الفلسفةُ ؛ أسسها، مباحثها، أقسامها
"جرت العادة على تقسيم البحث الفلسفي على ثلاثة مباحث رئيسة، وهي: مبحث الوجود أو الأنطولوجيا، ونظرية المعرفة أو الإبستمولوجيا، ومبحث القيم أو الأكسيولوجيا. ويمكن القول إن مسائل الفلسفة كلها تنحصر في ثلاثة موضوعات: الوجود الخارجي بصورة عامة، والإنسان، والمعرفة. والتفكير عادة إما أن ينطلق من العام، أي من الوجود، متجها نحو الخاص، أي الإنسان، أو بالعكس. ومن الطبيعي أن نلحظ أن الصفة العمومية ترافق التفلسف، أما الانطلاق من الخاص إلى العام فإنه سمة العلوم، وبما أن أدوات التفكير العلمي لم تكن متوافرة في بداية التفكير الإنساني المنظم، فإنه اتجه للتفكير الفلسفي، أي التفكير العام.
مبحث الوجود
يدرس مبحث الوجود قضايا الطبيعة وما بعد الطبيعة أو الميتافيزيقيا، وتهتم هذه القضايا بدراسة مسائل عدة مثل: الزمان والمكان والمقولات الأولى، وقضايا العلة والمعلول والسببية، والأصل الأول، والوحدة والكثرة. وقد اختلف الفلاسفة في تلك القضايا، لذلك ذهبوا مذاهب شتى في تفسيرها. وأبرز المذاهب في مبحث الوجود: المذهب المادي، والمذهب الروحي (المثالي)، والمذهب الثنائي، ومذهب الكثرة والتعدد بكافة تنوعاتهما.
لقد تساءل عن معنى الوجود قبل كل شيء، وتساءل عن ما يتعلق بالوجود مثل الواجب والممكن، وما هي جواهر الوجود وأعراضه؟ وهل أن وجود العالم خارجي أو ذهني؟ وهل أن هناك شيئًا آخر وراء؟ هذه القضايا وغيرها جرت تسميتها في عالم الفلسفة باسم الأنطولوجيا أو مبحث الوجود، حيث يدور مدار قضاياه تلك. فالأسئلة التي توضح في هذا المبحث تخص الكون بصورة عامة أو الوجود وطبيعته، هل هو مادي أو روحي أو مادي وروحي أو غير ذلك؟ وقد وضعت أجوبة من قبل الفلاسفة، أهمها:
1. إن هذا الوجود هو وجود مادي بطبيعته، وما هذه المظاهر التي تعتريه إلا حركة هذه المادة، حتى العقل أو الفكر كذلك، فإنه يمثل حركة لكنها حركة راقية. وكان هذا ما ذهب إليه الفلاسفة اليونان الطبيعيون: طاليس، وانكسيماندريس، وانكسيمانس، وهرقلطيس، وديمقريطس (370 ق.م)، وأبيقور (270 ق.م)، ونيوتن (ت. 1772)، وعند الوضعيين، واللاأدريين، والمذهب الطبيعي.
2. إن هذا الوجود روحاني، وما هذه المادة التي نتحسسها إلا صورة لهذه الروح. وكان هذا رأي أصحاب المذهب الروحي كأفلاطون، وأصحاب الروحية المتكثرة عند ليبنتز (ت. 1716) وباركلي (ت. 1753)، والروحية الواحدية عند أصحاب المثالية المطلقة: فِخته (ت. 1814)، وهيجل (ت. 1831)، وشيلنج (ت. 1854)، وشوبنهاور (ت. 1860)، وبرجسون (ت. 1941).
3. إن هذا الوجود مشترك، فهو وجود واحد مادي وروحي معًا. وكان هذا جواب أرسطو، وديكارت، وسبينوزا (ت. 1677). وبخصوص قضية الله وعلاقته بالطبيعة، فقد قال عدد من الفلاسفة بوحدة الوجود مثل: ابن عربي، والحلاج، وسبينوزا. ومنهم من أنكر وجود الله وهم الملحدون: فيورباخ والماركسيون، ومنهم من قال بالتأليه وأثبت الرسل والديانات.
