سقراط كما رآه هيغل (الجزء 2) - سقراط: الفيلسوف في الميدان
لم يكن سقراط فيلسوفًا معتزلاً، بل عاش حياته وسط الناس. وُلد في أثينا عام 469 ق.م، لأب نحات وأم قابلة. تعلم النحت أولًا، ثم اجتذبته الفلسفة بكل شغفها وأسئلتها. شارك في الحياة العسكرية بشجاعة، أنقذ رفاقه، وأثبت قدرة استثنائية على التحمل، سواء في المعارك أو في التأمل الذي كان يغرق فيه أحيانًا.
كما شارك في الحياة السياسية، ووقف صلبًا ضد ظلم الطغاة وضد قرارات الشعب الجائرة. غير أن عمله الحقيقي كان في الشوارع والأسواق، يحاور الجميع بلا تمييز، ويطرح أسئلته المحرجة حول الخير والعدل والمعرفة. كان حواره مع الآخرين يتميز بالعدل والصدق واللطف، دون تعالٍ أو فرض، بل بدعوة حرة إلى التفكير.
منهجه: التهكم والتوليد
كان منهج سقراط في الحوار امتدادًا لفلسفته. اعتمد على أسلوبين رئيسيين:
التهكم: بادعاء الجهل، يبدأ بسؤال بسيط، ليقود محاوره عبر سلسلة من الأسئلة إلى إدراك تناقضاته الداخلية، ومن ثم إدراك جهله. لم يكن هدفه السخرية أو الإحراج، بل إيقاظ الرغبة في الحقيقة. كان تهكمه مختلفًا عن تهكم العصور الحديثة، فقد كان جادًا في دعوته إلى الخير.
التوليد: مستلهِمًا مهنة والدته القابلة، كان يساعد الأرواح على ولادة الأفكار الكامنة فيها. لم يكن يلقن معارف جاهزة، بل كان يحفّز العقل على اكتشاف الحقائق بنفسه، عبر حوار دقيق وصارم. هذا التوليد كان يقود المحاورين عادةً إلى الشعور بالحيرة، وهي نقطة انطلاق حقيقية نحو الفلسفة.
الخير، الفضيلة، وصعوبة التعريف
رغم أن سقراط كان يُظهر الخير كغاية كبرى، إلا أن تحديده الدقيق لهذا الخير بقي غير مكتمل. في بعض الحوارات، كان الخير يبدو طاعة للقوانين، لكنها قوانين قابلة للتغير. وفي حوارات أخرى، أظهر كيف أن تطبيق القواعد الأخلاقية قد يواجه مواقف معقدة تزعزع بساطتها. وهكذا كانت الأخلاق الحقة عند سقراط تتمثل في الضمير الحي الذي يحكم بالعدل حسب الظروف، لا عبر اتباع قواعد جامدة.
الدايمونيون: صوت سقراط الداخلي
شكل "الدايمونيون" أبرز مظاهر وعي سقراط الداخلي. صوت داخلي كان يرشده في مواقف حياتية محددة. لم يكن ملاكًا ولا ضميرًا عامًا، بل وحيًا فرديًا خاصًا، يمثل مرحلة انتقالية من الاعتماد على الوحي الخارجي إلى استقلالية القرار العقلي. هذا الصوت الداخلي جعل منه نموذجًا مبكرًا للضمير الحر، رغم بقاءه في حدود الفردية.
محاكمته ومصيره
قادته دعوته إلى الضمير الحر ومساءلته للمسلمات إلى أن يُتهم أمام المحكمة الأثينية. كانت التهمتان الأساسيتان ضده هما: عدم احترام آلهة المدينة وإدخال قوى روحية جديدة، وإفساد الشباب الأثيني بتعليمهم الشك والسؤال بدل الطاعة العمياء.
رغم دفاع سقراط، الذي استند فيه إلى حياته النزيهة وشهادات أصدقائه وإلى تكريمه لوحي دلفي الذي نعته بأحكم البشر، إلا أن القضاة رأوا فيه خطرًا حقيقيًا. لقد كان سقراط يهز أساس المجتمع التقليدي، يحث الناس على أن يكونوا أوفياء لضميرهم أكثر من طاعتهم للعادات والمؤسسات. وهكذا، أُدين بأغلبية بسيطة.
عندما سنحت له المحكمة فرصة اقتراح عقوبة بديلة، كما كان العرف، رفض سقراط ذلك. لم يشأ أن يعترف ضمنيًا بأنه مذنب. لم يقبل دفع غرامة كبيرة، ولم يطلب النفي. بصلابة لا تتزعزع، أصر أن لا يساوم على قناعته. وبهذا، صدر الحكم بإعدامه عبر شرب السم.
قبل سقراط حكم الموت بهدوء نادر. لم يهرب حين أتيحت له الفرصة، مؤمنًا بأن احترام القوانين واجب، حتى لو كانت ظالمة في حقه. وفي سجنه، في لحظاته الأخيرة، بقي يناقش أصدقاءه حول خلود الروح وفلسفة الموت، كما يروي أفلاطون في محاورة "فيدون". وعندما حان الموعد، تناول كأس السم بيده دون خوف، ومات محاطًا بتلاميذه، وهو يوصيهم بالثبات على البحث عن الحقيقة والخير.
