بالمختصر..... كلمة "صوفيا" تعني في اللغة اليونانية "الحكمة"، وهي تشكّل جوهر الفلسفة التي سُمّيت "فيلوسوفيا"، أي "محبة الحكمة". وقد مرّت هذه الحكمة بتحولات جوهرية عبر الزمن، خاصة قبل سقراط وبعده.
صوفيا قبل سقراط: حكمة الطبيعة والكون
قبل سقراط، كان الفلاسفة يركّزون على تفسير الكون ومبادئه الأولى. لم تكن "صوفيا" لديهم مسألة أخلاقية أو روحية، بل كانت محاولة عقلانية لفهم أصل الوجود والعناصر التي يتكوّن منها العالم. اعتبر بعضهم أن الماء أصل الأشياء، وآخرون رأوا في النار أو الهواء أو العدد جوهرًا لكل شيء.
والفلاسفة ما قبل سقراط، مثل طاليس، أنكسمندر، وهرقليطس، انشغلوا بتفسير الطبيعة والكون وأصول الأشياء عبر العقل والتجريد. كانوا يبحثون عن "العنصر الأول" أو المبدأ الكامن خلف التنوع الظاهري، ما يعطي لفكرهم طابعًا تأمليًا كونيًا.
الطابع العملي قبل سقراط
لكن هذا لا يعني أن صوفيا كانت مفصولة عن الحياة العملية:
الحكمة عند هسيودوس مثلًا، كانت تتضمن معرفة الزراعة، وتنظيم الوقت حسب الفصول، وهي شكل من أشكال صوفيا المرتبطة بالحياة اليومية.
كما أن الحكمة في تقاليد الحرفيين والمهنيين في اليونان القديمة كانت تُعد نوعًا من "صوفيا" أيضًا، لأنها تنطوي على مهارة ومعرفة دقيقة في العمل اليدوي، كصناعة السفن أو الحدادة أو الطب.
صوفيا بعد سقراط: حكمة الإنسان والفضيلة
مع ظهور سقراط، تغيّر معنى "صوفيا" من التأمل في الطبيعة إلى التأمل في الإنسان نفسه. أصبح السؤال الفلسفي يدور حول "ما هي الحياة الفاضلة؟" و"كيف ينبغي للإنسان أن يعيش؟". كانت الحكمة عند سقراط مرتبطة بالمعرفة الذاتية والاعتراف بالجهل، لأن هذا الاعتراف هو بداية الطريق إلى الحقيقة.
ثم جاء أفلاطون فربط الحكمة بعالم المثل، واعتبر أن "صوفيا" الحقيقية هي إدراك الجمال والخير والحق المطلق. وأكمل أرسطو هذا التوجه، فرأى أن الحكمة أسمى أنواع المعرفة، لأنها تسعى وراء الغايات العليا وتوجّه الإنسان نحو الحياة الفاضلة والسعادة.
? ماذا عن أراء الفيلسوف طه عبد الرحمن
وفي العآلم العربي قدم الفيلسوف طه عبد الرحمن قراءة نقدية لمفهوم "صوفيا" في الفلسفة اليونانية، مميزًا بين الحكمة كما كانت تُفهم وتُمارس قبل سقراط، وبين ما آلت إليه بعده.
صوفيا قبل سقراط: الحكمة العملية المتصلة بالتصوف
يرى طه عبد الرحمن أن "صوفيا" في أصلها لم تكن مجرد تأمل عقلي نظري، بل كانت حكمة عملية متجذرة في التجربة الروحية والسلوك اليومي. ويؤكد أن الفلاسفة قبل سقراط مارسوا الحكمة بوصفها تهذيبًا للنفس واستقامة في العمل، وليس فقط نظرًا في المبادئ الكونية. ولذلك، فإن "صوفيا" قبل سقراط كانت أقرب إلى ما يمكن تسميته بـ"التصوف العملي" أو "العرفان الحي".
