محمد الرفيع لـ"العرب": أرسم لأتصالح مع العالم لا لأنفصل عن الناس
فنان يرسم وطنه من ضفاف الفرات إلى الأزقة الشعبية.
الخميس 2025/04/17
ShareWhatsAppTwitterFacebook

فنان يحتفي بالبساطة الإنسانية
هناك من الفنانين التشكيليين من يختارون البساطة وتتبع أرواح الأمكنة والأزمنة بأعين الأطفال المندهشين، ليعيدوا استنطاقها من جديد، دون تعسف أو تزييف أو تركيب لا ينسجم مع الروح الطاغية للأمكنة، من هؤلاء الفنان السوري محمد الرفيع الذي كان لـ"العرب" معه هذا الحوار.
الفنان التشكيلي محمد الرفيع هو أحد أبرز رموز الفن الواقعي في سوريا، وُلد في مدينة الرّقة عام 1963، واستطاع أن يبلور عبر مسيرته الفنية أسلوبا متفردا يجمع بين بساطة التعبير وعمق الفكرة، وبين التقنيات الواقعية واللمسات الرمزية التي تنبض بحس إنساني شفيف.
منذ بداياته في عام 1985، كرّس الرفيع لوحاته لتكون مرآة تعكس الواقع المحلي، وتوثّق التراث الشعبي، وتلتقط نبض الإنسان والمكان بروح صادقة. أعماله ليست فقط انعكاسات بصرية لحياة يومية أو ملامح فراتية حالمة، بل هي حالات شعورية نابضة تستلهم من البيئة الفراتية، ومن تقاطعات الضوء والظل، ومن عمق الوجوه والمشاهد الحياتية، فلسفة تجسد التفاعل العميق بين الفنان والعالم من حوله.
يؤمن الرفيع بأن اللون يحمل ذاكرة مستقلة، وأن الفن مسؤولية أخلاقية تجاه الواقع لا تكتفي بنقله، بل تسعى لإعادة تشكيله كما يجب أن يكون، ولهذا تنبثق لوحاته من وجدان عميق يرفض التجريد المفرط ويدعو إلى واقعية معاصرة قادرة على التعبير عن آلام الإنسان العربي وأحلامه، فتتحول كل ضربة فرشاة إلى صرخة احتجاج أو ترنيمة أمل.
من خلال مشاركاته في أكثر من خمسة وستين معرضا داخل سوريا وخارجها، وحصوله على جوائز مرموقة، أصبح محمد الرفيع أيقونة تشكيلية تربط بين التراث والحاضر، وتغرس في كل لوحة بصمة روحية وفلسفية تُجسد تطلعه الدائم نحو فن إنساني يتجاوز الشكل إلى الجوهر، ويتخطى الزمان ليبقى شاهدا حيا على الوجدان الجمعي وروح المكان. وأعمال الفنان تتسم بالبساطة والعمق.
الفن وبيئته
محمد الرفيع: البساطة تصنع الجمال ولكن أيضا يجب أن تكون عميقة ومقرونة بعمق الأداء لتكون للوحة مميزاتها وأسلوبها
تسأله “العرب” كيف يمكن للفنان أن يوازن بين العفوية والرسالة الفلسفية التي يود إيصالها من خلال لوحاته؟ ليقول “لا يزال الفن مظهرا من مظاهر الشعور والانعكاس النفسي، وحالة خلق تنبض بالحياة لتكشف عن إحساس الفنان، الذي يجمع بين التفكير والإلهام في التعبير، والقدرة على القبض على مفاتيح الألوان ومدى ملاءمتها في التحرك بين المفردات والأشكال الحية، وتناغم مريح لبصر المتلقي.”
ويضيف “إن محاورة الألوان وتدرجاتها تتآلف لتصبح رهن أنامل الفنان في لحظة تكشف مكنوناته وقريحته بإيقاع لا محدود، وتصنع عوالم تتماشى مع الموضوع الذي اختاره. البساطة تصنع الجمال، ولكن أيضا يجب أن تكون عميقة ومقرونة بعمق الأداء، لتكون للوحة مميزاتها وأسلوبها، والوعي بالإحساس لتكتمل عناصر الإبداع الفني بها.”