4. إن طبيعة الوجود عنصر محايد؛ فالوجود مجموعة من الحوادث الحيادية التي ليست بالمادية ولا الروحانية، وهذا هو مذهب رَسِل.
مبحث المعرفة
أما مبحث المعرفة فيتضمن البحث في إمكان المعرفة، وقد تنازعه مذهبا الشك واليقين، والبحث في طبيعة المعرفة، وقد تنازعهما المذهبان العقلي والمثالي بفروعهما، والبحث في أدوات المعرفة، وقد تكفل بالبحث فيهما المذهب العقلي والمذهب التجريبي.
فبعد تلك التساؤلات العامة، اتجه الإنسان ليتساءل عن ذاته، أي معارفه وقيمه وأخلاقياته. وهنا يأتي المبحث الثاني من مباحث الفلسفة، أي نظرية المعرفة، التي نتساءل من خلالها عن معارفنا ومدى ثباتها ومصادرها، مثل: هل معرفتنا بالأشياء ممكنة أو احتمالية؟ وهل إننا نعرف الأشياء بواسطة ذواتنا أو بواسطة قوى خارجية؟ وما هي أدوات المعرفة؟ ثم ما طبيعة معارفنا؟ هل تمثل الواقع كما هو، أو أن الواقع المعطى لنا تضاف إليه صور خارجية ليس من طبيعته؟ كل تلك الأسئلة تشكل مبحث المعرفة أو الإبستمولوجيا.
ويعد الجهد الفلسفي للفيلسوف عمانؤيل كانت الصورة الأوضح لما يسمى بنظرية المعرفة أو مبحث المعرفة، حيث تناول أدوات المعرفة بالنقد والتحليل العميق الذي لا نجده عند غيره ممن سبقه بمثل هذا التعميق والمثابرة. فقد تناول جون لوك الإنجليزي هذا المبحث في كتاب له، لكنه لم يصل إلى نتائج كانت الدقيقة.
وعلى العموم، يدور مبحث المعرفة حول ثلاثة أمور:
1. إمكان المعرفة
2. مصادر المعرفة وأدواتها
3. طبيعة المعرفة
تعالج النقطة الأولى (إمكان المعرفة) التساؤلات التي تثار حول صدق معارفنا؛ هل هي ممكنة؟ وهل يمكننا معرفة الأشياء على حقيقتها؟ وقد وضعت إجابات لهذه التساؤلات من قبل الفلاسفة على مر العصور. من أهم هذه الإجابات:
1. إن معارفنا لا تمثل الحقيقة كما هي لأنها تعتمد على أعضاء الحس الذي لا يمكن الوثوق من سلامة معطياته، أو العقل الذي لا يعرف كنهه أصلاً، وكان هذا مذهب السفسطائيين واللاأدريين والشكاك. ويمثل الاتجاه الأول بروتاغوراس، فيما يمثل الجانب الثاني بيرون وأتباعه: أنسيديموس، وأجريبا، وأمبريكوس.
2. إننا نستطيع التوصل إلى معرفة حقيقة الأشياء، وإن المجال مفتوح للعقل لمعرفة الحقائق كما هي. وكان هذا رأي الفلاسفة اليقينيين والعقليين أمثال ديكارت، وسبينوزا، وليبنتز، وفولف، وأفلاطون أيضاً، والماركسيين.
3. فيما ذهب الظاهراتيون إلى أن المعلوم ظاهرة شعورية، لكنها موجودة واقعاً.
أما النقطة الثانية (مصادر المعرفة)، فتدور حول التساؤل عن الأداة التي بواسطتها نعرف العالم الخارجي؛ هل هي الحواس أم العقل أم شيء آخر؟ وقد قدم الفلاسفة أيضاً إجابات عنها، أهمها:
1. إن العقل هو مصدر معرفتنا، وهذا رأي العقليين: ديكارت كما مرّ.
2. إن الحس هو مصدر معرفتنا، وكان هذا رأي التجريبيين، ويمثلهم أرسطو، وفرنسيس بيكون، ولوك، وهيوم، وباركلي.
