توظيف الحلم في مسرح توفيق الحكيم
د.علي خليفة
الحلم هو ما يراه الإنسان في نومه، وقد يكون تعبيرا عن انشغال الإنسان بالتفكير في أمر ما، فيصور له الحلم بشكل مبالغ فيه تبعات هذا الأمر ونتائجه، والحلم يكون نبوءة عن أشياء ستحدث في المستقبل عند الأنبياء وبعض الصالحين، وقد يتحول الحلم لأضغاث تصيب الإنسان بالشعور بالضيق والأذى، وهو ما يسمى بالكابوس.
وهناك أيضا أحلام اليقظة التي يستغرق فيها الإنسان لا سيما في فترة المراهقة، ويتصور فيها أشياء يتمنى حدوثها، ويرى أثر وقوعها على نفسه وعلى المحيطين به، وغالبا ما تقوم هذه الأحلام بعمل دغدغة للنفس، تشعرها ببعض المتعة، كما أن هذه الأحلام تجعل الشخص يشعر بقدر من التعويض لما لا يستطيع تحقيقه في الواقع، ويتصور حدوثه في أحلام اليقظة هذه.
وفي بعض المسرحيات يتم توظيف الحلم، سواء أكان حلما مناميا أم حلم يقظة، ويتم من خلال هذا التوظيف عرض أحداث ندرك - في الغالب - بعد حدوثها أنها كانت تدور في إطار الحلم، ولم تكن تحدث في الحقيقة.
ومن أشهر المسرحيات التي نرى فيها توظيف الحلم في أحداثها مسرحية الحياة حلم لكالديرون دي لا باركا، وفيها يتم النظر للحياة على أنها قد تكون حلما يأتي لنا في صورة قريبة من الحقيقة، كما أن هذه المسرحية تجعل الحقيقة والحلم في كفتين متساويتين، وهذه نظرة فلسفية يطرحها كالديرون في هذه المسرحية. وكذلك يصور لنا شكسبير في مسرحية حلم ليلة صيف تداخل الحلم مع الحقيقة بشكل يثير التأمل، ويبعث على الفكاهة في الوقت نفسه.
ونرى في بعض مسرحيات كاتبنا الكبير توفيق الحكيم توظيف الحلم بها، ويكون لهذا التوظيف أثره على البناء الدرامي لهذه المسرحيات التي بها هذه الخصيصة من مسرحياته، وغالبا ما يتم فيها استخدام طريقة استرجاع الأحداث فيها أو خصيصة الاستباق بها.
وأيضا نرى أن هذا التوظيف للحلم في مسرح توفيق الحكيم يثير بعض القضايا الفكرية، كما سنوضح في هذه المقالة.
١- الشك في أن الحياة حلم أو حقيقة
طرحت مسرحية الحياة حلم لكالديرون دي لاباركا هذه النظرة الفلسفية للحياة، ونرى في مسرحية أهل الكهف لتوفيق الحكيم أصداء لهذه الفكرة، فنرى مرنوش في هذه المسرحية وقرب نهايتها لا يستطيع أن يفرق بين الحلم والحقيقة، ويرى أن عودته مع ميشلينيا ويمليخا للحياة بعد النوم في الكهف لمدة ثلاثمائة عام أو يزيد - أمر لا يمكنه الجزم بأنه تم في الحقيقة، فهو يراه حلما حدث له خلال نومه في الكهف، ويرى أن عقله البشري لا يمكنه أن يتصور أن يكون قد عاد للحياة بعد ثلاثمائة عام، واكتشف أنه قد انقطعت به السبل بكل ما يربطه بالحياة.
وتظل حالة الحيرة هذه عند مرنوش بعد أن عاد للكهف، واستيقظ من إغفاءة به، حتى يستسلم للموت، وهو في هذه الحيرة التي جعلته أيضا لا يُؤْمِن بشيء، فهو رأى الحياة والحلم في كفة واحدة، ولم يستطع أن يستوعب مسألة بعثه للحياة مرة أخرى، ورأى أن كل ما كان بعد بعثه قد يكون حلما، ومات وهو غير مؤمن بأي حقيقة ثابتة في الوجود.