ويرى أن “اقتران العفوية بالأداء مع فلسفة الفنان وكشف مكنوناته الداخلية يتطلب تركيزا دقيقا، ليفتح العقل القيم الروحية والوجدانية، ومقرونة بتلك البساطة التي تحدثنا عنها، ضمن رؤية جمالية تسمح للمتلقي بخلق حوار بصري بكل شفافية، ورؤية ثاقبة تغوص في أمشاج اللوحة، وإظهار الإحساس بالمكان أو الملامح ضمن أبعاد جمالية، وتحليل العناصر الطبيعية أو التراثية في مدى رحب، ضمن رؤية المبدع الذي نقل بدقة كل ما يختلج في نفسه وكينونته وتراكمات رؤاه التي يفردها بيسر، لأنها الحاضرة بقوة لحظة الأداء، ويصبح تقليدها أكثر تعقيدا لأنها من السهل الممتنع، ولهذا نجد لكل فنان بصماته وأسلوبه ومذهبه الخاص به.”
ويوضح “أجلس أمام اللوحة بمقدار حبّي لها، وأدخل معها في حوارات عديدة حتى يكتمل نشيد الفكرة واللون، فالحوار مع الطبيعة على بساطتها يتم بحوار شفاف مع المفردات والإيحاءات التي تتملك المخيلة، وكذلك الوجوه والأماكن. إلا أن هناك بعض الأعمال التي جنحت بها إلى التعبيرية الواقعية، فهي تعكس حوارا جديدا مع الذات والآخرين من خلال تحريض عين المتلقي وعاطفته وثقافته البصرية، والتقاط إشارات ورموز العمل التشكيلي.”
وعن اللوحة باعتبارها مرآة الروح، كيف تعكس أعماله جوهر الإنسان وأحاسيسه الخفية؟ يقول “اللوحة لا تأتي مصادفة، فالفنان الأمين له ما يحفظه من الاندفاع في تيار السائد والمألوف. الفن قادر على أن يصالحنا مع الأشياء، ومع العالم، ومن يصادف شيئا جميلا مفرطا في الجمال أو الفكر، يصبح هنالك تآلف يشيع البهجة والإحساس، ما يكفي لاكتمال لوحة تترجمها أصابع الفنان بكل رشاقة وحيوية. فكل الوجوه التي رسمتها تركزت على الحضور الإنساني بشتى الانفعالات، ورصدت العديد من الحالات الوجدانية أو البيئية أو الواقع المرير.”
في لوحات الفنان التشكيلي الرفيع نجد أن الواقعية متداخلة مع الرمزية، فهل يرى أن الفن قادر على تجاوز الزمن ليصبح شهادة أزلية على الوجود الإنساني؟ يقول “ينبغي أن يكون العمل متفردا وبعيد المنال عمن ينظرون إلى اللوحة بعين واحدة، وحريّ بالفنان أن يعمل على الفكرة التي تكمن وراء الحقيقة، وأن تكون ذلك الجسر الذي يصل المرئي باللامرئي. الفنان يبذل جهدا فكريا لوصل الفكرة بالعناصر وتآلفها مع بعضها البعض، وتستحوذ عليه رؤية يصوغها ويجسدها ليُشرك بها الآخرين، ويسعى لإيصالها وتحقق تأثيرا بصريا وعاطفيا. إذا، هي لغة حوار بصري، يتطلب مخاطبا قادرا على فهم أجزاء العمل الفني وإدراك مضامينه، لأن لغة الفن مركبة وعميقة، ضمن جمالية انفعالية ومعرفية، وتراكم مفرداته في سياقه التاريخي وتطوره.”
