التسمية - تأملات بشأن الفلوجستين .. القرن الثامن عشر - الثورة
التسمية
بذلك انضم الكيميائيون الثلاثة - دى مورفيه وبيرثوليت وفور كروي -إلى اللافوازيين في ترسيخ نظرية لافوازييه . كانت إحدى الخطوات المهمة في هذا الاتجاه هي اقتراح ونشر نظام جديد للتسمية يتفق مع النظرية.
قام النظام الجديد الذي مازال يستخدم حتى الآن بتسمية المركبات تبعا للعناصر التي تحتوي عليها وتبعا لوظائفها. فمثلا تنتهي أسماء مركبات الفلزات مع اللافلزات بالمقطع «يد» (ide) (مثل أكسيد القصدير)؛ وقد سميت الأحماض بأسماء مكوناتها غير الأكسجينية (مثل حمض الكبريتيك). أما أملاح الأحماض فقد أعطيت أسماؤها نهايات مختلفة لتمييزها عن الأحماض (فمثلا أملاح حمض الكبريتيك أصبحت كبريتات).
وقد سميت الأحماض التي لها المكون نفسه غير الأكسجين، لكنها تحتوي على كميات مختلفة من الأكسجين بطرق مختلفة (فمثلاً سُمي الحمض الذي يتكون من الكبريت ونسبة أقل من الأكسجين باسم حمض الكبريتوز، وأصبح ملح هذا الحمض كبريتيت) . وقد تضمن متن «التسمية» جداول لعناصر مثل الأكسجين والنيتروجين والهيدروجين والكربون والكبريت والفوسفور (وقد أورد لافوازييه كذلك الضوء والحرارة إذ كان يعتبرهما عنصرين) وقائمة بالشقوق العضوية، وقائمة بمركبات فلزات الأتربة القلوية والمعادن القلوية.
ولنشر وجهات نظرهم قام كل من لافوازييه وبيرثوليت وفور كروي ودي مورفيه وآخرين بتأسيس مجلة حوليات الكيمياء، ونشر فيها لافوازييه مقالته المهمة رسالة أولية في الكيمياء . وقد أورد فيها 33 عنصرا واقترح المصطلح غاز (Gas ) للمواد التي كان هو والآخرون يسمونها «هواء». وضمنها نظرية عن أن الحرارة والضوء عنصران - وهي بالتأكيد أحد جوانب ضعف النظام لكن تفسيره للتكلس والاحتراق والاختزال عن طريق الأكسجين وليس الفلوجستين كان على جانب كبير من الثقة التي منحت النظرية القوة لتصمد .
لم يقتنع كل الكيميائيين في الحال. فقد مات شيلي وهو يؤمن بصدق نظرية الفلوجستين، أما كافندش فكان يعتقد أن تفسيرات لافوازييه مثلها مثل الفلوجستين، وتحول عن الكيمياء ليدرس الفيزياء . وقد كتب بريستلي ذو المزاج الحاد، دراستين اثنتين من آخر ما نشر مدافعا عن الفلوجستين.
لكن أحدث جيل من الكيميائيين كان مقتنعا بشكل عام. قامت إليزابيث فولهام - وهي كيميائية من الولايات المتحدة - الدولة التي تكونت حديثا -بنشر مقال في الاحتراق سنة 1794 ، مقتنعة بتسميات لافوازييه. واحتفل أتباع لافوازييه بشكل درامي، حيث ألبسوا ماري لافوازييه ملابس قسيسة أو كاهنة وأخذت تشعل النار على المذبح في كتابات ستال وبيتشر. لكن في ذلك الوقت كانت أشياء كثيرة تحترق. وصدرت رسالة أولية في الكيمياء في العام 1789 ، أول عام في عمر الثورة الفرنسية.
تجمع الزخم الثوري بسرعة، وطلبت ماري أنطوانيت من ملك النمسا التدخل. لكن الخوف من التدخل الأجنبي، مكن الثوريين المتحمسين من التحكم في الجمعية التشريعية وأحضر المجندون من مرسيليا معهم إلى باريس الأغنية الحماسية «المارسيلزيه»، وقامت الغوغاء من الطبقة العاملة باعتقال وحبس الملك والأسرة الملكية . أما القساوسة العنيدون وأنصار الثورة المضادة فقد أخرجوا من السجن ليحاكموا ويعدموا . وبدلا من إعمال الدستور وتسريح الجيش كما كان مخططا أصلا، فإن الجمعية الوطنية مددت بقاءها عاما بعد عام، وقد أوكلت سلطتها التنفيذية إلى مجموعة اسمها لجنة الأمن العام. كان دور اللجنة هو مقاومة الفوضى والثورة المضادة حتى تتركز موارد الأمة من أجل الحرب العالمية. وقد باشرت اللجنة عملها بشكل حماسي لدرجة أن هذه الفترة أصبحت تعرف بـ «عهد الإرهاب».