التحول مع سقراط: من الحكمة العملية إلى النظرية
يعتبر طه عبد الرحمن أن التحول الكبير في معنى الحكمة بدأ مع سقراط، الذي جعل من المعرفة هدفًا في ذاتها، وأعطى الأولوية للنظر العقلي المجرد على حساب الفعل والممارسة. وهذا، في نظره، أدى إلى "تجريد" الحكمة من جوهرها العملي، وحصرها في الفضاء الذهني التأملي، وهو ما اعتبره بداية القطيعة بين الفلسفة والفضيلة العملية.
الفلسفة الائتمانية: استعادة البعد العملي للحكمة
ضمن مشروعه المعروف بالفلسفة الائتمانية، يسعى طه عبد الرحمن إلى استعادة المعنى الأصيل لصوفيا، أي الحكمة العملية المؤتمنة التي تربط بين القول والفعل. الفلسفة، حسب هذا التصور، ليست إنتاجًا نظريًا باردًا، بل هي سلوك يومي ملتزم، يحترم البعد الروحي للإنسان ويجمع بين العقل المسدد والإيمان العامل. ويشدد طه عبد الرحمن على أن الفيلسوف الحقيقي هو من تكون أفعاله مصدّقة لأقواله، ومن يجعل من فلسفته إصلاحًا للذات وخدمة للغير.
لهذا يميز طه عبد الرحمن بوضوح بين حكمة ما قبل سقراط العملية، المتصلة بالحياة والتجربة، وبين الحكمة النظرية التي ظهرت بعده. وهو يدعو إلى تجاوز هذا الانفصال، من خلال فلسفة تؤمن بأن الحكمة لا تتحقق إلا إذا سكنها الفعل، وسما بها الصدق، ووجهها الإيمان، فتصبح بذلك "صوفيا" مؤتمنة على الإنسان والكون معًا.
جميل سالم، ابريل 2025.
مراجع:
عبد الرحمن، طه. سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2000.
عبد الرحمن، طه. الحوار أفقًا للفكر. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2009.
Morgan, Kathryn. Sophia before the Sophists. In Joshua Billings & Christopher Moore, The Cambridge companion to the Sophists. New York, NY: Cambridge University Press, 2023.
"What did Socrates, Plato, and Aristotle Think About Wisdom?", Wisdom Research, University of Chicago, 2022.
صوفيا قبل سقراط: حكمة الطبيعة والكون
قبل سقراط، كان الفلاسفة يركّزون على تفسير الكون ومبادئه الأولى. لم تكن "صوفيا" لديهم مسألة أخلاقية أو روحية، بل كانت محاولة عقلانية لفهم أصل الوجود والعناصر التي يتكوّن منها العالم. اعتبر بعضهم أن الماء أصل الأشياء، وآخرون رأوا في النار أو الهواء أو العدد جوهرًا لكل شيء.
والفلاسفة ما قبل سقراط، مثل طاليس، أنكسمندر، وهرقليطس، انشغلوا بتفسير الطبيعة والكون وأصول الأشياء عبر العقل والتجريد. كانوا يبحثون عن "العنصر الأول" أو المبدأ الكامن خلف التنوع الظاهري، ما يعطي لفكرهم طابعًا تأمليًا كونيًا.
الطابع العملي قبل سقراط
لكن هذا لا يعني أن صوفيا كانت مفصولة عن الحياة العملية:
الحكمة عند هسيودوس مثلًا، كانت تتضمن معرفة الزراعة، وتنظيم الوقت حسب الفصول، وهي شكل من أشكال صوفيا المرتبطة بالحياة اليومية.
كما أن الحكمة في تقاليد الحرفيين والمهنيين في اليونان القديمة كانت تُعد نوعًا من "صوفيا" أيضًا، لأنها تنطوي على مهارة ومعرفة دقيقة في العمل اليدوي، كصناعة السفن أو الحدادة أو الطب.
صوفيا بعد سقراط: حكمة الإنسان والفضيلة
مع ظهور سقراط، تغيّر معنى "صوفيا" من التأمل في الطبيعة إلى التأمل في الإنسان نفسه. أصبح السؤال الفلسفي يدور حول "ما هي الحياة الفاضلة؟" و"كيف ينبغي للإنسان أن يعيش؟". كانت الحكمة عند سقراط مرتبطة بالمعرفة الذاتية والاعتراف بالجهل، لأن هذا الاعتراف هو بداية الطريق إلى الحقيقة.