أغلب الأماكن التي جسدها الفنان من بوابات وقلاع وأحياء شعبية، ترصد الحضور الإنساني الوجداني برؤية جمالية روحية
أما عن كيف يتعامل الفنان مع مفهوم المكان في لوحاته؟ هل هو مجرد خلفية أم كيان حي ينبض داخل الإطار الفني؟ فيشرح “لم يكن الفن في يوم من الأيام مظهرا من مظاهر العقل فحسب، بل هو انعكاس لمظهر شعوري وروحي، يتراوح بين التفكير وجمالية التعبير. إن الإحساس بالمكان له أبعاد ومذاق مميز في ذاكرتي، ويأخذ حيزا ملموسا لجهة الوقوف أمام مفردات الطبيعة والتراث، كونها نتاجا لأنشطة إنسانية في مراحل مختلفة، فلا بد من هذه المقارنة البصرية بين جمال المكان والانجذاب إليه ككائن حي ذي ملامح فنية، والتعامل معه بوعي يظهر عدة دلالات، لتبقى عين الرائي تتعامل معها كحالة إنسانية يكون المشهد البصري فيها أكثر إشراقا، وتخلق حوارا من خلال رسم ما يثبت في الذاكرة بعد ترجمته إلى لوحة تنبض حدودها داخل الإطار الفني، ثم يتخطى فضاءها لتتلاقى مع شهادة المتلقي.”
ويكمل “أغلب الأماكن التي جسّدتها في أعمالي، من بوابات وقلاع وأحياء شعبية، هي دليل على الحضور الإنساني الوجداني، برؤية جمالية وإيقاع تشكيلي وقيم روحانية، بتراكيب لونية، وانعكاس لما أشعر به حيال المفردات، ممتطيا صهوة الإحساس والانتماء لها.”
وكيف يترجم الفنان، في نظره، معاناة الإنسان وآماله؟ وهل يعتقد أن الفنان مسؤول عن تجسيد الواقع كما هو أم كما يجب أن يكون؟ يقول محمد الرفيع “الفن هو النافذة التي تطل على الجانب السامي من النفس البشرية، فيجدر أن يكون العمل ساحة حوار تشكيلي، وشاهدا على الواقع وتطوره، وما يثيره من مواضيع شتى تترجم غناه وتأثيراته ضمن سياق مكثف ودراسات متأنية.”
ويتابع “عندما أرصد معاناة الإنسان وما يكابده من ظلم أو قهر أو فقدان، يكون هذا الرصد بمثابة صرخة احتجاج، وإشارة إلى المشاكل الكبيرة المتفاقمة، مشيرا إليها عبر موضوعات نصوغها بالفكرة والتنفيذ وطرحها بكل وجدانية، لتخرج بصيغة فنية مبتكرة من خلال العناصر وجوهرها، فأجدني مسؤولا عن تجسيد هذا الواقع، معبرا عنه بانفعالاتي الذاتية تبعا لوجهة النظر والشعور، معتمدا على خبرتي الذاتية دون التقيد بالنسب والأبعاد.”
ويواصل “الطبيعة هي كتاب الفن الأكبر، الذي يقرؤه كل إنسان بلغة الوجدان، لاسيما أن الطبيعة متجددة ومتعددة الألوان، وتختلف باختلاف تحركات البحر والشمس وتدرجات السماء بزرقتها وغروبها، ونلاحظ أثر الضوء كل مرة بشكل مختلف وبشعور يتجدد. رسمتُ الفرات بعدة لوحات، وفي كل لوحة تنحني له ألواني بخشوع، ويفيض سحره في ذراتي الداخلية، وأراه بعيون مختلفة عمّا سبق، أُبثّ تنهداتي له عبر ضربات الريشة بعفوية، وأعيش معه حالة من التجلي والانخطاف، تلخص بمجموعها شخصيتي الفنية والإنسانية الحقيقية.”
الدهشة مصدر الفن

يقول الرفيع “الفن التشكيلي هو استجابة لحياتنا الاجتماعية والفكرية والثقافية، ويفتح آفاقا أكثر اتساعا، ويأخذ شكلا متحركا، انعكاسا لكل ما نشعر به من أحداث طارئة ومشاهد ومواقف، ما يجعلني أتفاعل معها وتتراكم، لتخرج عملية الخلق الفني والإبداعي. نحن بحاجة إلى إبداع تشكيلي يقول كل شيء، ويعيد النظر في كل شيء، ويجدد علاقتنا بالأرض والإنسان، ويحمل في ملامحه آلام الإنسانية.