وميشلينيا خلاف مرنوش، فهو استوعب مسألة بعثه مع رفيقيه للحياة بعد أن فوجئ بهذه الصدمة، وجعله حبه لبريسكا الحفيدة يتمسك بهذا الواقع الجديد، ولكن الزمن سحقه، وقضى عليه، قبل أن ينعم بحياته الجديدة في عصر مختلف عن عصره الذي ولد ونشأ به، ومع محبوبته بريسكا الحفيدة التي كانت وسيلته للتمسك بهذا العصر، إلى أن سحقا الزمن ومات.
وبالطبع هذه رؤية فكرية للحكيم بثها في هذه المسرحية، ولا نتفق معه في تأويله الفلسفي للتحولات التي حدثت لمرنوش وهو أحد فتية الكهف؛ فالله تعالى يصفهم في كتابه الكريم بأنهم (فتية آمنوا بالله وزدناهم هدى).
٢- انسحاب الإنسان من واقعه للحلم
وينسحب الإنسان من واقعه للحلم حين يشعر بإفلاس واقعه أو بسوداويته، أو بوطأته الشديدة عليه، وكذلك ينسحب الإنسان من الواقع للحلم حين يمثل الحلم المثال الكامل الذي لا يوجد في الحياة، ونرى صدى هذه الفكرة الأخيرة في مسرحية توفيق الحكيم القصيرة بين الحلم والواقع، التي نشرها في كتاب عهد الشيطان، وفي هذه المسرحية نرى مثالا موهوبا صنع تمثالا لزوجته، ورأى أن هذا التمثال حوى من عناصر الكمال ما لا يوجد في زوجته، فترك التغزل في زوجته، وصار يتغزل في هذا التمثال، ويوجه له حديثه واهتمامه، وتغار زوجته من هذا التمثال الذي كان سبب إهمال زوجها لها، فتكسره، وهنا يفيق المثال من حلمه، ويرتد لواقعه، ويعود لزوجته، فيتغزل فيها، كما كان يفعل قبل أن يصنع ذلك التمثال.
وتوفيق الحكيم استوحى هذه المسرحية القصيرة من أسطورة بجماليون، وكانت مسرحية بين الحلم والواقع الصياغة الأولى التي أثمرت بعد ذلك مسرحيته الرائعة بجماليون، وفي هاتين المسرحيتين يرى الحكيم أن المبدع لا يمكنه أن يجمع بين الفن والحياة ممثلة في المرأة، وغالبا ما يضحي بأحدهما ليبقى له الطرف الآخر، ولكن حيرته مع ذلك تظل مستمرة.
٣- الحلم بالتطلع لواقع أفضل
ويستخدم توفيق الحكيم طريقة الحلم في مسرحيته القصيرة"نحو حياة أفضل" من أجل أن يعبر عن تطلعه لحياة أفضل للإنسان على هذه الأرض، ففي هذه المسرحية نرى مصلحا اجتماعيا يقرأ مسرحية فاوست لجوتة، ثم يدخل في النوم، ويرى الشيطان في الحلم، ويطلب إليه أن يصلح حال القرية التي زارها مع زوجته، ويوافقه الشيطان على ذلك بعد أن يشترط عليه القيام بأمر ما، ويحقق الشيطان لذلك المصلح ما أراده منه، فقد تحولت هذه القرية في تنظيمها ومبانيها ووسائل الزراعة فيها لما يشبه الريف في أوروبا، ولكن المصلح الاجتماعي يكتشف أن الفلاحين في هذه القرية لم تتغير أخلاقياتهم للأحسن، ويطلب إلى الشيطان أن يصلح أخلاقياتهم كما أصلح بيوتهم والآلات التي يزرعون بها، ويفاجئه الشيطان بقوله له: إن هذا الأمر خارج قدرته، ويستيقظ ذلك المصلح الاجتماعي من نومه، وهو راضٍ عن نفسه؛ لإدراكه أن إصلاح نفوس الناس هو من اختصاصه هو وأمثاله، وعليه أن يبذل كل جهوده في هذا الأمر.