3. إن العقل والحس معاً هما مصدر معرفتنا، وهذا رأي المذهب النقدي الذي يمثله كانت، ومن ثم هردر، وليبمان، وريل.
4. إن مصدر معرفتنا الحدس، وهذا رأي برجسون.
وأما عن طبيعة المعرفة التي نتحصلها، فكان الجواب:
1. بأنها واقعية، وهو رأي عند الواقعيين.
2. بأنها ذاتية، عند المثاليين: المثالية الذاتية، والمثالية النقدية.
وأما السؤال عن منبع المعرفة، فكانت الأجوبة المقدمة:
1. بأنه العقل، عند أصحاب المذهب العقلي، وأبرزهم ديكارت (ت. 1650).
2. أو التجربة، عند أصحاب المذهب التجريبي: بيكون (ت. 1626)، وهوبز (ت. 1679)، وكوندياك (ت. 1780)، ولوك (ت. 1704)، وهيوم (ت. 1776).
3. أو الوجدان والحدس، عند الصوفيين.
4. المجتمع، عند دوركهايم (ت. 1917).
مبحث القيم
أما مبحث القيم أو الأكسيولوجيا، فينقسم على ثلاثة حقول وهي: الجمال (علم الجمال)، والأخلاق (الخير)، والحق (المنطق). وفي كل قسم من هذه الأقسام مذاهب متنوعة؛ فنجد مذهب الحدس، والغائية، واللذة، والطاقة الحيوية، والزهد في علم الأخلاق، فيما نجد المذهب المثالي، والطبيعي، والإلهام، واللاوعي، والرومانسي، والرمزي في تفسير قضايا الجمال.
أولاً: الأخلاق
يختص الدرس الفلسفي بالتساؤل حول القيم التي نؤمن بها، أو المُثل التي تعد قوانين أخلاقية أو جمالية أو منطقية، مثل: ما هو الخطأ والصواب؟ وما هو الجميل والقبيح؟ وما هو الخير والشر؟ وما هي المسؤولية والإرادة والحرية؟ والمبحث الذي يضم هذه التساؤلات هو مبحث القيم أو الأكسيولوجيا، وهو ثلاثة أقسام كما تقدم: المنطق، والأخلاق، والجمال.
فعلم الأخلاق يدرس الأعمال القصدية الواعية التي يبديها الإنسان تجاه نفسه، وتُصنف إلى أعمال خيرة وأخرى شريرة. وأهم مميزات هذا الحقل الفلسفي:
1. إنه حقل عملي.
2. إنه علم معياري، فهو معني بدراسة ما يجب أن يكون عليه الإنسان.
3. ينشد المثل الأعلى دائماً.
وأهم التساؤلات التي أُثيرت في هذا المبحث: هل لنا أن نعرف الخير والشر على حقيقتهما؟ وقد أُعطيت إجابات نوجزها:
1. يمكن معرفة الخير من خلال التجربة الحسية، وقيمة الفعل الخلقي بنتائجه فقط، وغايته اللذة والمنفعة. وأبرز من قال بذلك: بنتام، وستيورات مل.
2. يمكن معرفة الخير والشر من خلال العقل، وقيمة الفعل الأخلاقي بذاته. وهذا هو المذهب العقلي في الأخلاق، الذي يُعد كانت أبرز من يمثله.
3. إن معرفة الخير لا تحتاج إلى أي استدلال، بل هي كليات أولية تُعرف بالحدس، وهذا هو مذهب الحاسة الخلقية، وخير من يمثله برجسون.
أما المصادر الأخلاقية التي تجعلنا نشعر بالمسؤولية الأخلاقية تجاه أنفسنا واتجاه الآخر، فقد وُضعت بشأنها عدة إجابات تتمثل في:
الضمير، وهذا هو رأي المذهب العقلاني في الأخلاق.
الأديان السماوية.
الإلزام الخلقي الذي يتولد من العيش في جماعة، وهذا رأي المدرسة الاجتماعية، وخير من يمثلها دوركايم.
فقد تساءلت فلسفة الأخلاق: ما أصل شعورنا الأخلاقي؟ فكان الجواب:
بأنه قوة غريزية تميز الخير والشر، عند مذهب اللقانة.