وإن الانفصال عن الواقع هو انفصال عن الناس، ولو تخلّينا عنهم، سيبقى إبداعنا زائفا، وفي حالة عجز عن إبداع حقيقي غير مكتمل الملامح. وإذا كنت بمنأى عن المجتمع والاقتراب منه والتغلغل فيه، فلا يحق الانتماء إليه والعيش في كنفه.”
أما عن العلاقة بين الرمز والمباشرة في الفن، فيشرح الرفيع “إن مسيرة الفنان تمر بانعطافات كثيرة ومراحل مختلفة، وكل مرحلة لها ألوانها واختلافاتها بمواضيعها وصياغاتها، يستخدم فيها الفنان أشكالا مختلفة لخلق حالة تعبيرية بالغة الإيحاء وذات فكرة عميقة وجديدة، تكون قوية التأثير، لربما تطرح قضية إنسانية بأشكال متعددة وعناصر جديدة ورموز تخدم الأفكار المطروحة بصورة بليغة.”
ويتابع “ما يميز تجربتي هو السعي الدائم نحو فن ذي أشكال وأحجام تُمكنني من الدخول إلى رواق العمل الفني بدون قيد أو تقرير مسبق، بفضل التوهج العاطفي الحكيم وعفويته، بإيقاعات ألوانه المدروسة، وانسجام أشكاله ولمسات الفرشاة المتأنية. الدهشة هي مصدر الفن، على حد اعتقاد الإغريق القدماء، وهذا ما يجعلني أطيل في تنفيذ العمل التشكيلي دون فتور، محاولا ألا يفوتني شيء من أدقّ العناصر وما ينبثق عنها من تآلف بينها وبين الألوان وتجليها الجمالي.”
نسأله في حال طلب منه رسم لوحة أخيرة تجسد فلسفته في الحياة، ماذا سيرسم؟ ولماذا؟ ليجيبنا “كل ما يرتبط بنشاط الإنسان الخارجي وتفاعله مع الحياة والمجتمع، والاختلاط بالناس على اختلاف مشاربهم، ومنها ما يتعمّق في عواطف المبدع ووجدانه وانفعالاته، كالحب، والحزن، والخيبة، والأمل، والدهشة، والندم، والحرب، والسلام، والطفولة، وشواهد الآثار، وضفاف الفرات، ورائحة التراث.”
ويتابع “سنوات طويلة وأنا الشاهد على مجمل تلك المفردات، وأغلبها كانت حاضرة ومذيّلة بتوقيعي على العديد من أعمالي. أما اليوم، فأكثر ما يرافقني هو شعوري بالخيبة، وضياع الخير، والحق، والفضيلة، والجمال. وغالبا ما أطرح هذا السؤال على نفسي، في محاولة لاختزال كل ما مررت به من أزمات واختناقات روحية، هيمنت على العديد من المراحل والمواقف المضطربة، التي جعلت من قلق الكتابة والأفكار والأدبيات تؤسس لرسم بانوراما ربما تأخذ طريقها إلى النور ونحن في خضم الظلام، ما يجعلها تعكس مجريات الواقع، مستلهما من الفن ذلك الخزان الأعظم للمشاعر الإنسانية، إيمانا بالهدوء الجمالي للوحة.”
ويواصل محمد الرفيع “أطمح إلى إزاحة القناع وكشف الزيف الذي يتشدّق به الأغلبية عندما يتحدثون عن الإنسانية والتفنن بمسمياتها، و(الإنسانية تغطّ في سبات عميق). نتبجح بالعدالة، وقوى الشر في كل الأصقاع تخطف حبّات الأرز من فم طفل جائع، هذا إن لم تُمطر جسده النحيل بوابل الشظايا. أريد فضح ملامح كل الطغاة الذين حكموا لعدة عقود بالنار، والقمع، والأصفاد.”