٤- انكسار الحلم بالتطلع لواقع يبدو أفضل
وقد يرى البعض أن لديهم آمالا يبدو أنه مستحيل تحقيقها في الواقع، ويكون الحلم هو المتنفس لتصور تحقيقها، وتكون المفارقة أنه حين تتحقق هذه الأحلام يصاب الشخص الذي كان يتمنى تحقيقها بالألم والضيق لذلك، كما نرى في مسرحية لو عرف الشباب، ففي هذه المسرحية كان صديق باشا الشيخ المسن ينتظر موته في وقت قريب نتيجة كبر سنه وتفشي الأمراض في جسمه، وحين حدثه صديقه الطبيب طلعت عن عقار يسعى لاختراعه يعيد لأنسجة الإنسان حيويتها؛ مما يعني عودة الشباب لكبار السن - يتمنى أن يتحقق ذلك، ويدخل صديق باشا في نوم عميق بعد أن أعطاه الطبيب طلعت حقنة لعلاجه من مرض يشكو منه، وخلال نومه تصور ان هذه الحقنة هي العقار الذي أعاد له شبابه، ويسعد في البداية في الحلم صديق بعودة شبابه له، ويلهو ويأكل ما يشتهي، ثم يكتشف أنه لا يستطيع أن يستمتع بحياته وهو بعقل شيخ وجسم شاب، وينتهي به الأمر بأن يرى ذلك الشباب الذي منحه عبئا عليه، ويتمنى أن تعود له الشيخوخة بهدوئها الذي يناسب عقل الشيخ الذي له، ويقوم صديق باشا من نومه، ويحمد الله على أنه لم يعد له شبابه.
ولا شك أننا نرى توفيق الحكيم في هذه المسرحية ومسرحية أهل الكهف ومسرحية رحلة إلى الغد - يرى أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش في غير العصر الذي ولد ونشأ فيه، وهي نظرة فيها قدر من التشاؤم والمحافظة من الحكيم للحياة، تتفق مع نظرته للحياة في أنه كان كثير المعكوف مع نفسه، وقليل الاختلاط بالناس؛ ليتفرغ للقراءة والبحث والتأمل والكتابة.
٥- الحلم وسيلة لإعادة النظر في الحياة، ولبث أفكار غريبة عنها.
ولجأ توفيق الحكيم لطريقة الحلم في مسرحية الدنيا رواية هزلية من أجل أن يعيد النظر في بعض الأمور الخاصة بالواقع على الأرض، ومن أجل الحديث عن بعض الأمور الغيبية. ففي هذه المسرحية نرى خالد الموظف في أرشيف إحدى المؤسسات الحكومية يشكو من أنه لا يجد عملا يعمله، ويقرأ في كتاب عن التناسخ عند الفراعنة والهنود، وخلال نومه يتخيل نفسه في العالم الآخر بما يتفق مع الإيمان بالتناسخ في عقيدة الهنود - على وجه الخصوص - ولم يكن ممكنا للحكيم أن يقدم تلك النظرة عن العالم الآخر بهذا الشكل إلا من خلال الحلم، وكذلك نرى الحكيم من خلال الحلم الذي يحلمه خالد في هذه المسرحية ينقد كثيرا من جوانب الواقع، فنرى خالد ينزل للأرض عدة مرات، وفي كل مرة ينزل لها بشخصية جديدة، مع ما يتفق ومفهوم التناسخ في بعض العقائد الهندية، وفي مرة ينزل خالد للأرض، فيكون زعيم إحدى الدول الكبرى، ويدعو للقضاء على الأسلحة النووية والذرية، ولكنه يقتل قبل أن يتم حلمه هذا، وفي ذلك دلالة على أن الدعاة للإصلاح على الأرض قلما ينجحون؛ لكثرة العقبات التي تواجههم، ولكثرة أصحاب الضمائر السيئة الذين يعترضون إصلاحاتهم.
وأيضا ينزل خالد في مرة أخرى للأرض على هيئة صياد، وتتحطم السفينة التي كان فيها في ساحل جزيرة، ويعيش وحيدا في هذه الجزيرة، ثم يكتشف حين جاءت له ممرضة من إحدى السفن التي مرت بهذه الجزيرة - أن هذه الجزيرة ستدمر؛ لأنها ملوثة بالإشعاعات الذرية، وأنه مصاب بهذه الإشعاعات.
وهكذا نرى أن توفيق الحكيم وظف الحلم في مسرحياته بطرق مختلفة، وكان لتوظيفه له أثر على البناء الدرامي لهذه المسرحيات التي فيها تلك الطريقة، كما أن توفيق الحكيم بث بعض أفكاره الفلسفية والسياسية والاجتماعية خلال توظيفه الحلم في بعض مسرحياته.