صورة موت سقراط تركت أثرًا كيرا في أفلاطون، الذي كان آنذاك شابًا تلميذًا. ففي حواراته مثل "الدفاع"، و"فيدون"، و"كريتون"، و"محاورة الجمهورية"، خلد أفلاطون معلمه ليس كفرد فقط، بل كرمز للأخلاق والشجاعة والفلسفة الحرة. أصبح سقراط في كتابات أفلاطون النموذج الأعلى للإنسان الذي يفضل الموت على خيانة ضميره، الذي يرى أن الحياة بلا عدل ولا حق لا تستحق أن تُعاش.
أفلاطون لم يكتف بتخليد سقراط، بل جعل محاكمته ومقتله إدانة للأثينيين أنفسهم. أثينا، المدينة التي أنجبت سقراط، خانت نفسها عندما قتلته. لقد رأت فيه تهديدًا لأنها كانت قد بدأت تفقد روحها الحرة، فأدانته وحكمت على نفسها بالانحدار. فكما أن موت سقراط كان مأساة شخصية، كان أيضًا مأساة مدينة فقدت بوصلتها الأخلاقية.
مأساة سقراط وإرثه
كانت مأساة سقراط مأساة حقيقية. صراع بين حقين متضادين، كلاهما مشروع. ومع أن أثينا أعدمت جسده، فإنها لم تستطع أن تقتل فكرته. لقد بقي المبدأ الذي أعلنه سقراط – مبدأ الوعي الذاتي – حيًا، يؤثر في مسار الفلسفة والتاريخ البشري حتى يومنا هذا.
لقد أدى هذا المبدأ في البداية إلى تفكك أثينا وضعفها، لكنه كان أيضًا اللحظة الضرورية لارتفاع الوعي الإنساني إلى مرحلة أرقى. كانت المعرفة التي سببت السقوط هي نفسها بذرة الخلاص.
جميل سالم، قراءة في محاضرات هيغل حول سقراط (الجزء 2)، ابريل 2025.
(ملاحظة: الأجزاء أعلاه مبنية على نصوص من محاضرات هيغل حول سقراط ضمن مساق الفلسفة في جامعة ينا (جامعة فريدريخ شيلر). محاضرات هيغل اعمق من الملخص أعلاه، وسأحاول رفع ترجمة عربية للمحاضرات المتعلقة بسقراط قريبًا).
لم يكن سقراط فيلسوفًا معتزلاً، بل عاش حياته وسط الناس. وُلد في أثينا عام 469 ق.م، لأب نحات وأم قابلة. تعلم النحت أولًا، ثم اجتذبته الفلسفة بكل شغفها وأسئلتها. شارك في الحياة العسكرية بشجاعة، أنقذ رفاقه، وأثبت قدرة استثنائية على التحمل، سواء في المعارك أو في التأمل الذي كان يغرق فيه أحيانًا.
كما شارك في الحياة السياسية، ووقف صلبًا ضد ظلم الطغاة وضد قرارات الشعب الجائرة. غير أن عمله الحقيقي كان في الشوارع والأسواق، يحاور الجميع بلا تمييز، ويطرح أسئلته المحرجة حول الخير والعدل والمعرفة. كان حواره مع الآخرين يتميز بالعدل والصدق واللطف، دون تعالٍ أو فرض، بل بدعوة حرة إلى التفكير.
منهجه: التهكم والتوليد
كان منهج سقراط في الحوار امتدادًا لفلسفته. اعتمد على أسلوبين رئيسيين:
التهكم: بادعاء الجهل، يبدأ بسؤال بسيط، ليقود محاوره عبر سلسلة من الأسئلة إلى إدراك تناقضاته الداخلية، ومن ثم إدراك جهله. لم يكن هدفه السخرية أو الإحراج، بل إيقاظ الرغبة في الحقيقة. كان تهكمه مختلفًا عن تهكم العصور الحديثة، فقد كان جادًا في دعوته إلى الخير.
التوليد: مستلهِمًا مهنة والدته القابلة، كان يساعد الأرواح على ولادة الأفكار الكامنة فيها. لم يكن يلقن معارف جاهزة، بل كان يحفّز العقل على اكتشاف الحقائق بنفسه، عبر حوار دقيق وصارم. هذا التوليد كان يقود المحاورين عادةً إلى الشعور بالحيرة، وهي نقطة انطلاق حقيقية نحو الفلسفة.
الخير، الفضيلة، وصعوبة التعريف
رغم أن سقراط كان يُظهر الخير كغاية كبرى، إلا أن تحديده الدقيق لهذا الخير بقي غير مكتمل. في بعض الحوارات، كان الخير يبدو طاعة للقوانين، لكنها قوانين قابلة للتغير. وفي حوارات أخرى، أظهر كيف أن تطبيق القواعد الأخلاقية قد يواجه مواقف معقدة تزعزع بساطتها. وهكذا كانت الأخلاق الحقة عند سقراط تتمثل في الضمير الحي الذي يحكم بالعدل حسب الظروف، لا عبر اتباع قواعد جامدة.
