الثورة الصناعية والرومانسية - مارتين هنريتش كلابروث .. الكيميائي المحترف
الثورة الصناعية والرومانسية
في إنجلترا وفي منتصف القرن الثامن عشر أدى التقدم التقني واتساع التجارة عبر البحار إلى زيادة الطلب على المنتجات بحيث لا يمكن إشباعه عن طريق الإنتاج المنزلي بالقطعة . ومن أجل رفع كفاءة الإنتاج، جمع العمال في مصانع تقع في المراكز . أصبحت مجموعة التغيرات الاجتماعية والتقنية التي صاحبت ذلك معروفة باسم الثورة الصناعية، وقد أفادت الإنتاج بشكل كبير، غير أنه ليس واضحا أنها فعلت الشيء نفسه للمجتمع. وعندما كتب ديكنز عن الثورة الصناعية فإنه كتب عن البخيل وأوليفر والأوقات العصيبة والتوقعات المراوغة . أما الحركة الرومانسية فكانت بطريقة أو بأخرى رد فعل للثورة الصناعية والتنوير ذي المدخل المنطقي الحاد. كان المفكر الرومانسي قادرا على تقبل بعض الحقائق التي لا تملك بالضرورة إثباتا منطقيا أو علميا تجريبيا . فعقيدة الحركة الرومانسية الأساسية هي التناغم مع الطبيعة والإيمان بأن السمة الأساسية للعالم الطبيعي هي البساطة. وبذلك كان الكيميائي المحترف مدفوعا للتقدم التقني بالثورة الصناعية لكن مسترشدا في ذلك بالرومانسية . وقد اتضح أن هذا التزاوج مثمر جدا .
أدركت روح الرومانسية برزيليوس فكان يذهب في رحلات خلوية طويلة لجمع المعادن وعينات من النباتات. وأصبح من عادة متحمس آخر للطبيعة هو فريدريتش ستروماير، أن يجوب محلات الصيادلة والخروج في رحلات خلوية بحثا عن عينات جديدة. وقد التقط في أحد هذه المحلات عينة من أكسيد الخارصين الملوث. وعندما عزل الملوث اكتشف عنصرا جديدا هو الكادميوم. وكان أبي رينيه جوست هوي يعشق جمع الأحجار الكريمة. وقد أعطى واحدا منها إلى نيكولاس لويس فوكولين مساعد فور كروي . قام فوكولين بتحليل الحجر الكريم بيريل واكتشف العنصر الجديد بيريليوم. وقد يبدو من قراءتنا لنجاحاتهم في تلك الأيام أن الأمر لم يكن يتطلب سوى أن يهز الكيميائي حجرا ليتساقط منه على الفور عنصر جديد . لكن في الحقيقة كان كل اكتشاف نتيجة لعمل دقيق ودؤوب . فقد كانت تستخدم وتتطور أدوات وتقنيات التحليل والاختبار بواسطة المحللين والكشافين الذين كانوا يتعرفون على الأملاح ويعينون كمية الفلز في الخام ودرجة نقاء المواد، وقد وجد الذين برزوا في هذه التقنيات سوقا جاهزة لفنونهم وتطور منهم بعد ذلك نوع من المتخصصين هم الكيميائيون المحللون. وأحد المهمين في هذا المجال هو مارتين هنريتش كلابروث .
مارتين هنريتش كلابروث
ولد مارتين هنريتش كلابروث في السنة نفسها التي ولد فيها لافوازييه وقد اضطلع بدور كبير في إدخال كيمياء لافوازييه الجديدة إلى الولايات الألمانية مهمة ليست سهلة لأن ستال - نقيض لافوازييه - كان ألمانيا). بدأ كلابروث صبيا في صيدلية وانتهى به الأمر مديرا للصيدلية المملوكة لفالنتين روز الذي علم سلسلة طويلة من الكيميائيين والصيادلة. توفي روز الأب بعد فترة وجيزة من تعيين كلابروث مديرا ، والذي تركت له مهمة تنشئة ابنه الأصغر فالنتين. وقد قام كلابروث بواجبه بكل إخلاص، وأصبح الابن صيدلانيا وكيميائيا كما صار أبناؤه بدورهم كذلك فيما بعد .
كان كلابروث كذلك يجمع المعادن ويقوم بتحليلها ، ومثل بقية الكيميائيين كانت تواجهه أحيانا حالات لا ينطبق فيها مجموع النتائج على 100%، وعلى النقيض من عادة بعض الكيميائيين الآخرين، لم يكن يفترض أن هذه الفروق راجعة لوجود أخطاء كما لم يقم بمعالجة النتائج لتأتي متطابقة مع المتوقع. كان يعيد تحاليله بكل دقة وعندما يتأكد من النتائج كان يبدأ البحث عن الجزء الغائب. وفي بعض الأحيان كان يتضح أن الجزء الغائب عنصر جديد . كان كلابروث أول من فصل التيليريوم، وسماه كذلك على الاسم اللاتيني للأرض. قام كلابروث كذلك بتحليل الرمل المغناطيسي الأسود واكتشف التيتانيوم، وهو فلز جديد سماه على اسم تيتان (الأبناء الأوائل للأرض) .