كانت أكاديمية العلوم في هذه المرحلة من الثورة ينظر إليها كمعقل للنخبة المفضلة. والأكثر من ذلك كان لافوازييه مستهدفا بشكل خاص من جانب المتشددين من مثل ماكسميليان روبسبير وجين مارات، لأنه كان عضوا في شركة لجمع الضرائب. وكان جين مارات قد تعرض للرفض عند تقدمه للالتحاق بأكاديمية العلوم، ولم يلق ما نشره عن النار إلا الإهانة والانتقاص من جانب لافوازييه. وعلى الرغم من أن لافوازييه كان عضواً في اللجنة المهمة للموازين والمقاييس، والتي تكونت لإرساء قواعد النظام المتري (من أهداف الثورة المعلنة) وأنه طور جودة البارود المستخدم بواسطة المسلحين الثوريين، إلا أنه اعتقل وسجن. غير أن تاجر أدوية مغمورا ، اسمه بلوفينيه، كان يبيع بعض الكيماويات إلى لافوزاييه، قام بإقناع المدعي العام بالموافقة على نقل الافوازييه إلى سجن أفضل لو قامت ماري لافوازييه شخصيا بتقديم طلب بذلك . ذهبت فعلا ماري لافوازييه في الموعد، لكنها مثل زوجها تماماً كان كل شيء فيها متغطرسا ، لم تقم بالتوسل والدفاع، بل استغلت المناسبة لتكيل السباب والشتائم إلى من اعتقلوا زوجها . لم ينتقل لافوازييه إلى سجن افضل، وفي صباح الثامن من مايو 1794 ، تمت محاكمته وفي وقت لاحق من اليوم نفسه، أعدم بالمقصلة مع حماه.
استمر الجدل التاريخي كثيرا حول أسباب عدم تقدم مساعدي لافوازييه فور كروي، ودي مورفيه للدفاع عنه، على الرغم من أنهما من القيادات محل الاحترام في الحركة الثورية. وفيما يبدو، هناك بعض الأدلة على أنه قبل يوم أو يومين من الإعدام توجه فور كروي إلى اجتماع للجنة الأمن العام، وتحدث مدافعا عن لافوازييه . وقد أكد لازار كارنو الذي كان ابنه ضليعا في هذه الحادثة واقعة أن دفاع فور كروي قوبل بصمت مطبق من
جانب روبسبير. ولا بد أن فور كروي أيقن أن يديه مغلولتان - بالمعنى المجازي - وإذا ما استمر في احتجاجه، فإن يديه قد تصفدان في الأغلال بالفعل (8) .
عاني لافوازييه أسوأ معاناة دون الجمع المحيط به. فها هو فور كروي الذي كان يتفلسف في تأييده للثورة أصبح من المؤيدين المتحمسين لها بعد اغتيال مارات. وقد صمد في أثناء الإرهاب، وشارك في حكم نابليون. كان متيما لفترة طويلة بإحدى بنات عمه التي كانت متزوجة. ولما مات عنها زوجها، طلق فور كروي زوجته وتزوج ابنة العم الأرملة . وقد استقر به المقام منذ 1800 في متحف التاريخ الطبيعي هو ومعاونه فو كولين، حيث أمضيا سنوات وسنوات مثمرة في جمع البيانات.