د.علي خليفة
الحلم هو ما يراه الإنسان في نومه، وقد يكون تعبيرا عن انشغال الإنسان بالتفكير في أمر ما، فيصور له الحلم بشكل مبالغ فيه تبعات هذا الأمر ونتائجه، والحلم يكون نبوءة عن أشياء ستحدث في المستقبل عند الأنبياء وبعض الصالحين، وقد يتحول الحلم لأضغاث تصيب الإنسان بالشعور بالضيق والأذى، وهو ما يسمى بالكابوس.
وهناك أيضا أحلام اليقظة التي يستغرق فيها الإنسان لا سيما في فترة المراهقة، ويتصور فيها أشياء يتمنى حدوثها، ويرى أثر وقوعها على نفسه وعلى المحيطين به، وغالبا ما تقوم هذه الأحلام بعمل دغدغة للنفس، تشعرها ببعض المتعة، كما أن هذه الأحلام تجعل الشخص يشعر بقدر من التعويض لما لا يستطيع تحقيقه في الواقع، ويتصور حدوثه في أحلام اليقظة هذه.
وفي بعض المسرحيات يتم توظيف الحلم، سواء أكان حلما مناميا أم حلم يقظة، ويتم من خلال هذا التوظيف عرض أحداث ندرك - في الغالب - بعد حدوثها أنها كانت تدور في إطار الحلم، ولم تكن تحدث في الحقيقة.
ومن أشهر المسرحيات التي نرى فيها توظيف الحلم في أحداثها مسرحية الحياة حلم لكالديرون دي لا باركا، وفيها يتم النظر للحياة على أنها قد تكون حلما يأتي لنا في صورة قريبة من الحقيقة، كما أن هذه المسرحية تجعل الحقيقة والحلم في كفتين متساويتين، وهذه نظرة فلسفية يطرحها كالديرون في هذه المسرحية. وكذلك يصور لنا شكسبير في مسرحية حلم ليلة صيف تداخل الحلم مع الحقيقة بشكل يثير التأمل، ويبعث على الفكاهة في الوقت نفسه.
ونرى في بعض مسرحيات كاتبنا الكبير توفيق الحكيم توظيف الحلم بها، ويكون لهذا التوظيف أثره على البناء الدرامي لهذه المسرحيات التي بها هذه الخصيصة من مسرحياته، وغالبا ما يتم فيها استخدام طريقة استرجاع الأحداث فيها أو خصيصة الاستباق بها.
وأيضا نرى أن هذا التوظيف للحلم في مسرح توفيق الحكيم يثير بعض القضايا الفكرية، كما سنوضح في هذه المقالة.
١- الشك في أن الحياة حلم أو حقيقة
طرحت مسرحية الحياة حلم لكالديرون دي لاباركا هذه النظرة الفلسفية للحياة، ونرى في مسرحية أهل الكهف لتوفيق الحكيم أصداء لهذه الفكرة، فنرى مرنوش في هذه المسرحية وقرب نهايتها لا يستطيع أن يفرق بين الحلم والحقيقة، ويرى أن عودته مع ميشلينيا ويمليخا للحياة بعد النوم في الكهف لمدة ثلاثمائة عام أو يزيد - أمر لا يمكنه الجزم بأنه تم في الحقيقة، فهو يراه حلما حدث له خلال نومه في الكهف، ويرى أن عقله البشري لا يمكنه أن يتصور أن يكون قد عاد للحياة بعد ثلاثمائة عام، واكتشف أنه قد انقطعت به السبل بكل ما يربطه بالحياة.
وتظل حالة الحيرة هذه عند مرنوش بعد أن عاد للكهف، واستيقظ من إغفاءة به، حتى يستسلم للموت، وهو في هذه الحيرة التي جعلته أيضا لا يُؤْمِن بشيء، فهو رأى الحياة والحلم في كفة واحدة، ولم يستطع أن يستوعب مسألة بعثه للحياة مرة أخرى، ورأى أن كل ما كان بعد بعثه قد يكون حلما، ومات وهو غير مؤمن بأي حقيقة ثابتة في الوجود.