تزوج كلابروث زيجة غنية . الأمر الذي مكنه من إنشاء معمله الخاص. وقد اقتنى مجموعة من المعادن من بينها عينة من البيتشبلند الخام المعروف جيداً) عالجه بالأحماض والحرارة وأخيرا فصل بلورات كبيرة رباعية الأوجه صفراء اللون نقية لملح جديد . وتتعارض الروايات حول ما إذا كان قد فصل العنصر الفلزي الموجود في الملح، لكنه عى الأرجح لم يقم بذلك. غير أنه أيقن أن البلورات لم تكن مركبات لعناصر معروفة، ولذا فقد أرسل الإعلان التالي إلى أكاديمية العلوم البروسية في برلين.
لقد زاد عدد الفلزات المعروفة واحدا من 17 إلى (18) وقد استثرنا منذ بضع سنوات لدى سماعنا باكتشاف آخر كوكب بواسطة سير ويليام هيرشيل . وقد سمي العضو الجديد في المجموعة الشمسية اورانوسس. وإنني اقترح استعارة شرف هذه الكشف العظيم وإطلاق اسم يورانيوم على هذا العنصر (1) .
مع أن اليورانيوم كان يعتبر يوما ما نادرا، إلا أنه أكثر انتشارا في القشرة الأرضية من الزئبق أو الأنتيمون أو الفضة أو الكادميوم، وكانت أملاحه تستخدم كمادة ملونة منذ القدم. وقد فصل الفلز الأبيض الفضي بعد ذلك عندما قام الكيميائي الفرنسي يوجين - ميلكيور بيليجوت باختزال ملح الكلوريد بواسطة البوتاسيوم.
كان كلابروث جد موقر ككيميائي وقد أصبح أول أستاذ للكيمياء في جامعة برلين التي كونت حديثا مع أنه كان في سن 67 في ذلك الوقت. وقد توفي وهو مازال يقوم بالتدريس ويجمع الصخور في سن 74.
وهناك الكثير من القصص المدهشة التي صاحبت اكتشاف عناصر أخرى في هذا العصر، مثل اكتشاف النيوبيوم في عينة من مجموعة جون وينثروب الأصغر أول حاكم المستعمرة خليج ما سيشوسيتس، وهو سيميائي وطبيب وجامع صخور) كذلك اكتشاف السيلينيوم بواسطة برزيليوس في أثناء تحليل بقايا الأرضية في مصنع حمض الكبريتيك، واكتشاف الفاناديوم
بواسطة أندرييه مانويل ديل ريو الأستاذ بمدرسة التعدين في مدينة مكسيكو، واكتشاف البلاديوم الذي أعلن أنه لمجهول، وذلك في منشور أصدره ويليام هايد وولاستون (2) . وفي وجود هذا العدد من الاكتشافات للعناصر الجديدة كان من المفترض أن يقابل اكتشاف كل عنصر بابتهاج عظيم في بداية القرن التاسع عشر. لكن إحدى قواعد الرومانسية كانت تتحدث عن بساطة الطبيعة مما يفترض وجود عدد أقل من العناصر . لذلك كان يقابل كل إعلان عن عنصر جديد ببعض التشكيك. وفي الواقع ينسب لأول كيميائي محترف اكتشاف ثمانية عناصر جديدة - تبعا للقواعد الحديثة - إلا أنه قاوم فكرة أنها عناصر حقيقية لشعوره أن ذلك ضد وحدة الطبيعة . لم يكن يثق في الملخصات ولا في النظريات الميكانيكية التي كانت تحاول إخضاع الطبيعة للمنطق بما في ذلك النظرية الذرية لدالتن . لكن في ذلك الحين كان هو الآخر نتاجًا إضافيًا متعارضًا. فقد كان ميلاده في مكان رومانسي من بيئة طبيعية حيث أراضي كورنوول المكسوة بالعشب التي تكتسحها الرياح من كل جانب، وقرى الصيادين العتيقة والنصب الحجرية السلتية (*)، والانحدارات القاطعة التي تعلن انتهاء الأرض - لكنها بيئة طبيعية اقتحمتها للتو الآلة البخارية بواسطة رجال المناجم الكورنويين. وقد ظل طوال حياته ممزقًا بين الرومانسية والتقدم وكان أكثر شيئين أحبهما: الكيمياء وصيد الأسماك بالصنارة .