كان فور كروي محبطا للغاية نتيجة عدم تحقيقه لطموحاته بالحصول على اللقب الأكاديمي الذي كان يرغب فيه قرار مبني على أسس سياسية أكثر منها مؤهلات ) ولذا فقد اعتلت صحته ومات عن عمر يقارب 54 عاما، على الأرجح، من سكتة دماغية. ظل دي مورفيه ثوريا نشطا وصوت في صف إعدام لويس السادس عشر. وفي الحقيقة خدم دي مورفيه كأول رئيس للجنة الأمن العام، لكنه - تبعا لبعض المقاييس - كان معتدلا للغاية لذا استبدل بآخر. وربما لأنه كان خارج البلاد مشتركا في الحرب ضد النمسا وبين وقت محاكمة لافوازييه، عاون دي مورفيه في تنظيم أول قوة جوية عسكرية على شكل مناطيد استكشاف تحمل طاقما لم يعرف باعتقال لافوازييه إلا في وقت متأخر جدا ، وحتى إذا كان قد عرف فلربما لم يتمكن لضيق الوقت - من العودة لدفع ذلك. استمرت سيرته وتقدمه العلمي في نجاح مطرد مثل فور كروي . بعد انتهاء فترة الإرهاب، عمل دي مورفيه مع نابليون. وعين في أثناء حكمه رئيسا لدور سك النقود ولم يتقاعد إلا بعد ووترلو». وحتى عندما عادت الملكة البوربونية ونفي كل من شارك في إعدام لويس السادس عشر، فإن دي مورفيه قد سمح له بالبقاء في فرنسا حيث توفي بعد ستة أشهر من ذلك.
كان مقدرا لآخر أتباع لافوازييه، وأكثرهم وفاء، ماري لافوازييه، أن تعيش بعد زوجها 42 عاما حتى بلغت 80 عاما تقريبا . ومع أنها قد اعتقلت في أثناء الإرهاب، إلا أن ذلك لم يدم إلا فترة قصيرة، وأعيد لها معظم ممتلكات الأسرة المصادرة بعد إعدام زوجها . وقد قامت بجمع ونشر أعماله العلمية بعد قليل من وفاته، يعاونها في ذلك أرماند سيجوين، الذي كان مساعدا للافوازييه قبل وفاته . لم يدم التعاون بين سيجوين وماري لافوازييه طويلا، فقد تردد سيجوين في توقيع وثيقة تشجب جلادي لافوزاييه الذين كانوا لا يزالون ذوي حيثية سياسية، وكان يعتقد أنه يستحق التقدير على أعمال قام بها، ولم تر ماري لافواز بيه أنه يستحق ذلك، على الرغم من أن أحدا لم يشك في أن سيجوين قد منح الكثير من ذاته لأبحاثه (تضمنت
بعض تجارب لافوزاييه على التنفس إدخال سيجوين في كيس حريري مدهون بالورنيش ووضع قناع من النحاس الأصفر على وجهه ليتمكن من تنفس الأكسجين من مستودع له وإخراج هواء الزفير وحده ليتمكن لافوازييه من جمعه)، غير أن هناك بعض التساؤلات حول كم مشاركته في مناقشة النتائج.
تزوجت ماري لافوازييه ثانية بعد حوالى 10 سنوات من موت زوجها وكان اسم زوجها الجديد، الكونت رمفورد، يظهر بارزا في تاريخ الكيمياء في القرن التاسع عشر. غير أن الزواج لم يكن سعيدا . تقول إحدى الروايات إنها طردت زوجها من بيتهما ، بينما تروي قصة أخرى أنها قامت بإلقاء الماء المغلي على زهوره المفضلة . وقد أصرت ماري على الاحتفاظ باسم لافوازييه فأسمت نفسها الكونتيسة لافوازييه رمفورد، ويروى عنها أنها ازدادت غطرسة مع الزمن. ولم يدم زواجها سوى أربع سنوات.
ولكن كل شيء يتغير مع الزمن، بما في ذلك الثورات. لقي روبسبير حتفه تحت المقصلة. وقرر الضابط الشاب نابليون أن الصراع من أجل الحرية يمكن أن يعضده التجنيد الإجباري والحرب الوطنية والديكتاتورية الدائمة واضعا نفسه على رأسها . ولكن، ومع أنه قد تم تشويهها في النهاية إلا أن الثورة الفرنسية قد هزت أسس الملكيات الوطنية، وتركت أوروبا لا تشبه أوروبا قبل الثورة بالمرة، تماما كما حطمت ثورة لافوازييه القبضة الخانقة لأرسطو على الفكر الأوروبي، بحيث أصبحت الكيمياء لا تشبه الكيمياء قبل ذلك بالمرة. وقد أنجز لافوازييه هذه المأثرة ليس فقط لأنه خارق الذكاء، بل لأنه كان نتاج عصره كذلك. فلو جاء في عصر أقل ثورية لما كان قد شعر بالحاجة إلى مهاجمة الفرضيات التقليدية كما فعل.