أو أنه التجربة، عند مذهب التجربة أو مذهب التطور (سبنسر، ت 1903).
ثم تساءلت: ما الباعث الذي يحيلنا على إطاعة ما يمليه علينا شعورنا؟ فكان الجواب:
بأنه باعث نفسي.
أو إنه باعث عقلي.
وتساءلت أيضًا: ما الغرض من أفعالنا الأخلاقية؟ فكان الجواب:
بأنه الحصول على السعادة والفضيلة، عند الرواقيين.
بأنه اللذة بكل أنواعها، عند الأبيقوريين.
وتساءلت أيضًا: كيف نقيس أعمالنا الأخلاقية؟ فكان الجواب:
بأن المقياس هو الذات... الضمير... صوت العقل (عند العقليين).
بأنه القانون الخارجي، الذي يتمثل في الله، أو القانون، أو المجتمع، أو الدولة.
وتساءلت: هل الإنسان حر؟ فكان الجواب:
بأنه حر (المعتزلة وسبينوزا).
بأنه مجبر.
ثانيًا: الجمال
التساؤلات الكبرى في هذا المبحث تدور حول:
ما هي معاني تلك الألفاظ والعلاقة بينها: جميل، وجليل، وفاتن، ودميم؟
كيفية إثبات صدق الأحكام الجمالية؟
ما العمل الفني؟
كيف نقيس الجميل؟ هل هو نسبي أو مطلق؟ موضوعي أو ذاتي؟ وهاتان مدرستان متباينتان.
والأسئلة العامة في هذا المبحث:
ما طبيعة القيم؟
ما هو الخير والشر؟ وما هو أصلهما؟
ما حقيقة الصواب والخطأ؟
ما هو مصدر الإبداع؟
ثالثًا: الحق
والحق مجاله المنطق، الذي يتكفل بفحص الأفكار والتصورات واللغة التي نستعملها، لذلك وُصف بأنه العلم الذي يعصمنا عن الخطأ. وقديمًا كان منطق أرسطو هو السائد في مجال الفكر، إلا أن القصور الذي لازمه تمثل في اقتصاره على الجانب الشكلي للفكر.
وبعد نشوء العلوم المادية، برز حقل منطقي آخر يهتم بالجانب المادي للفكر، وهو المنطق المادي أو منطق العلوم. فيما كان يُسمى منطق أرسطو بالمنطق الصوري، لأنه كان مقتصرًا على القضايا الصورية من التفكير.
لذلك، فمن البديهي أن يكون تعريف المنطق الأرسطي مختلفًا عن تعريف المنطق المادي الجديد، لأن كلاً من الموضوعين يختلف عن الآخر، إذ يهدف الأول إلى عصمة العقل من الخطأ، أما المنطق المادي أو منهج البحث العلمي، فهو يرسم الخط الصحيح للتجربة العلمية.
فليس من مهماته وضع قوانين تستند إلى مسلمات يُزعم أنها يقينية، إذ أن ذلك كان قد أدى بالمنطق السابق إلى أن يكون بحثًا في دائرة شبه مفرغة.
ويرتكز المنطق الأرسطي على ثلاثة قوانين، سُميت بقوانين الفكر الأساسية، وهي:
قانون الهوية: مثلًا، أ هو أ.
قانون عدم التناقض: أ لا يمكن أن يكون ب ولا ب في آن واحد.
قانون الوسط الممتنع: أ لا بد أن يكون ب أو لا ب، ولا ثالث لهما.
وتلحق بالمباحث الثلاثة المتقدمة حقول بحثية أخرى، منها:
فلسفة الدين
فلسفة التاريخ
فلسفة اللغة
فلسفة القانون
فلسفة العلم
هذه النظريات والمذاهب لا يُشترط أن تظهر في آراء فيلسوف واحد، أو في زمان، أو في مكان واحد."
