ما لا طاقة لها به. ماذا يفعل شاعر بلغة ممزقة؟
– حين تتمزق اللغة، أشعر بأنها تعاقبني. تهرب مني، وتتركني في العراء، لكنني لا أكرهها، حتى وهي تتخلّى عني. أحبّها فأنا أعلم أنها تنكسر مثلي، وتئنّ تحت الألم ذاته. أحيانا أكتب جملة وأمحوها مئة مرة. لا لأني لا أعرف كيف أكتب، بل لأن اللغة لا تريد أن تُقال فهي خائفة، دامية، مضطربة، مثلي. أنا لا أواصل العمل. أنا أواصل الانهيار وأترك اللغة تنهار حتى تصير على مقاس الجرح الحقيقي، وليس على مقاس البلاغة.
*أَكثر الناس في هذه الحرب يبدو أنهم في حال من «الصّمم» أو «الطّرش» بالعامية، كيف يواصل الشاعر الاستماع لنفسه ولغيره، ويُسمِعُ من به صَمَم؟
-العالم في حالة «طرَش» مقصود. يبدو أن الآذان، خُلِقت لتَصُدّ السّمع، لا لتَسمع. لكن الكاتب لا يُقاس بمن يَسمَعه. دوره أن يحافظ على حاسَّة السَّمع داخله حية، مشتعلة، يقظة لأن أول مراحل السقوط هي أن نصاب نحن بالصمم ذاته. وأن نعتاد الدم، فنتكئ، ونصمت. الموقف من فلسطين ليس رأياً سياسياً؛ هو امتحان يومي للإنسان في داخلك، وخيط نجاتك من خيانة ذاتك. والكاتب، إذا ما كان صادقًا مع قلمه وضميره، يعرف أنه لا يملك رفاهية الحياد. فالكاتب الفلسطيني لا يكتب عن الحرب، بل منها، ولا يصف المذبحة، بل يعيشها. كل كلمة يكتبها هي محاولة لإنقاذ جزء من وطنه ونفسه قبل أن يُسحَق كل شيء أمام عينيه.
*الشّعر الحقيقي بطبعه عادل. من هو الشاعر الذي يلهمك، وفي شعره وَجَعٌ يقض مضجع الظلم؟
– معين بسيسو في قوله:
أنتَ إن نطقتَ مُتَّ
وإن سَكتَّ مُتَّ.
قُلها ومُتْ.
ومن موتٍ كهذا تصير للغة فرصة أن تعيش حرّة. الشعر ليس ترف النخبة. في زمن المجازر هو وقفة إنسان أعزل في وجه دبابة. في وقت الخوف، هو أن ترفع صوتك وتقول الحق، في الوقت الذي يصمت فيه الجميع. وهو أن تُبقي الحلم يتنفّس في وجه من يريد دفنه حياً.
*هناك من الشُّعراء من يتشاغلون بالغزل في وقت يموت فيه الأطفال جوعاً وعطشاً. هل يغيظك هذا؟
– هذه الحرب أخرجت الشعر من المكاتب والمهرجانات، فنزل إلى الحفر والخيام والجنازات لنعيشه قبل أن نكتبه. نحمله كأكفان مؤجلة، ونمضي به إلى الغد. هذا هو الشعر الذي لا يموت لأنه لا ينافق. والشاعر، إن كان حرّاً، يرى في غزة أمه وأخته وحبيبته. ومن يرى أمه وأخته وحبيبته تُقتَل في كل لحظة لا يستطيع أن يتغزّل.
الشعر سلوك، لا شغف وكلام منفصل عن الحياة. هو قرار، لا لهو. والصوت الذي لا يذهب إلى غزة وهي تصرخ، يموت في صدى نفسه. ويظل الكثير مؤجّلاً. وكذلك يظل السؤال: كيف أكتب عن أُمٍّ تجمع أشلاء أولادها في كيس نايلون؟ كيف أترجم رعشة طفل يحاول أَن ينام وهو محاط بركام مدينته؟
*الخوف عاطفة. وللعواطف أطياف وأعماق. ما عُمق الخوف الذي عرفته في هذه الحرب على غزة؟
– صرت أَخاف من الاندثار، فكل من عرفتهم تقريباً صاروا من الشهداء، أو صاروا أشباحاً تتسكع في ذاكرتي: جيران، أقارب، أصدقاء، أصحاب متاجر، أساتذة، طلاّب. لا يمكن أن أعدّهم. جميعهم رحلوا كأن المدينة تتخلص منّا واحداً تلو الآخر. هذه الحرب لا تكتفي بالقتل، بل تصرّ على سرقة ملامحنا، أصواتنا، وعلاقاتنا. كثيرون ماتوا، كثيرون جداً، حتى صرت أشعر بأن من بقي على قيد الحياة هو الاستثناء وليس المتوقّع. كل وجه أعرفه وسمعت أنه مات صار طعنة جديدة في القلب.
* هل كتبتَ اسمك على ذراعك نكاية بالموت، أم أنك كتبت على ذراعك قصيدة؟
– لم أكتب شيئاً على ذراعي. لكني أحمل هويتي كمن يحمل قلبه في يده. لا أقصد بها أن أُثبتَ من أكون، بل أريد أن أعلن أني أعيش، وسأعيش وسأنتزع من الحياة شيئاً جميلاً، حتى لو كان ذلك الشيء مجرد لحظة نقاء أو قصيدة لا تموت.
*هل لديك أحلام تُقيتُ بها روحَك في وقت المجاعة؟
– نحن الفلسطينيين لا نملك ترف الأحلام الكبرى. كنا نحلم دوماً تحت القصف، في الزنازين، في المخيمات، وفي صفوف الانتظار على الحواجز. حلمي الكبير في الماضي كان أن أكتب بِحُرّية، أن أقول ما أشاء دون أن يُقَص لسان الحقيقة، أن أصل بكلمتي إلى العالم دون أن تُحاصرني بوابات التفتيش السياسي. أما الآن، فحلمي ألّا أموت تحت الركام، أن أنجو، وأن ينجو كل من أحب. أريد أن يبقى الوطن واقفًا رغم الكارثة، وأن يُكتب لهذا الشعب فجرٌ لا يليه قصف. أحلم اليوم ألا نُدفن ونحن أحياء.
*وهذان الحُلمان بحاجة إلى جسرٍ يَصلُ بينهما؟
– النزيف المستمر هو الجسر. واللغة التي قاومت الموت وظلت تكتب هي الجسر. كذلك الكتابة التي حملتني من حلمٍ مسروق إلى آخر مستحيل. عندي إيمان بأن الحبر يمكن أن يكون قارب نجاة في بحر من الغرق، وأن يأتي يوم لا تعلو فيه صوت البندقية على صوت القصيدة، ويصير الوطن بلا حواجز ولا خوف ولا عسس، وفيه يكتب الشعراء بِحُرّية، ويلعب الأطفال باطمئنان في كل مكان.
Ibtisam Barakat