مسرحية الخرتيت
ليوجين يونسكو
د.علي خليفة
كتاب مسرح العبث مثل يونسكو وبيكيت وأداموف وأرابال لم يكتفوا بالثورة على الموضوعات التي كان يتناولها كتاب المسرح قبلهم، بل إنهم أيضًا ثاروا على الشكل المسرحي؛ وإذا كانت الحياة عندهم تخلو من المعنى، ويفقد الإنسان الاتصال الحقيقي مع غيره في نظرهم - فقد عكسوا هذه الأفكار في موضوعات مسرحياتهم، وفي الوقت نفسه نرى الشكل المسرحي في كثير من مسرحياتهم لا يوجد حدث متصاعد فيه؛ وهذا نتيجة أنهم يرون أن يكون الشكل المسرحي متجاوبًا مع الموضوعات التي يطرحونها في مسرحياتهم في خلوه أيضًا من السير المنضبط ومن التماسك في العقدة.
وهناك أمثلة كثيرة لمسرحيات كتاب العبث تخلو من العقدة ومن الأحداث المترابطة، مثل مسرحية الناسك لأرابال، ومسرحية الأيام السعيدة لصمويل بيكيت، ومسرحية المغنية الصلعاء ليوجين يونسكو.
ومع ذلك فهناك بعض مسرحيات لكتاب العبث الغربيين نرى فيها خيوطًا درامية، وبها قدر من التصعيد الذي يدعو المشاهد لها للشعور بالتشوق لمعرفة تتابع الأحداث فيها.
ونرى هذه الخاصية في بعض مسرحيات يونسكو الطويلة، مثل مسرحية ماكبت ومسرحية الخرتيت. ولعل يونسكو قد رأى أن وجود الخط الدرامي المتصاعد في هذه المسرحيات مما يدعو المشاهد للقدرة على متابعتها دون الشعور بالملل. وغالبًا ما يكسر يونسكو الأحداث المتصاعدة في مثل هذه المسرحيات ببعض المفاجآت والأمور التي تبدو خارجة على السياق، وتسير في إطار فكره في خلو الحياة من المعنى والهدف؛ ولهذا فلا يوجد خط منضبط فيها أو في المسرح الذي يعكس ما يحدث بها.
ومسرحية الخرتيت تسير في خط درامي به قدر كبير من التشويق، فنرى في بدايتها بيرنجيه وصديقه جين يقفان في مكان عام، وينتقد جين بيرنجيه انتقادًا شديدًا لاهماله في لبسه، ولإسرافه في شربه، ولحياته التي تخلو من النظام والانضباط، ويحثه على أن يغير حياته؛ ليكون شبيهًا به في انضباطه.
ثم يفاجأ الصديقان وبعض المارة والمتجمعين في هذا المكان بمرور خرتيت، ويتناقش الحاضرون في هذا الحدث الغريب، ونرى من بينهم شخصًا منطقيًا، يتحدث عن قياس أرسطو بأسلوب فيه سخرية شديدة منه، ولا شك أن يونسكو يعبر عن سخريته من المنطق من خلال هذا الشخص الذي يدعى علم المنطق، ولكنه يصل منه إلى أنه مجرد عبث، ولا نفع منه.
ثم نرى بيرنجيه في عمله في مكتب مطبوعات قانونية، ويتحاور مع رفاقه في هذا المكتب عن الخرتيت الذي رآه البعض، ويكذب بوتار من يدعي أنه رأى خرتيتًا في تلك المدينة التي يعيشون فيها، ويرى أن هذا يتعارض مع المنطق وتصور الأمور بشكل علمي.
ثم نرى إحدى الموظفات في هذا المكتب تشكو من أن زوجها قد مرض، وتكتشف مع العاملين في هذا المكتب بأنه قد تحول لخنرتيت.
وحين يزور بيرنجيه صديقه جين في بيته يراه مريضًا، ويلحظ تغير ملامحه وتغير نبرة صوته، وأخيرًا يصبح خرتيتًا.