د. علي حسين يوسف
المصادر:
أسس الفلسفة، توفيق الطويل
مبادئ الفلسفة، رابوبرت
مدخل جديد للفلسفة، عبد الرحمن بدوي
قصة الفلسفة، ديورانت
"جرت العادة على تقسيم البحث الفلسفي على ثلاثة مباحث رئيسة، وهي: مبحث الوجود أو الأنطولوجيا، ونظرية المعرفة أو الإبستمولوجيا، ومبحث القيم أو الأكسيولوجيا. ويمكن القول إن مسائل الفلسفة كلها تنحصر في ثلاثة موضوعات: الوجود الخارجي بصورة عامة، والإنسان، والمعرفة. والتفكير عادة إما أن ينطلق من العام، أي من الوجود، متجها نحو الخاص، أي الإنسان، أو بالعكس. ومن الطبيعي أن نلحظ أن الصفة العمومية ترافق التفلسف، أما الانطلاق من الخاص إلى العام فإنه سمة العلوم، وبما أن أدوات التفكير العلمي لم تكن متوافرة في بداية التفكير الإنساني المنظم، فإنه اتجه للتفكير الفلسفي، أي التفكير العام.
مبحث الوجود
يدرس مبحث الوجود قضايا الطبيعة وما بعد الطبيعة أو الميتافيزيقيا، وتهتم هذه القضايا بدراسة مسائل عدة مثل: الزمان والمكان والمقولات الأولى، وقضايا العلة والمعلول والسببية، والأصل الأول، والوحدة والكثرة. وقد اختلف الفلاسفة في تلك القضايا، لذلك ذهبوا مذاهب شتى في تفسيرها. وأبرز المذاهب في مبحث الوجود: المذهب المادي، والمذهب الروحي (المثالي)، والمذهب الثنائي، ومذهب الكثرة والتعدد بكافة تنوعاتهما.
لقد تساءل عن معنى الوجود قبل كل شيء، وتساءل عن ما يتعلق بالوجود مثل الواجب والممكن، وما هي جواهر الوجود وأعراضه؟ وهل أن وجود العالم خارجي أو ذهني؟ وهل أن هناك شيئًا آخر وراء؟ هذه القضايا وغيرها جرت تسميتها في عالم الفلسفة باسم الأنطولوجيا أو مبحث الوجود، حيث يدور مدار قضاياه تلك. فالأسئلة التي توضح في هذا المبحث تخص الكون بصورة عامة أو الوجود وطبيعته، هل هو مادي أو روحي أو مادي وروحي أو غير ذلك؟ وقد وضعت أجوبة من قبل الفلاسفة، أهمها:
1. إن هذا الوجود هو وجود مادي بطبيعته، وما هذه المظاهر التي تعتريه إلا حركة هذه المادة، حتى العقل أو الفكر كذلك، فإنه يمثل حركة لكنها حركة راقية. وكان هذا ما ذهب إليه الفلاسفة اليونان الطبيعيون: طاليس، وانكسيماندريس، وانكسيمانس، وهرقلطيس، وديمقريطس (370 ق.م)، وأبيقور (270 ق.م)، ونيوتن (ت. 1772)، وعند الوضعيين، واللاأدريين، والمذهب الطبيعي.
2. إن هذا الوجود روحاني، وما هذه المادة التي نتحسسها إلا صورة لهذه الروح. وكان هذا رأي أصحاب المذهب الروحي كأفلاطون، وأصحاب الروحية المتكثرة عند ليبنتز (ت. 1716) وباركلي (ت. 1753)، والروحية الواحدية عند أصحاب المثالية المطلقة: فِخته (ت. 1814)، وهيجل (ت. 1831)، وشيلنج (ت. 1854)، وشوبنهاور (ت. 1860)، وبرجسون (ت. 1941).
3. إن هذا الوجود مشترك، فهو وجود واحد مادي وروحي معًا. وكان هذا جواب أرسطو، وديكارت، وسبينوزا (ت. 1677). وبخصوص قضية الله وعلاقته بالطبيعة، فقد قال عدد من الفلاسفة بوحدة الوجود مثل: ابن عربي، والحلاج، وسبينوزا. ومنهم من أنكر وجود الله وهم الملحدون: فيورباخ والماركسيون، ومنهم من قال بالتأليه وأثبت الرسل والديانات.