ShareWhatsAppTwitterFacebook

عبدالكريم البليخ
صحافي سوري

عبدالكريم البليخ
فنان يرسم وطنه من ضفاف الفرات إلى الأزقة الشعبية.
الخميس 2025/04/17
ShareWhatsAppTwitterFacebook

فنان يحتفي بالبساطة الإنسانية
هناك من الفنانين التشكيليين من يختارون البساطة وتتبع أرواح الأمكنة والأزمنة بأعين الأطفال المندهشين، ليعيدوا استنطاقها من جديد، دون تعسف أو تزييف أو تركيب لا ينسجم مع الروح الطاغية للأمكنة، من هؤلاء الفنان السوري محمد الرفيع الذي كان لـ"العرب" معه هذا الحوار.
الفنان التشكيلي محمد الرفيع هو أحد أبرز رموز الفن الواقعي في سوريا، وُلد في مدينة الرّقة عام 1963، واستطاع أن يبلور عبر مسيرته الفنية أسلوبا متفردا يجمع بين بساطة التعبير وعمق الفكرة، وبين التقنيات الواقعية واللمسات الرمزية التي تنبض بحس إنساني شفيف.
منذ بداياته في عام 1985، كرّس الرفيع لوحاته لتكون مرآة تعكس الواقع المحلي، وتوثّق التراث الشعبي، وتلتقط نبض الإنسان والمكان بروح صادقة. أعماله ليست فقط انعكاسات بصرية لحياة يومية أو ملامح فراتية حالمة، بل هي حالات شعورية نابضة تستلهم من البيئة الفراتية، ومن تقاطعات الضوء والظل، ومن عمق الوجوه والمشاهد الحياتية، فلسفة تجسد التفاعل العميق بين الفنان والعالم من حوله.
يؤمن الرفيع بأن اللون يحمل ذاكرة مستقلة، وأن الفن مسؤولية أخلاقية تجاه الواقع لا تكتفي بنقله، بل تسعى لإعادة تشكيله كما يجب أن يكون، ولهذا تنبثق لوحاته من وجدان عميق يرفض التجريد المفرط ويدعو إلى واقعية معاصرة قادرة على التعبير عن آلام الإنسان العربي وأحلامه، فتتحول كل ضربة فرشاة إلى صرخة احتجاج أو ترنيمة أمل.
من خلال مشاركاته في أكثر من خمسة وستين معرضا داخل سوريا وخارجها، وحصوله على جوائز مرموقة، أصبح محمد الرفيع أيقونة تشكيلية تربط بين التراث والحاضر، وتغرس في كل لوحة بصمة روحية وفلسفية تُجسد تطلعه الدائم نحو فن إنساني يتجاوز الشكل إلى الجوهر، ويتخطى الزمان ليبقى شاهدا حيا على الوجدان الجمعي وروح المكان. وأعمال الفنان تتسم بالبساطة والعمق.
الفن وبيئته

تسأله “العرب” كيف يمكن للفنان أن يوازن بين العفوية والرسالة الفلسفية التي يود إيصالها من خلال لوحاته؟ ليقول “لا يزال الفن مظهرا من مظاهر الشعور والانعكاس النفسي، وحالة خلق تنبض بالحياة لتكشف عن إحساس الفنان، الذي يجمع بين التفكير والإلهام في التعبير، والقدرة على القبض على مفاتيح الألوان ومدى ملاءمتها في التحرك بين المفردات والأشكال الحية، وتناغم مريح لبصر المتلقي.”
ويضيف “إن محاورة الألوان وتدرجاتها تتآلف لتصبح رهن أنامل الفنان في لحظة تكشف مكنوناته وقريحته بإيقاع لا محدود، وتصنع عوالم تتماشى مع الموضوع الذي اختاره. البساطة تصنع الجمال، ولكن أيضا يجب أن تكون عميقة ومقرونة بعمق الأداء، لتكون للوحة مميزاتها وأسلوبها، والوعي بالإحساس لتكتمل عناصر الإبداع الفني بها.”