قد يكون النجاح الذي لاقاه لافوازييه راجعا إلى شيء حاذق آخر فلافوازييه لم يكن رجلا متواضعا : كان في بعض الأوقات متغطرسا بشكل مزعج، حيث إنه ولد في طبقة ذات امتيازات وثرية لدرجة الاستقلالية واقترن بزوجة جميلة ومحبة. لذلك لم تحفل حياته بالكثير الذي يجعله غير ذلك . ربما كان ذلك مصدرا لقوته، ربما نجح لافوازييه لأنه كان متغطرساً بما يكفي ليناطح بأفكاره أرسطو.
لكن أفكار أرسطو كانت قد أدت الغرض منها كنقطة بداية للنظريات الكيميائية، وكنظرية مبكرة للكيمياء على أساس الملاحظة والتجريب، كما قدم الفلوجستين خدماته أيضا للكيمياء. فقد زودنا بإطار نظرى لتفسير النتائج التجريبية. وفيما يبدو كانت له بعض المقدرات التنبؤية (الشاهد على ذلك استنتاج شيلي عن هواء النار الذي عزله فيما بعد) . وفي الواقع كانت المشكلة أنه قام بالعمل بشكل أفضل من اللازم؛ فقد ضبب التأويلات وحشد تفسيرات بديلة . ولم يكن لافوازييه هو أول من يتحدى الفلوجستين ولا أول من افترض الحفاظ على الكتلة، ولا أول من اكتشف الأكسجين لكنه كان يملك من نفاذ البصيرة ما جعله يؤمن باستخدام الأكسجين لإلحاق الهزيمة بالفلوجستين بقوة ونهائيا . وبمجرد اكتشاف هذا الشرخ في البنيان الأرسطى تفسخ البنيان بسرعة وبدأ التقدم النظري. بدأ الجيل التالي من الكيميائيين في اكتشاف العناصر الجديدة بمعدلات مذهلة. وبصعوبة كان هذا الجيل يلقي نظرة عابرة خلفه على أول أربعة عناصر مشهورة: الأرض والماء والهواء والنار .
التسمية
بذلك انضم الكيميائيون الثلاثة - دى مورفيه وبيرثوليت وفور كروي -إلى اللافوازيين في ترسيخ نظرية لافوازييه . كانت إحدى الخطوات المهمة في هذا الاتجاه هي اقتراح ونشر نظام جديد للتسمية يتفق مع النظرية.
قام النظام الجديد الذي مازال يستخدم حتى الآن بتسمية المركبات تبعا للعناصر التي تحتوي عليها وتبعا لوظائفها. فمثلا تنتهي أسماء مركبات الفلزات مع اللافلزات بالمقطع «يد» (ide) (مثل أكسيد القصدير)؛ وقد سميت الأحماض بأسماء مكوناتها غير الأكسجينية (مثل حمض الكبريتيك). أما أملاح الأحماض فقد أعطيت أسماؤها نهايات مختلفة لتمييزها عن الأحماض (فمثلا أملاح حمض الكبريتيك أصبحت كبريتات).
وقد سميت الأحماض التي لها المكون نفسه غير الأكسجين، لكنها تحتوي على كميات مختلفة من الأكسجين بطرق مختلفة (فمثلاً سُمي الحمض الذي يتكون من الكبريت ونسبة أقل من الأكسجين باسم حمض الكبريتوز، وأصبح ملح هذا الحمض كبريتيت) . وقد تضمن متن «التسمية» جداول لعناصر مثل الأكسجين والنيتروجين والهيدروجين والكربون والكبريت والفوسفور (وقد أورد لافوازييه كذلك الضوء والحرارة إذ كان يعتبرهما عنصرين) وقائمة بالشقوق العضوية، وقائمة بمركبات فلزات الأتربة القلوية والمعادن القلوية.
ولنشر وجهات نظرهم قام كل من لافوازييه وبيرثوليت وفور كروي ودي مورفيه وآخرين بتأسيس مجلة حوليات الكيمياء، ونشر فيها لافوازييه مقالته المهمة رسالة أولية في الكيمياء . وقد أورد فيها 33 عنصرا واقترح المصطلح غاز (Gas ) للمواد التي كان هو والآخرون يسمونها «هواء». وضمنها نظرية عن أن الحرارة والضوء عنصران - وهي بالتأكيد أحد جوانب ضعف النظام لكن تفسيره للتكلس والاحتراق والاختزال عن طريق الأكسجين وليس الفلوجستين كان على جانب كبير من الثقة التي منحت النظرية القوة لتصمد .