الثورة الصناعية والرومانسية
في إنجلترا وفي منتصف القرن الثامن عشر أدى التقدم التقني واتساع التجارة عبر البحار إلى زيادة الطلب على المنتجات بحيث لا يمكن إشباعه عن طريق الإنتاج المنزلي بالقطعة . ومن أجل رفع كفاءة الإنتاج، جمع العمال في مصانع تقع في المراكز . أصبحت مجموعة التغيرات الاجتماعية والتقنية التي صاحبت ذلك معروفة باسم الثورة الصناعية، وقد أفادت الإنتاج بشكل كبير، غير أنه ليس واضحا أنها فعلت الشيء نفسه للمجتمع. وعندما كتب ديكنز عن الثورة الصناعية فإنه كتب عن البخيل وأوليفر والأوقات العصيبة والتوقعات المراوغة . أما الحركة الرومانسية فكانت بطريقة أو بأخرى رد فعل للثورة الصناعية والتنوير ذي المدخل المنطقي الحاد. كان المفكر الرومانسي قادرا على تقبل بعض الحقائق التي لا تملك بالضرورة إثباتا منطقيا أو علميا تجريبيا . فعقيدة الحركة الرومانسية الأساسية هي التناغم مع الطبيعة والإيمان بأن السمة الأساسية للعالم الطبيعي هي البساطة. وبذلك كان الكيميائي المحترف مدفوعا للتقدم التقني بالثورة الصناعية لكن مسترشدا في ذلك بالرومانسية . وقد اتضح أن هذا التزاوج مثمر جدا .
أدركت روح الرومانسية برزيليوس فكان يذهب في رحلات خلوية طويلة لجمع المعادن وعينات من النباتات. وأصبح من عادة متحمس آخر للطبيعة هو فريدريتش ستروماير، أن يجوب محلات الصيادلة والخروج في رحلات خلوية بحثا عن عينات جديدة. وقد التقط في أحد هذه المحلات عينة من أكسيد الخارصين الملوث. وعندما عزل الملوث اكتشف عنصرا جديدا هو الكادميوم. وكان أبي رينيه جوست هوي يعشق جمع الأحجار الكريمة. وقد أعطى واحدا منها إلى نيكولاس لويس فوكولين مساعد فور كروي . قام فوكولين بتحليل الحجر الكريم بيريل واكتشف العنصر الجديد بيريليوم. وقد يبدو من قراءتنا لنجاحاتهم في تلك الأيام أن الأمر لم يكن يتطلب سوى أن يهز الكيميائي حجرا ليتساقط منه على الفور عنصر جديد . لكن في الحقيقة كان كل اكتشاف نتيجة لعمل دقيق ودؤوب . فقد كانت تستخدم وتتطور أدوات وتقنيات التحليل والاختبار بواسطة المحللين والكشافين الذين كانوا يتعرفون على الأملاح ويعينون كمية الفلز في الخام ودرجة نقاء المواد، وقد وجد الذين برزوا في هذه التقنيات سوقا جاهزة لفنونهم وتطور منهم بعد ذلك نوع من المتخصصين هم الكيميائيون المحللون. وأحد المهمين في هذا المجال هو مارتين هنريتش كلابروث .
مارتين هنريتش كلابروث
ولد مارتين هنريتش كلابروث في السنة نفسها التي ولد فيها لافوازييه وقد اضطلع بدور كبير في إدخال كيمياء لافوازييه الجديدة إلى الولايات الألمانية مهمة ليست سهلة لأن ستال - نقيض لافوازييه - كان ألمانيا). بدأ كلابروث صبيا في صيدلية وانتهى به الأمر مديرا للصيدلية المملوكة لفالنتين روز الذي علم سلسلة طويلة من الكيميائيين والصيادلة. توفي روز الأب بعد فترة وجيزة من تعيين كلابروث مديرا ، والذي تركت له مهمة تنشئة ابنه الأصغر فالنتين. وقد قام كلابروث بواجبه بكل إخلاص، وأصبح الابن صيدلانيا وكيميائيا كما صار أبناؤه بدورهم كذلك فيما بعد .
كان كلابروث كذلك يجمع المعادن ويقوم بتحليلها ، ومثل بقية الكيميائيين كانت تواجهه أحيانا حالات لا ينطبق فيها مجموع النتائج على 100%، وعلى النقيض من عادة بعض الكيميائيين الآخرين، لم يكن يفترض أن هذه الفروق راجعة لوجود أخطاء كما لم يقم بمعالجة النتائج لتأتي متطابقة مع المتوقع. كان يعيد تحاليله بكل دقة وعندما يتأكد من النتائج كان يبدأ البحث عن الجزء الغائب. وفي بعض الأحيان كان يتضح أن الجزء الغائب عنصر جديد . كان كلابروث أول من فصل التيليريوم، وسماه كذلك على الاسم اللاتيني للأرض. قام كلابروث كذلك بتحليل الرمل المغناطيسي الأسود واكتشف التيتانيوم، وهو فلز جديد سماه على اسم تيتان (الأبناء الأوائل للأرض) .