4. إن طبيعة الوجود عنصر محايد؛ فالوجود مجموعة من الحوادث الحيادية التي ليست بالمادية ولا الروحانية، وهذا هو مذهب رَسِل.
مبحث المعرفة
أما مبحث المعرفة فيتضمن البحث في إمكان المعرفة، وقد تنازعه مذهبا الشك واليقين، والبحث في طبيعة المعرفة، وقد تنازعهما المذهبان العقلي والمثالي بفروعهما، والبحث في أدوات المعرفة، وقد تكفل بالبحث فيهما المذهب العقلي والمذهب التجريبي.
فبعد تلك التساؤلات العامة، اتجه الإنسان ليتساءل عن ذاته، أي معارفه وقيمه وأخلاقياته. وهنا يأتي المبحث الثاني من مباحث الفلسفة، أي نظرية المعرفة، التي نتساءل من خلالها عن معارفنا ومدى ثباتها ومصادرها، مثل: هل معرفتنا بالأشياء ممكنة أو احتمالية؟ وهل إننا نعرف الأشياء بواسطة ذواتنا أو بواسطة قوى خارجية؟ وما هي أدوات المعرفة؟ ثم ما طبيعة معارفنا؟ هل تمثل الواقع كما هو، أو أن الواقع المعطى لنا تضاف إليه صور خارجية ليس من طبيعته؟ كل تلك الأسئلة تشكل مبحث المعرفة أو الإبستمولوجيا.
ويعد الجهد الفلسفي للفيلسوف عمانؤيل كانت الصورة الأوضح لما يسمى بنظرية المعرفة أو مبحث المعرفة، حيث تناول أدوات المعرفة بالنقد والتحليل العميق الذي لا نجده عند غيره ممن سبقه بمثل هذا التعميق والمثابرة. فقد تناول جون لوك الإنجليزي هذا المبحث في كتاب له، لكنه لم يصل إلى نتائج كانت الدقيقة.
وعلى العموم، يدور مبحث المعرفة حول ثلاثة أمور:
1. إمكان المعرفة
2. مصادر المعرفة وأدواتها
3. طبيعة المعرفة
تعالج النقطة الأولى (إمكان المعرفة) التساؤلات التي تثار حول صدق معارفنا؛ هل هي ممكنة؟ وهل يمكننا معرفة الأشياء على حقيقتها؟ وقد وضعت إجابات لهذه التساؤلات من قبل الفلاسفة على مر العصور. من أهم هذه الإجابات:
1. إن معارفنا لا تمثل الحقيقة كما هي لأنها تعتمد على أعضاء الحس الذي لا يمكن الوثوق من سلامة معطياته، أو العقل الذي لا يعرف كنهه أصلاً، وكان هذا مذهب السفسطائيين واللاأدريين والشكاك. ويمثل الاتجاه الأول بروتاغوراس، فيما يمثل الجانب الثاني بيرون وأتباعه: أنسيديموس، وأجريبا، وأمبريكوس.
2. إننا نستطيع التوصل إلى معرفة حقيقة الأشياء، وإن المجال مفتوح للعقل لمعرفة الحقائق كما هي. وكان هذا رأي الفلاسفة اليقينيين والعقليين أمثال ديكارت، وسبينوزا، وليبنتز، وفولف، وأفلاطون أيضاً، والماركسيين.
3. فيما ذهب الظاهراتيون إلى أن المعلوم ظاهرة شعورية، لكنها موجودة واقعاً.
أما النقطة الثانية (مصادر المعرفة)، فتدور حول التساؤل عن الأداة التي بواسطتها نعرف العالم الخارجي؛ هل هي الحواس أم العقل أم شيء آخر؟ وقد قدم الفلاسفة أيضاً إجابات عنها، أهمها:
1. إن العقل هو مصدر معرفتنا، وهذا رأي العقليين: ديكارت كما مرّ.
2. إن الحس هو مصدر معرفتنا، وكان هذا رأي التجريبيين، ويمثلهم أرسطو، وفرنسيس بيكون، ولوك، وهيوم، وباركلي.