وكذلك يتحول المنطقي وبوتار إلى خرتيتين، وهكذا يكون الأشخاص الذين يميلون للمنطق وللانضباط في حياتهم – من وجهة نظر يونسكو - هم أقرب الناس للتحول إلى خراتيت؛ لأنهم يحاولون أن يصبغوا على الحياة أسلوبًا في التعقل والانضباط لا يتوافق معها، فيتحولون لخراتيت ليتكيفوا مع هذه الحياة بما فيها من فوضى ولا معنى كما يرى يونكسو.
أما الشخصيات التي تعيش في فوضى، وبوهيمية فهي – في رأي يونسكو – لا تحتاج إلى أن تتحول إلى خراتيت؛ لأنها تعيش الحياة بالأسلوب التي يتناسب معها، وهي تمثل الخراتيت في طبعها الحيواني، أما الأشخاص المتعاقلون فلا يمكن أن يشعروا بالانسجام مع هذا الواقع المضطرب الذي يخلو من المعنى إلا بتحولهم لخراتيت.
أعتقد أن هذا ما أراد يونسكو أن يقوله في هذه المسرحية؛ وهو بهذا يدعو الإنسان إلى أن يتعامل مع الحياة على أنها عالم يخلو من الانضباط ويغمرها الفوضى، وإذا لم تكن بوهيميًا فيها، فلن تنسجم في العيش بها إلا بأن تتحول إلى خرتيت بالفعل.
ونلاحظ أن يونسكو في هذه المسرحية قد حول الاستعارة إلى حقيقة، فقد كان كتاب المسرح قبل تيار العبث يشبهون الشخص البوهيمي والفوضوي بالخرتيت، ولكن يونسكو هنا لا يكتفي بالتشبيه بل إنه يحوله لحقيقة، ولكنه – كما قلت – يرى أن الأشخاص البوهيمين ليسوا في حاجة لهذا التحول، ولكن الأشخاص الذين يحاولون أن يصبغوا على العالم انضباطًا ومعنى وقيمًا هم لذين في حاجة لهذا التحول.
وهذا تصور يونسكو في هذه المسرحية، ولا شك أنني لا أتفق معه في ذلك
ليوجين يونسكو
د.علي خليفة
كتاب مسرح العبث مثل يونسكو وبيكيت وأداموف وأرابال لم يكتفوا بالثورة على الموضوعات التي كان يتناولها كتاب المسرح قبلهم، بل إنهم أيضًا ثاروا على الشكل المسرحي؛ وإذا كانت الحياة عندهم تخلو من المعنى، ويفقد الإنسان الاتصال الحقيقي مع غيره في نظرهم - فقد عكسوا هذه الأفكار في موضوعات مسرحياتهم، وفي الوقت نفسه نرى الشكل المسرحي في كثير من مسرحياتهم لا يوجد حدث متصاعد فيه؛ وهذا نتيجة أنهم يرون أن يكون الشكل المسرحي متجاوبًا مع الموضوعات التي يطرحونها في مسرحياتهم في خلوه أيضًا من السير المنضبط ومن التماسك في العقدة.
وهناك أمثلة كثيرة لمسرحيات كتاب العبث تخلو من العقدة ومن الأحداث المترابطة، مثل مسرحية الناسك لأرابال، ومسرحية الأيام السعيدة لصمويل بيكيت، ومسرحية المغنية الصلعاء ليوجين يونسكو.
ومع ذلك فهناك بعض مسرحيات لكتاب العبث الغربيين نرى فيها خيوطًا درامية، وبها قدر من التصعيد الذي يدعو المشاهد لها للشعور بالتشوق لمعرفة تتابع الأحداث فيها.
ونرى هذه الخاصية في بعض مسرحيات يونسكو الطويلة، مثل مسرحية ماكبت ومسرحية الخرتيت. ولعل يونسكو قد رأى أن وجود الخط الدرامي المتصاعد في هذه المسرحيات مما يدعو المشاهد للقدرة على متابعتها دون الشعور بالملل. وغالبًا ما يكسر يونسكو الأحداث المتصاعدة في مثل هذه المسرحيات ببعض المفاجآت والأمور التي تبدو خارجة على السياق، وتسير في إطار فكره في خلو الحياة من المعنى والهدف؛ ولهذا فلا يوجد خط منضبط فيها أو في المسرح الذي يعكس ما يحدث بها.
