مصباح الدروبي فنان يرسم الوجدان بريشة ساخرة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مصباح الدروبي فنان يرسم الوجدان بريشة ساخرة

    مصباح الدروبي فنان يرسم الوجدان بريشة ساخرة


    أرشيف وجداني لعصر بأكمله ونظرة عميقة للإنسان والواقع.
    الاثنين 2025/04/28
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    رسام شديد الالتصاق بهموم الناس

    الكاريكاتير ليس مجرد لعب بالأشكال والوجوه وأحجامها، إنه صوت ناقد حاد وساخر من كل الأحداث الحارقة في الحياة، ذلك ما أدركه مصباح الدروبي، الذي اقترب عبر رسوماته من مجتمعه، مصورا أبرز الأسماء الفاعلة فيه، ومعبرا عن هواجس أبنائه ومؤرخا لمراحل مهمة ومفصلية في تاريخ وطنه.

    على ضفاف نهر الفرات، حيث يهمس الماء بالأسرار للقصب والغروب، وُلد الفنان مصباح الدروبي، لا كطفل عادي، بل كحكاية تتشكّل في حضن الطبيعة وتترعرع على أطياف الألوان الأولى. لم يكن المشهد الطفولي الذي احتضنه مشهدا عاديا: نهر، وضوء، وسكينة ريفية تُغري الخيال بالتفلّت والجنون اللذيذ.

    في مدينته الرقة، لم تكن الجدران مجرد كتل إسمنتية، بل دفاتر شاسعة لحلمه الصغير. كان الطفل مصباح يتسلل بخياله إلى شخوص المجلات المصوّرة التي كان يشتريها من مصروفه اليومي، ويعيد رسمها لا كما هي، بل كما تخيّلها، كما رآها من الداخل لا الخارج. كل خط كان بمثابة نبض، وكل لون كان ذريعة جديدة للحياة.

    كان الرسم بالنسبة إليه فعلا وجوديا، كأنما يرسم ليكتشف نفسه ويُعيد ترتيب العالم على طريقته. وعندما رسم أول مرة على جدار المدرسة، لم يكن يدرك أن تلك الضربة الأولى من الفحم ستكون أوّل خطوة في رحلة طويلة بين الحبر والوجدان. يومها تجمهر زملاؤه حوله، كأنهم يشهدون على ولادة شاعر بصري والمدير لم يُعاقبه، بل رأى فيه بذرة موهبة، تستحق العناية.

    لم يكن الفن ملاذه الوحيد، بل كان يمشي بين الفن والقانون كما يسير الرسام على حافة الضوء والظل. اختار دراسة الحقوق، لا كخيار بديل، بل كجسر آخر نحو العدالة. فكأنما رأى أن المحاماة والكاريكاتير وجهان لعملة واحدة: كلاهما يسعى لكشف الحقيقة، ومناصرة الضعيف، والتعبير عن صوت لا يسمعه أحد.
    الالتصاق بهموم الناس



    الكاريكاتير عند مصباح الدروبي لم يكن أبدا مجرد صورة؛ كان موقفا، ومقالا، وفكرة تُختصر في لقطة


    مصباح الدروبي لم يكن فنانا منعزلا عن المجتمع، بل كان شديد الالتصاق بهموم الناس، يستمع لآهاتهم، ويتتبع نبض الشارع ليحوّله إلى خطوط سوداء على ورقة بيضاء. تأثّر كثيرا بأعمال علي فرزات، فكان يرى أن الريشة الساخرة أشبه بخنجر مغطّى بالمحبة: يجرح ليوقظ، لا ليؤذي.

    رسم الظلم، الفساد، العنف، التناقضات، لكنّه فعل ذلك بابتسامةٍ ساخرة، تخترق المشهد دون أن تلوثه بالكراهية. الكاريكاتير عنده لم يكن أبدا مجرد صورة؛ كان موقفا، ومقالا، وفكرة تُختصر في لقطة واحدة.

    مع مرور السنوات لم يكتفِ الدروبي بالكاريكاتير، بل وسّع أفقه ليدرس فن الغرافيك. في حلب، وتحت إشراف فنانين كبار مثل سعيد طه وحنيف حمو، تعرّف على عالمٍ جديد من التكوينات البصرية، حيث صار الخط لغةً، واللون ذاكرة، والكتلة إحساسا متراصّا. هناك تفتّح على مزج بين الواقعية والتجريد، بين البُعد الجمالي والوظيفة الرمزية، فصار عمله أكثر نضجا وأكثر فلسفة.