لم يقتنع كل الكيميائيين في الحال. فقد مات شيلي وهو يؤمن بصدق نظرية الفلوجستين، أما كافندش فكان يعتقد أن تفسيرات لافوازييه مثلها مثل الفلوجستين، وتحول عن الكيمياء ليدرس الفيزياء . وقد كتب بريستلي ذو المزاج الحاد، دراستين اثنتين من آخر ما نشر مدافعا عن الفلوجستين.
لكن أحدث جيل من الكيميائيين كان مقتنعا بشكل عام. قامت إليزابيث فولهام - وهي كيميائية من الولايات المتحدة - الدولة التي تكونت حديثا -بنشر مقال في الاحتراق سنة 1794 ، مقتنعة بتسميات لافوازييه. واحتفل أتباع لافوازييه بشكل درامي، حيث ألبسوا ماري لافوازييه ملابس قسيسة أو كاهنة وأخذت تشعل النار على المذبح في كتابات ستال وبيتشر. لكن في ذلك الوقت كانت أشياء كثيرة تحترق. وصدرت رسالة أولية في الكيمياء في العام 1789 ، أول عام في عمر الثورة الفرنسية.
تجمع الزخم الثوري بسرعة، وطلبت ماري أنطوانيت من ملك النمسا التدخل. لكن الخوف من التدخل الأجنبي، مكن الثوريين المتحمسين من التحكم في الجمعية التشريعية وأحضر المجندون من مرسيليا معهم إلى باريس الأغنية الحماسية «المارسيلزيه»، وقامت الغوغاء من الطبقة العاملة باعتقال وحبس الملك والأسرة الملكية . أما القساوسة العنيدون وأنصار الثورة المضادة فقد أخرجوا من السجن ليحاكموا ويعدموا . وبدلا من إعمال الدستور وتسريح الجيش كما كان مخططا أصلا، فإن الجمعية الوطنية مددت بقاءها عاما بعد عام، وقد أوكلت سلطتها التنفيذية إلى مجموعة اسمها لجنة الأمن العام. كان دور اللجنة هو مقاومة الفوضى والثورة المضادة حتى تتركز موارد الأمة من أجل الحرب العالمية. وقد باشرت اللجنة عملها بشكل حماسي لدرجة أن هذه الفترة أصبحت تعرف بـ «عهد الإرهاب».
كانت أكاديمية العلوم في هذه المرحلة من الثورة ينظر إليها كمعقل للنخبة المفضلة. والأكثر من ذلك كان لافوازييه مستهدفا بشكل خاص من جانب المتشددين من مثل ماكسميليان روبسبير وجين مارات، لأنه كان عضوا في شركة لجمع الضرائب. وكان جين مارات قد تعرض للرفض عند تقدمه للالتحاق بأكاديمية العلوم، ولم يلق ما نشره عن النار إلا الإهانة والانتقاص من جانب لافوازييه. وعلى الرغم من أن لافوازييه كان عضواً في اللجنة المهمة للموازين والمقاييس، والتي تكونت لإرساء قواعد النظام المتري (من أهداف الثورة المعلنة) وأنه طور جودة البارود المستخدم بواسطة المسلحين الثوريين، إلا أنه اعتقل وسجن. غير أن تاجر أدوية مغمورا ، اسمه بلوفينيه، كان يبيع بعض الكيماويات إلى لافوزاييه، قام بإقناع المدعي العام بالموافقة على نقل الافوازييه إلى سجن أفضل لو قامت ماري لافوازييه شخصيا بتقديم طلب بذلك . ذهبت فعلا ماري لافوازييه في الموعد، لكنها مثل زوجها تماماً كان كل شيء فيها متغطرسا ، لم تقم بالتوسل والدفاع، بل استغلت المناسبة لتكيل السباب والشتائم إلى من اعتقلوا زوجها . لم ينتقل لافوازييه إلى سجن افضل، وفي صباح الثامن من مايو 1794 ، تمت محاكمته وفي وقت لاحق من اليوم نفسه، أعدم بالمقصلة مع حماه.