وميشلينيا خلاف مرنوش، فهو استوعب مسألة بعثه مع رفيقيه للحياة بعد أن فوجئ بهذه الصدمة، وجعله حبه لبريسكا الحفيدة يتمسك بهذا الواقع الجديد، ولكن الزمن سحقه، وقضى عليه، قبل أن ينعم بحياته الجديدة في عصر مختلف عن عصره الذي ولد ونشأ به، ومع محبوبته بريسكا الحفيدة التي كانت وسيلته للتمسك بهذا العصر، إلى أن سحقا الزمن ومات.
وبالطبع هذه رؤية فكرية للحكيم بثها في هذه المسرحية، ولا نتفق معه في تأويله الفلسفي للتحولات التي حدثت لمرنوش وهو أحد فتية الكهف؛ فالله تعالى يصفهم في كتابه الكريم بأنهم (فتية آمنوا بالله وزدناهم هدى).
٢- انسحاب الإنسان من واقعه للحلم
وينسحب الإنسان من واقعه للحلم حين يشعر بإفلاس واقعه أو بسوداويته، أو بوطأته الشديدة عليه، وكذلك ينسحب الإنسان من الواقع للحلم حين يمثل الحلم المثال الكامل الذي لا يوجد في الحياة، ونرى صدى هذه الفكرة الأخيرة في مسرحية توفيق الحكيم القصيرة بين الحلم والواقع، التي نشرها في كتاب عهد الشيطان، وفي هذه المسرحية نرى مثالا موهوبا صنع تمثالا لزوجته، ورأى أن هذا التمثال حوى من عناصر الكمال ما لا يوجد في زوجته، فترك التغزل في زوجته، وصار يتغزل في هذا التمثال، ويوجه له حديثه واهتمامه، وتغار زوجته من هذا التمثال الذي كان سبب إهمال زوجها لها، فتكسره، وهنا يفيق المثال من حلمه، ويرتد لواقعه، ويعود لزوجته، فيتغزل فيها، كما كان يفعل قبل أن يصنع ذلك التمثال.
وتوفيق الحكيم استوحى هذه المسرحية القصيرة من أسطورة بجماليون، وكانت مسرحية بين الحلم والواقع الصياغة الأولى التي أثمرت بعد ذلك مسرحيته الرائعة بجماليون، وفي هاتين المسرحيتين يرى الحكيم أن المبدع لا يمكنه أن يجمع بين الفن والحياة ممثلة في المرأة، وغالبا ما يضحي بأحدهما ليبقى له الطرف الآخر، ولكن حيرته مع ذلك تظل مستمرة.
٣- الحلم بالتطلع لواقع أفضل
ويستخدم توفيق الحكيم طريقة الحلم في مسرحيته القصيرة"نحو حياة أفضل" من أجل أن يعبر عن تطلعه لحياة أفضل للإنسان على هذه الأرض، ففي هذه المسرحية نرى مصلحا اجتماعيا يقرأ مسرحية فاوست لجوتة، ثم يدخل في النوم، ويرى الشيطان في الحلم، ويطلب إليه أن يصلح حال القرية التي زارها مع زوجته، ويوافقه الشيطان على ذلك بعد أن يشترط عليه القيام بأمر ما، ويحقق الشيطان لذلك المصلح ما أراده منه، فقد تحولت هذه القرية في تنظيمها ومبانيها ووسائل الزراعة فيها لما يشبه الريف في أوروبا، ولكن المصلح الاجتماعي يكتشف أن الفلاحين في هذه القرية لم تتغير أخلاقياتهم للأحسن، ويطلب إلى الشيطان أن يصلح أخلاقياتهم كما أصلح بيوتهم والآلات التي يزرعون بها، ويفاجئه الشيطان بقوله له: إن هذا الأمر خارج قدرته، ويستيقظ ذلك المصلح الاجتماعي من نومه، وهو راضٍ عن نفسه؛ لإدراكه أن إصلاح نفوس الناس هو من اختصاصه هو وأمثاله، وعليه أن يبذل كل جهوده في هذا الأمر.