الدايمونيون: صوت سقراط الداخلي
شكل "الدايمونيون" أبرز مظاهر وعي سقراط الداخلي. صوت داخلي كان يرشده في مواقف حياتية محددة. لم يكن ملاكًا ولا ضميرًا عامًا، بل وحيًا فرديًا خاصًا، يمثل مرحلة انتقالية من الاعتماد على الوحي الخارجي إلى استقلالية القرار العقلي. هذا الصوت الداخلي جعل منه نموذجًا مبكرًا للضمير الحر، رغم بقاءه في حدود الفردية.
محاكمته ومصيره
قادته دعوته إلى الضمير الحر ومساءلته للمسلمات إلى أن يُتهم أمام المحكمة الأثينية. كانت التهمتان الأساسيتان ضده هما: عدم احترام آلهة المدينة وإدخال قوى روحية جديدة، وإفساد الشباب الأثيني بتعليمهم الشك والسؤال بدل الطاعة العمياء.
رغم دفاع سقراط، الذي استند فيه إلى حياته النزيهة وشهادات أصدقائه وإلى تكريمه لوحي دلفي الذي نعته بأحكم البشر، إلا أن القضاة رأوا فيه خطرًا حقيقيًا. لقد كان سقراط يهز أساس المجتمع التقليدي، يحث الناس على أن يكونوا أوفياء لضميرهم أكثر من طاعتهم للعادات والمؤسسات. وهكذا، أُدين بأغلبية بسيطة.
عندما سنحت له المحكمة فرصة اقتراح عقوبة بديلة، كما كان العرف، رفض سقراط ذلك. لم يشأ أن يعترف ضمنيًا بأنه مذنب. لم يقبل دفع غرامة كبيرة، ولم يطلب النفي. بصلابة لا تتزعزع، أصر أن لا يساوم على قناعته. وبهذا، صدر الحكم بإعدامه عبر شرب السم.
قبل سقراط حكم الموت بهدوء نادر. لم يهرب حين أتيحت له الفرصة، مؤمنًا بأن احترام القوانين واجب، حتى لو كانت ظالمة في حقه. وفي سجنه، في لحظاته الأخيرة، بقي يناقش أصدقاءه حول خلود الروح وفلسفة الموت، كما يروي أفلاطون في محاورة "فيدون". وعندما حان الموعد، تناول كأس السم بيده دون خوف، ومات محاطًا بتلاميذه، وهو يوصيهم بالثبات على البحث عن الحقيقة والخير.
صورة موت سقراط تركت أثرًا كيرا في أفلاطون، الذي كان آنذاك شابًا تلميذًا. ففي حواراته مثل "الدفاع"، و"فيدون"، و"كريتون"، و"محاورة الجمهورية"، خلد أفلاطون معلمه ليس كفرد فقط، بل كرمز للأخلاق والشجاعة والفلسفة الحرة. أصبح سقراط في كتابات أفلاطون النموذج الأعلى للإنسان الذي يفضل الموت على خيانة ضميره، الذي يرى أن الحياة بلا عدل ولا حق لا تستحق أن تُعاش.
أفلاطون لم يكتف بتخليد سقراط، بل جعل محاكمته ومقتله إدانة للأثينيين أنفسهم. أثينا، المدينة التي أنجبت سقراط، خانت نفسها عندما قتلته. لقد رأت فيه تهديدًا لأنها كانت قد بدأت تفقد روحها الحرة، فأدانته وحكمت على نفسها بالانحدار. فكما أن موت سقراط كان مأساة شخصية، كان أيضًا مأساة مدينة فقدت بوصلتها الأخلاقية.
مأساة سقراط وإرثه
كانت مأساة سقراط مأساة حقيقية. صراع بين حقين متضادين، كلاهما مشروع. ومع أن أثينا أعدمت جسده، فإنها لم تستطع أن تقتل فكرته. لقد بقي المبدأ الذي أعلنه سقراط – مبدأ الوعي الذاتي – حيًا، يؤثر في مسار الفلسفة والتاريخ البشري حتى يومنا هذا.
لقد أدى هذا المبدأ في البداية إلى تفكك أثينا وضعفها، لكنه كان أيضًا اللحظة الضرورية لارتفاع الوعي الإنساني إلى مرحلة أرقى. كانت المعرفة التي سببت السقوط هي نفسها بذرة الخلاص.
جميل سالم، قراءة في محاضرات هيغل حول سقراط (الجزء 2)، ابريل 2025.
(ملاحظة: الأجزاء أعلاه مبنية على نصوص من محاضرات هيغل حول سقراط ضمن مساق الفلسفة في جامعة ينا (جامعة فريدريخ شيلر). محاضرات هيغل اعمق من الملخص أعلاه، وسأحاول رفع ترجمة عربية للمحاضرات المتعلقة بسقراط قريبًا).