استمر الجدل التاريخي كثيرا حول أسباب عدم تقدم مساعدي لافوازييه فور كروي، ودي مورفيه للدفاع عنه، على الرغم من أنهما من القيادات محل الاحترام في الحركة الثورية. وفيما يبدو، هناك بعض الأدلة على أنه قبل يوم أو يومين من الإعدام توجه فور كروي إلى اجتماع للجنة الأمن العام، وتحدث مدافعا عن لافوازييه . وقد أكد لازار كارنو الذي كان ابنه ضليعا في هذه الحادثة واقعة أن دفاع فور كروي قوبل بصمت مطبق من
جانب روبسبير. ولا بد أن فور كروي أيقن أن يديه مغلولتان - بالمعنى المجازي - وإذا ما استمر في احتجاجه، فإن يديه قد تصفدان في الأغلال بالفعل (8) .
عاني لافوازييه أسوأ معاناة دون الجمع المحيط به. فها هو فور كروي الذي كان يتفلسف في تأييده للثورة أصبح من المؤيدين المتحمسين لها بعد اغتيال مارات. وقد صمد في أثناء الإرهاب، وشارك في حكم نابليون. كان متيما لفترة طويلة بإحدى بنات عمه التي كانت متزوجة. ولما مات عنها زوجها، طلق فور كروي زوجته وتزوج ابنة العم الأرملة . وقد استقر به المقام منذ 1800 في متحف التاريخ الطبيعي هو ومعاونه فو كولين، حيث أمضيا سنوات وسنوات مثمرة في جمع البيانات.
كان فور كروي محبطا للغاية نتيجة عدم تحقيقه لطموحاته بالحصول على اللقب الأكاديمي الذي كان يرغب فيه قرار مبني على أسس سياسية أكثر منها مؤهلات ) ولذا فقد اعتلت صحته ومات عن عمر يقارب 54 عاما، على الأرجح، من سكتة دماغية. ظل دي مورفيه ثوريا نشطا وصوت في صف إعدام لويس السادس عشر. وفي الحقيقة خدم دي مورفيه كأول رئيس للجنة الأمن العام، لكنه - تبعا لبعض المقاييس - كان معتدلا للغاية لذا استبدل بآخر. وربما لأنه كان خارج البلاد مشتركا في الحرب ضد النمسا وبين وقت محاكمة لافوازييه، عاون دي مورفيه في تنظيم أول قوة جوية عسكرية على شكل مناطيد استكشاف تحمل طاقما لم يعرف باعتقال لافوازييه إلا في وقت متأخر جدا ، وحتى إذا كان قد عرف فلربما لم يتمكن لضيق الوقت - من العودة لدفع ذلك. استمرت سيرته وتقدمه العلمي في نجاح مطرد مثل فور كروي . بعد انتهاء فترة الإرهاب، عمل دي مورفيه مع نابليون. وعين في أثناء حكمه رئيسا لدور سك النقود ولم يتقاعد إلا بعد ووترلو». وحتى عندما عادت الملكة البوربونية ونفي كل من شارك في إعدام لويس السادس عشر، فإن دي مورفيه قد سمح له بالبقاء في فرنسا حيث توفي بعد ستة أشهر من ذلك.
كان مقدرا لآخر أتباع لافوازييه، وأكثرهم وفاء، ماري لافوازييه، أن تعيش بعد زوجها 42 عاما حتى بلغت 80 عاما تقريبا . ومع أنها قد اعتقلت في أثناء الإرهاب، إلا أن ذلك لم يدم إلا فترة قصيرة، وأعيد لها معظم ممتلكات الأسرة المصادرة بعد إعدام زوجها . وقد قامت بجمع ونشر أعماله العلمية بعد قليل من وفاته، يعاونها في ذلك أرماند سيجوين، الذي كان مساعدا للافوازييه قبل وفاته . لم يدم التعاون بين سيجوين وماري لافوازييه طويلا، فقد تردد سيجوين في توقيع وثيقة تشجب جلادي لافوزاييه الذين كانوا لا يزالون ذوي حيثية سياسية، وكان يعتقد أنه يستحق التقدير على أعمال قام بها، ولم تر ماري لافواز بيه أنه يستحق ذلك، على الرغم من أن أحدا لم يشك في أن سيجوين قد منح الكثير من ذاته لأبحاثه (تضمنت
بعض تجارب لافوزاييه على التنفس إدخال سيجوين في كيس حريري مدهون بالورنيش ووضع قناع من النحاس الأصفر على وجهه ليتمكن من تنفس الأكسجين من مستودع له وإخراج هواء الزفير وحده ليتمكن لافوازييه من جمعه)، غير أن هناك بعض التساؤلات حول كم مشاركته في مناقشة النتائج.