ثم جاء أفلاطون فربط الحكمة بعالم المثل، واعتبر أن "صوفيا" الحقيقية هي إدراك الجمال والخير والحق المطلق. وأكمل أرسطو هذا التوجه، فرأى أن الحكمة أسمى أنواع المعرفة، لأنها تسعى وراء الغايات العليا وتوجّه الإنسان نحو الحياة الفاضلة والسعادة.
? ماذا عن أراء الفيلسوف طه عبد الرحمن
وفي العآلم العربي قدم الفيلسوف طه عبد الرحمن قراءة نقدية لمفهوم "صوفيا" في الفلسفة اليونانية، مميزًا بين الحكمة كما كانت تُفهم وتُمارس قبل سقراط، وبين ما آلت إليه بعده.
صوفيا قبل سقراط: الحكمة العملية المتصلة بالتصوف
يرى طه عبد الرحمن أن "صوفيا" في أصلها لم تكن مجرد تأمل عقلي نظري، بل كانت حكمة عملية متجذرة في التجربة الروحية والسلوك اليومي. ويؤكد أن الفلاسفة قبل سقراط مارسوا الحكمة بوصفها تهذيبًا للنفس واستقامة في العمل، وليس فقط نظرًا في المبادئ الكونية. ولذلك، فإن "صوفيا" قبل سقراط كانت أقرب إلى ما يمكن تسميته بـ"التصوف العملي" أو "العرفان الحي".
التحول مع سقراط: من الحكمة العملية إلى النظرية
يعتبر طه عبد الرحمن أن التحول الكبير في معنى الحكمة بدأ مع سقراط، الذي جعل من المعرفة هدفًا في ذاتها، وأعطى الأولوية للنظر العقلي المجرد على حساب الفعل والممارسة. وهذا، في نظره، أدى إلى "تجريد" الحكمة من جوهرها العملي، وحصرها في الفضاء الذهني التأملي، وهو ما اعتبره بداية القطيعة بين الفلسفة والفضيلة العملية.
الفلسفة الائتمانية: استعادة البعد العملي للحكمة
ضمن مشروعه المعروف بالفلسفة الائتمانية، يسعى طه عبد الرحمن إلى استعادة المعنى الأصيل لصوفيا، أي الحكمة العملية المؤتمنة التي تربط بين القول والفعل. الفلسفة، حسب هذا التصور، ليست إنتاجًا نظريًا باردًا، بل هي سلوك يومي ملتزم، يحترم البعد الروحي للإنسان ويجمع بين العقل المسدد والإيمان العامل. ويشدد طه عبد الرحمن على أن الفيلسوف الحقيقي هو من تكون أفعاله مصدّقة لأقواله، ومن يجعل من فلسفته إصلاحًا للذات وخدمة للغير.
لهذا يميز طه عبد الرحمن بوضوح بين حكمة ما قبل سقراط العملية، المتصلة بالحياة والتجربة، وبين الحكمة النظرية التي ظهرت بعده. وهو يدعو إلى تجاوز هذا الانفصال، من خلال فلسفة تؤمن بأن الحكمة لا تتحقق إلا إذا سكنها الفعل، وسما بها الصدق، ووجهها الإيمان، فتصبح بذلك "صوفيا" مؤتمنة على الإنسان والكون معًا.
جميل سالم، ابريل 2025.
مراجع:
عبد الرحمن، طه. سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2000.
عبد الرحمن، طه. الحوار أفقًا للفكر. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2009.
Morgan, Kathryn. Sophia before the Sophists. In Joshua Billings & Christopher Moore, The Cambridge companion to the Sophists. New York, NY: Cambridge University Press, 2023.
"What did Socrates, Plato, and Aristotle Think About Wisdom?", Wisdom Research, University of Chicago, 2022.