ويرى أن “اقتران العفوية بالأداء مع فلسفة الفنان وكشف مكنوناته الداخلية يتطلب تركيزا دقيقا، ليفتح العقل القيم الروحية والوجدانية، ومقرونة بتلك البساطة التي تحدثنا عنها، ضمن رؤية جمالية تسمح للمتلقي بخلق حوار بصري بكل شفافية، ورؤية ثاقبة تغوص في أمشاج اللوحة، وإظهار الإحساس بالمكان أو الملامح ضمن أبعاد جمالية، وتحليل العناصر الطبيعية أو التراثية في مدى رحب، ضمن رؤية المبدع الذي نقل بدقة كل ما يختلج في نفسه وكينونته وتراكمات رؤاه التي يفردها بيسر، لأنها الحاضرة بقوة لحظة الأداء، ويصبح تقليدها أكثر تعقيدا لأنها من السهل الممتنع، ولهذا نجد لكل فنان بصماته وأسلوبه ومذهبه الخاص به.”
ويوضح “أجلس أمام اللوحة بمقدار حبّي لها، وأدخل معها في حوارات عديدة حتى يكتمل نشيد الفكرة واللون، فالحوار مع الطبيعة على بساطتها يتم بحوار شفاف مع المفردات والإيحاءات التي تتملك المخيلة، وكذلك الوجوه والأماكن. إلا أن هناك بعض الأعمال التي جنحت بها إلى التعبيرية الواقعية، فهي تعكس حوارا جديدا مع الذات والآخرين من خلال تحريض عين المتلقي وعاطفته وثقافته البصرية، والتقاط إشارات ورموز العمل التشكيلي.”
وعن اللوحة باعتبارها مرآة الروح، كيف تعكس أعماله جوهر الإنسان وأحاسيسه الخفية؟ يقول “اللوحة لا تأتي مصادفة، فالفنان الأمين له ما يحفظه من الاندفاع في تيار السائد والمألوف. الفن قادر على أن يصالحنا مع الأشياء، ومع العالم، ومن يصادف شيئا جميلا مفرطا في الجمال أو الفكر، يصبح هنالك تآلف يشيع البهجة والإحساس، ما يكفي لاكتمال لوحة تترجمها أصابع الفنان بكل رشاقة وحيوية. فكل الوجوه التي رسمتها تركزت على الحضور الإنساني بشتى الانفعالات، ورصدت العديد من الحالات الوجدانية أو البيئية أو الواقع المرير.”
في لوحات الفنان التشكيلي الرفيع نجد أن الواقعية متداخلة مع الرمزية، فهل يرى أن الفن قادر على تجاوز الزمن ليصبح شهادة أزلية على الوجود الإنساني؟ يقول “ينبغي أن يكون العمل متفردا وبعيد المنال عمن ينظرون إلى اللوحة بعين واحدة، وحريّ بالفنان أن يعمل على الفكرة التي تكمن وراء الحقيقة، وأن تكون ذلك الجسر الذي يصل المرئي باللامرئي. الفنان يبذل جهدا فكريا لوصل الفكرة بالعناصر وتآلفها مع بعضها البعض، وتستحوذ عليه رؤية يصوغها ويجسدها ليُشرك بها الآخرين، ويسعى لإيصالها وتحقق تأثيرا بصريا وعاطفيا. إذا، هي لغة حوار بصري، يتطلب مخاطبا قادرا على فهم أجزاء العمل الفني وإدراك مضامينه، لأن لغة الفن مركبة وعميقة، ضمن جمالية انفعالية ومعرفية، وتراكم مفرداته في سياقه التاريخي وتطوره.”