3. إن العقل والحس معاً هما مصدر معرفتنا، وهذا رأي المذهب النقدي الذي يمثله كانت، ومن ثم هردر، وليبمان، وريل.
4. إن مصدر معرفتنا الحدس، وهذا رأي برجسون.
وأما عن طبيعة المعرفة التي نتحصلها، فكان الجواب:
1. بأنها واقعية، وهو رأي عند الواقعيين.
2. بأنها ذاتية، عند المثاليين: المثالية الذاتية، والمثالية النقدية.
وأما السؤال عن منبع المعرفة، فكانت الأجوبة المقدمة:
1. بأنه العقل، عند أصحاب المذهب العقلي، وأبرزهم ديكارت (ت. 1650).
2. أو التجربة، عند أصحاب المذهب التجريبي: بيكون (ت. 1626)، وهوبز (ت. 1679)، وكوندياك (ت. 1780)، ولوك (ت. 1704)، وهيوم (ت. 1776).
3. أو الوجدان والحدس، عند الصوفيين.
4. المجتمع، عند دوركهايم (ت. 1917).
مبحث القيم
أما مبحث القيم أو الأكسيولوجيا، فينقسم على ثلاثة حقول وهي: الجمال (علم الجمال)، والأخلاق (الخير)، والحق (المنطق). وفي كل قسم من هذه الأقسام مذاهب متنوعة؛ فنجد مذهب الحدس، والغائية، واللذة، والطاقة الحيوية، والزهد في علم الأخلاق، فيما نجد المذهب المثالي، والطبيعي، والإلهام، واللاوعي، والرومانسي، والرمزي في تفسير قضايا الجمال.
أولاً: الأخلاق
يختص الدرس الفلسفي بالتساؤل حول القيم التي نؤمن بها، أو المُثل التي تعد قوانين أخلاقية أو جمالية أو منطقية، مثل: ما هو الخطأ والصواب؟ وما هو الجميل والقبيح؟ وما هو الخير والشر؟ وما هي المسؤولية والإرادة والحرية؟ والمبحث الذي يضم هذه التساؤلات هو مبحث القيم أو الأكسيولوجيا، وهو ثلاثة أقسام كما تقدم: المنطق، والأخلاق، والجمال.
فعلم الأخلاق يدرس الأعمال القصدية الواعية التي يبديها الإنسان تجاه نفسه، وتُصنف إلى أعمال خيرة وأخرى شريرة. وأهم مميزات هذا الحقل الفلسفي:
1. إنه حقل عملي.
2. إنه علم معياري، فهو معني بدراسة ما يجب أن يكون عليه الإنسان.
3. ينشد المثل الأعلى دائماً.
وأهم التساؤلات التي أُثيرت في هذا المبحث: هل لنا أن نعرف الخير والشر على حقيقتهما؟ وقد أُعطيت إجابات نوجزها:
1. يمكن معرفة الخير من خلال التجربة الحسية، وقيمة الفعل الخلقي بنتائجه فقط، وغايته اللذة والمنفعة. وأبرز من قال بذلك: بنتام، وستيورات مل.
2. يمكن معرفة الخير والشر من خلال العقل، وقيمة الفعل الأخلاقي بذاته. وهذا هو المذهب العقلي في الأخلاق، الذي يُعد كانت أبرز من يمثله.
3. إن معرفة الخير لا تحتاج إلى أي استدلال، بل هي كليات أولية تُعرف بالحدس، وهذا هو مذهب الحاسة الخلقية، وخير من يمثله برجسون.
أما المصادر الأخلاقية التي تجعلنا نشعر بالمسؤولية الأخلاقية تجاه أنفسنا واتجاه الآخر، فقد وُضعت بشأنها عدة إجابات تتمثل في:
الضمير، وهذا هو رأي المذهب العقلاني في الأخلاق.
الأديان السماوية.
الإلزام الخلقي الذي يتولد من العيش في جماعة، وهذا رأي المدرسة الاجتماعية، وخير من يمثلها دوركايم.
فقد تساءلت فلسفة الأخلاق: ما أصل شعورنا الأخلاقي؟ فكان الجواب:
بأنه قوة غريزية تميز الخير والشر، عند مذهب اللقانة.