    كما تأثّر بأعمال خزيمة علواني وآخرين، فراح يطوّر خطه الخاص، ذلك الذي يمزج بين التراث الشعبي والتأمل الحداثي. المرأة في لوحاته، مثلاً، لم تكن مجرد “جسد جميل”، بل كانت أيقونة رمزية، زهرة تحمل كل تناقضات الحياة: الحنان والقوة، الجمال والحزن، الحضور والغياب.

    رسم الشخصيات العامة بأسلوب كاريكاتيري، لكنّها لم تكن رسوما ساخرة بقدر ما كانت محاولات لالتقاط “الروح الخفية” في الوجوه. ملامحهم ليست خطوطا فحسب، بل آثارٌ من تجاربهم، بصمات من أفكارهم، وكأنما كان يسعى لرسم ما لا يُرسم: الخيال الداخلي للشخصية.
    لم يكن فنانا منعزلا عن المجتمع، بل كان يتتبع نبض الشارع ليحوّله إلى خطوط سوداء على ورقة بيضاء

    بدأ اسمه يتردد في أوساط الفن، بعدما شارك في معارض فنية في الرقة خلال أواخر التسعينات. كانت تلك البداية الحقيقية، حيث شعر بأن صوته بات مسموعا، وأن فنه لم يعد يُستهلك فقط بين الأصدقاء. من هنا، توسّعت رقعة تأثيره لتصل إلى الصحف السورية الرياضية، ثم انتقل إلى الصحافة الفلسطينية والخليجية.

    ومن صحيفة إلى أخرى، كان اسمه يتنقّل كأنه توقيع بصري لا يُخطئه أحد. رسم للموقف الرياضي، البعث، الثورة، المدار العراقية، الهدف الفلسطينية، الجسر الإلكترونية الإماراتية. وكان يكتب أيضا للأطفال، فغرس في نفوسهم بذور الخيال والتفكير عبر قصصه المنشورة في “سعد” و”سامر”.

    كان مثقفا عضويا بالمعنى الحقيقي للكلمة، لا يعرفُ الحدود بين الأنواع التعبيرية. يرى أن الفن ليس مهنة ولا ترفا، بل حاجة داخلية، دعوة مستمرة لفهم الحياة وتفسيرها. ومن خلال مقالاته ورسومه، راح يُشكّل خطاباً بصرياً متكاملاً، يعكس رؤيةً ناضجة لعالمٍ لا يزال يجلله الغموض والاضطراب.

    رغم انشغاله اليومي كمحامٍ، ورغم مشقات الحياة، ظلّ الفن شريكه الذي لا ينفصل عنه. يسهر الليالي ليكمل لوحة، أو يرسم شخصية أثارت فضوله في مشهدٍ تلفزيوني. الأحداث السياسية من لبنان إلى فلسطين، من اليمن إلى العراق، كلها كانت مواد أولية في مصنعه البصري.

    ومع كل لوحة جديدة، كان يُضيف لبنة إلى مشروعه الفني الممتد، مشروع توثيق الوجدان العربي بلغة الصورة.
    ريشة ترسم الوجدان



    اليوم، بعد أكثر من نصف قرن من الإبداع، تبدو أعمال مصباح الدروبي كأرشيف وجداني لعصر بأكمله. رسومه ليست مجرد إنتاج فني، بل شهادات على حقبٍ وتحوّلات، بل وتحوّلات داخل النفس البشرية ذاتها.

    وفي زمنٍ يتكاثر فيه الضجيج، ويبهت فيه المعنى، يظلّ أمثال مصباح الدروبي منارات صامتة، تُضيء من خلال الفن، من خلال الالتزام، من خلال نظرةٍ عميقة إلى الإنسان.

    هو لا يرسم ليُبهر، بل يرسم ليُفكّر. لا يزخرف الواقع، بل يعرّيه. لا يُدلّل على براعته، بل يُسائلنا: هل رأيتم ما أراه؟ هل شعرتم بما أشعر به؟

    مصباح الدروبي ليس مجرد فنان. هو ذاكرة، هو نبض، هو مرآة، وهو في النهاية ريشةٌ ترسم الوجدان.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    عبدالكريم البليخ
    صحافي سوري
يعمل...