أغلب الأماكن التي جسدها الفنان من بوابات وقلاع وأحياء شعبية، ترصد الحضور الإنساني الوجداني برؤية جمالية روحية
أما عن كيف يتعامل الفنان مع مفهوم المكان في لوحاته؟ هل هو مجرد خلفية أم كيان حي ينبض داخل الإطار الفني؟ فيشرح “لم يكن الفن في يوم من الأيام مظهرا من مظاهر العقل فحسب، بل هو انعكاس لمظهر شعوري وروحي، يتراوح بين التفكير وجمالية التعبير. إن الإحساس بالمكان له أبعاد ومذاق مميز في ذاكرتي، ويأخذ حيزا ملموسا لجهة الوقوف أمام مفردات الطبيعة والتراث، كونها نتاجا لأنشطة إنسانية في مراحل مختلفة، فلا بد من هذه المقارنة البصرية بين جمال المكان والانجذاب إليه ككائن حي ذي ملامح فنية، والتعامل معه بوعي يظهر عدة دلالات، لتبقى عين الرائي تتعامل معها كحالة إنسانية يكون المشهد البصري فيها أكثر إشراقا، وتخلق حوارا من خلال رسم ما يثبت في الذاكرة بعد ترجمته إلى لوحة تنبض حدودها داخل الإطار الفني، ثم يتخطى فضاءها لتتلاقى مع شهادة المتلقي.”
ويكمل “أغلب الأماكن التي جسّدتها في أعمالي، من بوابات وقلاع وأحياء شعبية، هي دليل على الحضور الإنساني الوجداني، برؤية جمالية وإيقاع تشكيلي وقيم روحانية، بتراكيب لونية، وانعكاس لما أشعر به حيال المفردات، ممتطيا صهوة الإحساس والانتماء لها.”
وكيف يترجم الفنان، في نظره، معاناة الإنسان وآماله؟ وهل يعتقد أن الفنان مسؤول عن تجسيد الواقع كما هو أم كما يجب أن يكون؟ يقول محمد الرفيع “الفن هو النافذة التي تطل على الجانب السامي من النفس البشرية، فيجدر أن يكون العمل ساحة حوار تشكيلي، وشاهدا على الواقع وتطوره، وما يثيره من مواضيع شتى تترجم غناه وتأثيراته ضمن سياق مكثف ودراسات متأنية.”
ويتابع “عندما أرصد معاناة الإنسان وما يكابده من ظلم أو قهر أو فقدان، يكون هذا الرصد بمثابة صرخة احتجاج، وإشارة إلى المشاكل الكبيرة المتفاقمة، مشيرا إليها عبر موضوعات نصوغها بالفكرة والتنفيذ وطرحها بكل وجدانية، لتخرج بصيغة فنية مبتكرة من خلال العناصر وجوهرها، فأجدني مسؤولا عن تجسيد هذا الواقع، معبرا عنه بانفعالاتي الذاتية تبعا لوجهة النظر والشعور، معتمدا على خبرتي الذاتية دون التقيد بالنسب والأبعاد.”
ويواصل “الطبيعة هي كتاب الفن الأكبر، الذي يقرؤه كل إنسان بلغة الوجدان، لاسيما أن الطبيعة متجددة ومتعددة الألوان، وتختلف باختلاف تحركات البحر والشمس وتدرجات السماء بزرقتها وغروبها، ونلاحظ أثر الضوء كل مرة بشكل مختلف وبشعور يتجدد. رسمتُ الفرات بعدة لوحات، وفي كل لوحة تنحني له ألواني بخشوع، ويفيض سحره في ذراتي الداخلية، وأراه بعيون مختلفة عمّا سبق، أُبثّ تنهداتي له عبر ضربات الريشة بعفوية، وأعيش معه حالة من التجلي والانخطاف، تلخص بمجموعها شخصيتي الفنية والإنسانية الحقيقية.”
الدهشة مصدر الفن

يقول الرفيع “الفن التشكيلي هو استجابة لحياتنا الاجتماعية والفكرية والثقافية، ويفتح آفاقا أكثر اتساعا، ويأخذ شكلا متحركا، انعكاسا لكل ما نشعر به من أحداث طارئة ومشاهد ومواقف، ما يجعلني أتفاعل معها وتتراكم، لتخرج عملية الخلق الفني والإبداعي. نحن بحاجة إلى إبداع تشكيلي يقول كل شيء، ويعيد النظر في كل شيء، ويجدد علاقتنا بالأرض والإنسان، ويحمل في ملامحه آلام الإنسانية.