أو أنه التجربة، عند مذهب التجربة أو مذهب التطور (سبنسر، ت 1903).
ثم تساءلت: ما الباعث الذي يحيلنا على إطاعة ما يمليه علينا شعورنا؟ فكان الجواب:
بأنه باعث نفسي.
أو إنه باعث عقلي.
وتساءلت أيضًا: ما الغرض من أفعالنا الأخلاقية؟ فكان الجواب:
بأنه الحصول على السعادة والفضيلة، عند الرواقيين.
بأنه اللذة بكل أنواعها، عند الأبيقوريين.
وتساءلت أيضًا: كيف نقيس أعمالنا الأخلاقية؟ فكان الجواب:
بأن المقياس هو الذات... الضمير... صوت العقل (عند العقليين).
بأنه القانون الخارجي، الذي يتمثل في الله، أو القانون، أو المجتمع، أو الدولة.
وتساءلت: هل الإنسان حر؟ فكان الجواب:
بأنه حر (المعتزلة وسبينوزا).
بأنه مجبر.
ثانيًا: الجمال
التساؤلات الكبرى في هذا المبحث تدور حول:
ما هي معاني تلك الألفاظ والعلاقة بينها: جميل، وجليل، وفاتن، ودميم؟
كيفية إثبات صدق الأحكام الجمالية؟
ما العمل الفني؟
كيف نقيس الجميل؟ هل هو نسبي أو مطلق؟ موضوعي أو ذاتي؟ وهاتان مدرستان متباينتان.
والأسئلة العامة في هذا المبحث:
ما طبيعة القيم؟
ما هو الخير والشر؟ وما هو أصلهما؟
ما حقيقة الصواب والخطأ؟
ما هو مصدر الإبداع؟
ثالثًا: الحق
والحق مجاله المنطق، الذي يتكفل بفحص الأفكار والتصورات واللغة التي نستعملها، لذلك وُصف بأنه العلم الذي يعصمنا عن الخطأ. وقديمًا كان منطق أرسطو هو السائد في مجال الفكر، إلا أن القصور الذي لازمه تمثل في اقتصاره على الجانب الشكلي للفكر.
وبعد نشوء العلوم المادية، برز حقل منطقي آخر يهتم بالجانب المادي للفكر، وهو المنطق المادي أو منطق العلوم. فيما كان يُسمى منطق أرسطو بالمنطق الصوري، لأنه كان مقتصرًا على القضايا الصورية من التفكير.
لذلك، فمن البديهي أن يكون تعريف المنطق الأرسطي مختلفًا عن تعريف المنطق المادي الجديد، لأن كلاً من الموضوعين يختلف عن الآخر، إذ يهدف الأول إلى عصمة العقل من الخطأ، أما المنطق المادي أو منهج البحث العلمي، فهو يرسم الخط الصحيح للتجربة العلمية.
فليس من مهماته وضع قوانين تستند إلى مسلمات يُزعم أنها يقينية، إذ أن ذلك كان قد أدى بالمنطق السابق إلى أن يكون بحثًا في دائرة شبه مفرغة.
ويرتكز المنطق الأرسطي على ثلاثة قوانين، سُميت بقوانين الفكر الأساسية، وهي:
قانون الهوية: مثلًا، أ هو أ.
قانون عدم التناقض: أ لا يمكن أن يكون ب ولا ب في آن واحد.
قانون الوسط الممتنع: أ لا بد أن يكون ب أو لا ب، ولا ثالث لهما.
وتلحق بالمباحث الثلاثة المتقدمة حقول بحثية أخرى، منها:
فلسفة الدين
فلسفة التاريخ
فلسفة اللغة
فلسفة القانون
فلسفة العلم
هذه النظريات والمذاهب لا يُشترط أن تظهر في آراء فيلسوف واحد، أو في زمان، أو في مكان واحد."
د. علي حسين يوسف
المصادر:
أسس الفلسفة، توفيق الطويل
مبادئ الفلسفة، رابوبرت
مدخل جديد للفلسفة، عبد الرحمن بدوي
قصة الفلسفة، ديورانت