ومسرحية الخرتيت تسير في خط درامي به قدر كبير من التشويق، فنرى في بدايتها بيرنجيه وصديقه جين يقفان في مكان عام، وينتقد جين بيرنجيه انتقادًا شديدًا لاهماله في لبسه، ولإسرافه في شربه، ولحياته التي تخلو من النظام والانضباط، ويحثه على أن يغير حياته؛ ليكون شبيهًا به في انضباطه.
ثم يفاجأ الصديقان وبعض المارة والمتجمعين في هذا المكان بمرور خرتيت، ويتناقش الحاضرون في هذا الحدث الغريب، ونرى من بينهم شخصًا منطقيًا، يتحدث عن قياس أرسطو بأسلوب فيه سخرية شديدة منه، ولا شك أن يونسكو يعبر عن سخريته من المنطق من خلال هذا الشخص الذي يدعى علم المنطق، ولكنه يصل منه إلى أنه مجرد عبث، ولا نفع منه.
ثم نرى بيرنجيه في عمله في مكتب مطبوعات قانونية، ويتحاور مع رفاقه في هذا المكتب عن الخرتيت الذي رآه البعض، ويكذب بوتار من يدعي أنه رأى خرتيتًا في تلك المدينة التي يعيشون فيها، ويرى أن هذا يتعارض مع المنطق وتصور الأمور بشكل علمي.
ثم نرى إحدى الموظفات في هذا المكتب تشكو من أن زوجها قد مرض، وتكتشف مع العاملين في هذا المكتب بأنه قد تحول لخنرتيت.
وحين يزور بيرنجيه صديقه جين في بيته يراه مريضًا، ويلحظ تغير ملامحه وتغير نبرة صوته، وأخيرًا يصبح خرتيتًا.
وكذلك يتحول المنطقي وبوتار إلى خرتيتين، وهكذا يكون الأشخاص الذين يميلون للمنطق وللانضباط في حياتهم – من وجهة نظر يونسكو - هم أقرب الناس للتحول إلى خراتيت؛ لأنهم يحاولون أن يصبغوا على الحياة أسلوبًا في التعقل والانضباط لا يتوافق معها، فيتحولون لخراتيت ليتكيفوا مع هذه الحياة بما فيها من فوضى ولا معنى كما يرى يونكسو.
أما الشخصيات التي تعيش في فوضى، وبوهيمية فهي – في رأي يونسكو – لا تحتاج إلى أن تتحول إلى خراتيت؛ لأنها تعيش الحياة بالأسلوب التي يتناسب معها، وهي تمثل الخراتيت في طبعها الحيواني، أما الأشخاص المتعاقلون فلا يمكن أن يشعروا بالانسجام مع هذا الواقع المضطرب الذي يخلو من المعنى إلا بتحولهم لخراتيت.
أعتقد أن هذا ما أراد يونسكو أن يقوله في هذه المسرحية؛ وهو بهذا يدعو الإنسان إلى أن يتعامل مع الحياة على أنها عالم يخلو من الانضباط ويغمرها الفوضى، وإذا لم تكن بوهيميًا فيها، فلن تنسجم في العيش بها إلا بأن تتحول إلى خرتيت بالفعل.
ونلاحظ أن يونسكو في هذه المسرحية قد حول الاستعارة إلى حقيقة، فقد كان كتاب المسرح قبل تيار العبث يشبهون الشخص البوهيمي والفوضوي بالخرتيت، ولكن يونسكو هنا لا يكتفي بالتشبيه بل إنه يحوله لحقيقة، ولكنه – كما قلت – يرى أن الأشخاص البوهيمين ليسوا في حاجة لهذا التحول، ولكن الأشخاص الذين يحاولون أن يصبغوا على العالم انضباطًا ومعنى وقيمًا هم لذين في حاجة لهذا التحول.
وهذا تصور يونسكو في هذه المسرحية، ولا شك أنني لا أتفق معه في ذلك