تزوج كلابروث زيجة غنية . الأمر الذي مكنه من إنشاء معمله الخاص. وقد اقتنى مجموعة من المعادن من بينها عينة من البيتشبلند الخام المعروف جيداً) عالجه بالأحماض والحرارة وأخيرا فصل بلورات كبيرة رباعية الأوجه صفراء اللون نقية لملح جديد . وتتعارض الروايات حول ما إذا كان قد فصل العنصر الفلزي الموجود في الملح، لكنه عى الأرجح لم يقم بذلك. غير أنه أيقن أن البلورات لم تكن مركبات لعناصر معروفة، ولذا فقد أرسل الإعلان التالي إلى أكاديمية العلوم البروسية في برلين.
لقد زاد عدد الفلزات المعروفة واحدا من 17 إلى (18) وقد استثرنا منذ بضع سنوات لدى سماعنا باكتشاف آخر كوكب بواسطة سير ويليام هيرشيل . وقد سمي العضو الجديد في المجموعة الشمسية اورانوسس. وإنني اقترح استعارة شرف هذه الكشف العظيم وإطلاق اسم يورانيوم على هذا العنصر (1) .
مع أن اليورانيوم كان يعتبر يوما ما نادرا، إلا أنه أكثر انتشارا في القشرة الأرضية من الزئبق أو الأنتيمون أو الفضة أو الكادميوم، وكانت أملاحه تستخدم كمادة ملونة منذ القدم. وقد فصل الفلز الأبيض الفضي بعد ذلك عندما قام الكيميائي الفرنسي يوجين - ميلكيور بيليجوت باختزال ملح الكلوريد بواسطة البوتاسيوم.
كان كلابروث جد موقر ككيميائي وقد أصبح أول أستاذ للكيمياء في جامعة برلين التي كونت حديثا مع أنه كان في سن 67 في ذلك الوقت. وقد توفي وهو مازال يقوم بالتدريس ويجمع الصخور في سن 74.
وهناك الكثير من القصص المدهشة التي صاحبت اكتشاف عناصر أخرى في هذا العصر، مثل اكتشاف النيوبيوم في عينة من مجموعة جون وينثروب الأصغر أول حاكم المستعمرة خليج ما سيشوسيتس، وهو سيميائي وطبيب وجامع صخور) كذلك اكتشاف السيلينيوم بواسطة برزيليوس في أثناء تحليل بقايا الأرضية في مصنع حمض الكبريتيك، واكتشاف الفاناديوم
بواسطة أندرييه مانويل ديل ريو الأستاذ بمدرسة التعدين في مدينة مكسيكو، واكتشاف البلاديوم الذي أعلن أنه لمجهول، وذلك في منشور أصدره ويليام هايد وولاستون (2) . وفي وجود هذا العدد من الاكتشافات للعناصر الجديدة كان من المفترض أن يقابل اكتشاف كل عنصر بابتهاج عظيم في بداية القرن التاسع عشر. لكن إحدى قواعد الرومانسية كانت تتحدث عن بساطة الطبيعة مما يفترض وجود عدد أقل من العناصر . لذلك كان يقابل كل إعلان عن عنصر جديد ببعض التشكيك. وفي الواقع ينسب لأول كيميائي محترف اكتشاف ثمانية عناصر جديدة - تبعا للقواعد الحديثة - إلا أنه قاوم فكرة أنها عناصر حقيقية لشعوره أن ذلك ضد وحدة الطبيعة . لم يكن يثق في الملخصات ولا في النظريات الميكانيكية التي كانت تحاول إخضاع الطبيعة للمنطق بما في ذلك النظرية الذرية لدالتن . لكن في ذلك الحين كان هو الآخر نتاجًا إضافيًا متعارضًا. فقد كان ميلاده في مكان رومانسي من بيئة طبيعية حيث أراضي كورنوول المكسوة بالعشب التي تكتسحها الرياح من كل جانب، وقرى الصيادين العتيقة والنصب الحجرية السلتية (*)، والانحدارات القاطعة التي تعلن انتهاء الأرض - لكنها بيئة طبيعية اقتحمتها للتو الآلة البخارية بواسطة رجال المناجم الكورنويين. وقد ظل طوال حياته ممزقًا بين الرومانسية والتقدم وكان أكثر شيئين أحبهما: الكيمياء وصيد الأسماك بالصنارة .
تعليق