٤- انكسار الحلم بالتطلع لواقع يبدو أفضل
وقد يرى البعض أن لديهم آمالا يبدو أنه مستحيل تحقيقها في الواقع، ويكون الحلم هو المتنفس لتصور تحقيقها، وتكون المفارقة أنه حين تتحقق هذه الأحلام يصاب الشخص الذي كان يتمنى تحقيقها بالألم والضيق لذلك، كما نرى في مسرحية لو عرف الشباب، ففي هذه المسرحية كان صديق باشا الشيخ المسن ينتظر موته في وقت قريب نتيجة كبر سنه وتفشي الأمراض في جسمه، وحين حدثه صديقه الطبيب طلعت عن عقار يسعى لاختراعه يعيد لأنسجة الإنسان حيويتها؛ مما يعني عودة الشباب لكبار السن - يتمنى أن يتحقق ذلك، ويدخل صديق باشا في نوم عميق بعد أن أعطاه الطبيب طلعت حقنة لعلاجه من مرض يشكو منه، وخلال نومه تصور ان هذه الحقنة هي العقار الذي أعاد له شبابه، ويسعد في البداية في الحلم صديق بعودة شبابه له، ويلهو ويأكل ما يشتهي، ثم يكتشف أنه لا يستطيع أن يستمتع بحياته وهو بعقل شيخ وجسم شاب، وينتهي به الأمر بأن يرى ذلك الشباب الذي منحه عبئا عليه، ويتمنى أن تعود له الشيخوخة بهدوئها الذي يناسب عقل الشيخ الذي له، ويقوم صديق باشا من نومه، ويحمد الله على أنه لم يعد له شبابه.
ولا شك أننا نرى توفيق الحكيم في هذه المسرحية ومسرحية أهل الكهف ومسرحية رحلة إلى الغد - يرى أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش في غير العصر الذي ولد ونشأ فيه، وهي نظرة فيها قدر من التشاؤم والمحافظة من الحكيم للحياة، تتفق مع نظرته للحياة في أنه كان كثير المعكوف مع نفسه، وقليل الاختلاط بالناس؛ ليتفرغ للقراءة والبحث والتأمل والكتابة.
٥- الحلم وسيلة لإعادة النظر في الحياة، ولبث أفكار غريبة عنها.
ولجأ توفيق الحكيم لطريقة الحلم في مسرحية الدنيا رواية هزلية من أجل أن يعيد النظر في بعض الأمور الخاصة بالواقع على الأرض، ومن أجل الحديث عن بعض الأمور الغيبية. ففي هذه المسرحية نرى خالد الموظف في أرشيف إحدى المؤسسات الحكومية يشكو من أنه لا يجد عملا يعمله، ويقرأ في كتاب عن التناسخ عند الفراعنة والهنود، وخلال نومه يتخيل نفسه في العالم الآخر بما يتفق مع الإيمان بالتناسخ في عقيدة الهنود - على وجه الخصوص - ولم يكن ممكنا للحكيم أن يقدم تلك النظرة عن العالم الآخر بهذا الشكل إلا من خلال الحلم، وكذلك نرى الحكيم من خلال الحلم الذي يحلمه خالد في هذه المسرحية ينقد كثيرا من جوانب الواقع، فنرى خالد ينزل للأرض عدة مرات، وفي كل مرة ينزل لها بشخصية جديدة، مع ما يتفق ومفهوم التناسخ في بعض العقائد الهندية، وفي مرة ينزل خالد للأرض، فيكون زعيم إحدى الدول الكبرى، ويدعو للقضاء على الأسلحة النووية والذرية، ولكنه يقتل قبل أن يتم حلمه هذا، وفي ذلك دلالة على أن الدعاة للإصلاح على الأرض قلما ينجحون؛ لكثرة العقبات التي تواجههم، ولكثرة أصحاب الضمائر السيئة الذين يعترضون إصلاحاتهم.
وأيضا ينزل خالد في مرة أخرى للأرض على هيئة صياد، وتتحطم السفينة التي كان فيها في ساحل جزيرة، ويعيش وحيدا في هذه الجزيرة، ثم يكتشف حين جاءت له ممرضة من إحدى السفن التي مرت بهذه الجزيرة - أن هذه الجزيرة ستدمر؛ لأنها ملوثة بالإشعاعات الذرية، وأنه مصاب بهذه الإشعاعات.
وهكذا نرى أن توفيق الحكيم وظف الحلم في مسرحياته بطرق مختلفة، وكان لتوظيفه له أثر على البناء الدرامي لهذه المسرحيات التي فيها تلك الطريقة، كما أن توفيق الحكيم بث بعض أفكاره الفلسفية والسياسية والاجتماعية خلال توظيفه الحلم في بعض مسرحياته.