تزوجت ماري لافوازييه ثانية بعد حوالى 10 سنوات من موت زوجها وكان اسم زوجها الجديد، الكونت رمفورد، يظهر بارزا في تاريخ الكيمياء في القرن التاسع عشر. غير أن الزواج لم يكن سعيدا . تقول إحدى الروايات إنها طردت زوجها من بيتهما ، بينما تروي قصة أخرى أنها قامت بإلقاء الماء المغلي على زهوره المفضلة . وقد أصرت ماري على الاحتفاظ باسم لافوازييه فأسمت نفسها الكونتيسة لافوازييه رمفورد، ويروى عنها أنها ازدادت غطرسة مع الزمن. ولم يدم زواجها سوى أربع سنوات.
ولكن كل شيء يتغير مع الزمن، بما في ذلك الثورات. لقي روبسبير حتفه تحت المقصلة. وقرر الضابط الشاب نابليون أن الصراع من أجل الحرية يمكن أن يعضده التجنيد الإجباري والحرب الوطنية والديكتاتورية الدائمة واضعا نفسه على رأسها . ولكن، ومع أنه قد تم تشويهها في النهاية إلا أن الثورة الفرنسية قد هزت أسس الملكيات الوطنية، وتركت أوروبا لا تشبه أوروبا قبل الثورة بالمرة، تماما كما حطمت ثورة لافوازييه القبضة الخانقة لأرسطو على الفكر الأوروبي، بحيث أصبحت الكيمياء لا تشبه الكيمياء قبل ذلك بالمرة. وقد أنجز لافوازييه هذه المأثرة ليس فقط لأنه خارق الذكاء، بل لأنه كان نتاج عصره كذلك. فلو جاء في عصر أقل ثورية لما كان قد شعر بالحاجة إلى مهاجمة الفرضيات التقليدية كما فعل.
قد يكون النجاح الذي لاقاه لافوازييه راجعا إلى شيء حاذق آخر فلافوازييه لم يكن رجلا متواضعا : كان في بعض الأوقات متغطرسا بشكل مزعج، حيث إنه ولد في طبقة ذات امتيازات وثرية لدرجة الاستقلالية واقترن بزوجة جميلة ومحبة. لذلك لم تحفل حياته بالكثير الذي يجعله غير ذلك . ربما كان ذلك مصدرا لقوته، ربما نجح لافوازييه لأنه كان متغطرساً بما يكفي ليناطح بأفكاره أرسطو.
لكن أفكار أرسطو كانت قد أدت الغرض منها كنقطة بداية للنظريات الكيميائية، وكنظرية مبكرة للكيمياء على أساس الملاحظة والتجريب، كما قدم الفلوجستين خدماته أيضا للكيمياء. فقد زودنا بإطار نظرى لتفسير النتائج التجريبية. وفيما يبدو كانت له بعض المقدرات التنبؤية (الشاهد على ذلك استنتاج شيلي عن هواء النار الذي عزله فيما بعد) . وفي الواقع كانت المشكلة أنه قام بالعمل بشكل أفضل من اللازم؛ فقد ضبب التأويلات وحشد تفسيرات بديلة . ولم يكن لافوازييه هو أول من يتحدى الفلوجستين ولا أول من افترض الحفاظ على الكتلة، ولا أول من اكتشف الأكسجين لكنه كان يملك من نفاذ البصيرة ما جعله يؤمن باستخدام الأكسجين لإلحاق الهزيمة بالفلوجستين بقوة ونهائيا . وبمجرد اكتشاف هذا الشرخ في البنيان الأرسطى تفسخ البنيان بسرعة وبدأ التقدم النظري. بدأ الجيل التالي من الكيميائيين في اكتشاف العناصر الجديدة بمعدلات مذهلة. وبصعوبة كان هذا الجيل يلقي نظرة عابرة خلفه على أول أربعة عناصر مشهورة: الأرض والماء والهواء والنار .
تعليق