وإن الانفصال عن الواقع هو انفصال عن الناس، ولو تخلّينا عنهم، سيبقى إبداعنا زائفا، وفي حالة عجز عن إبداع حقيقي غير مكتمل الملامح. وإذا كنت بمنأى عن المجتمع والاقتراب منه والتغلغل فيه، فلا يحق الانتماء إليه والعيش في كنفه.”
أما عن العلاقة بين الرمز والمباشرة في الفن، فيشرح الرفيع “إن مسيرة الفنان تمر بانعطافات كثيرة ومراحل مختلفة، وكل مرحلة لها ألوانها واختلافاتها بمواضيعها وصياغاتها، يستخدم فيها الفنان أشكالا مختلفة لخلق حالة تعبيرية بالغة الإيحاء وذات فكرة عميقة وجديدة، تكون قوية التأثير، لربما تطرح قضية إنسانية بأشكال متعددة وعناصر جديدة ورموز تخدم الأفكار المطروحة بصورة بليغة.”
ويتابع “ما يميز تجربتي هو السعي الدائم نحو فن ذي أشكال وأحجام تُمكنني من الدخول إلى رواق العمل الفني بدون قيد أو تقرير مسبق، بفضل التوهج العاطفي الحكيم وعفويته، بإيقاعات ألوانه المدروسة، وانسجام أشكاله ولمسات الفرشاة المتأنية. الدهشة هي مصدر الفن، على حد اعتقاد الإغريق القدماء، وهذا ما يجعلني أطيل في تنفيذ العمل التشكيلي دون فتور، محاولا ألا يفوتني شيء من أدقّ العناصر وما ينبثق عنها من تآلف بينها وبين الألوان وتجليها الجمالي.”
نسأله في حال طلب منه رسم لوحة أخيرة تجسد فلسفته في الحياة، ماذا سيرسم؟ ولماذا؟ ليجيبنا “كل ما يرتبط بنشاط الإنسان الخارجي وتفاعله مع الحياة والمجتمع، والاختلاط بالناس على اختلاف مشاربهم، ومنها ما يتعمّق في عواطف المبدع ووجدانه وانفعالاته، كالحب، والحزن، والخيبة، والأمل، والدهشة، والندم، والحرب، والسلام، والطفولة، وشواهد الآثار، وضفاف الفرات، ورائحة التراث.”
ويتابع “سنوات طويلة وأنا الشاهد على مجمل تلك المفردات، وأغلبها كانت حاضرة ومذيّلة بتوقيعي على العديد من أعمالي. أما اليوم، فأكثر ما يرافقني هو شعوري بالخيبة، وضياع الخير، والحق، والفضيلة، والجمال. وغالبا ما أطرح هذا السؤال على نفسي، في محاولة لاختزال كل ما مررت به من أزمات واختناقات روحية، هيمنت على العديد من المراحل والمواقف المضطربة، التي جعلت من قلق الكتابة والأفكار والأدبيات تؤسس لرسم بانوراما ربما تأخذ طريقها إلى النور ونحن في خضم الظلام، ما يجعلها تعكس مجريات الواقع، مستلهما من الفن ذلك الخزان الأعظم للمشاعر الإنسانية، إيمانا بالهدوء الجمالي للوحة.”
ويواصل محمد الرفيع “أطمح إلى إزاحة القناع وكشف الزيف الذي يتشدّق به الأغلبية عندما يتحدثون عن الإنسانية والتفنن بمسمياتها، و(الإنسانية تغطّ في سبات عميق). نتبجح بالعدالة، وقوى الشر في كل الأصقاع تخطف حبّات الأرز من فم طفل جائع، هذا إن لم تُمطر جسده النحيل بوابل الشظايا. أريد فضح ملامح كل الطغاة الذين حكموا لعدة عقود بالنار، والقمع، والأصفاد.”

ShareWhatsAppTwitterFacebook

عبدالكريم البليخ
صحافي سوري

عبدالكريم البليخ