الأبعاد الثيوصوفية في التجريد الشرقي ( أعمال الفنان ناصر سماري أنموذجاً)
يُعدّ الفن مساحة للعبور من الإدراك الحسي إلى الرؤيا الداخلية، ومن الواقع الملموس إلى العالم المجرد، وفي هذا الامتداد الفلسفي والروحي للفعل الجمالي، تبرز مفاهيم عميقة كالـثيوصوفيا (Theosophy)، بوصفها منظوراً كونياً يسعى إلى استبطان الجوهر والتواصل مع المطلق. وفي هذا السياق، تأتي تجربة الفنان ناصر سماري كأنموذج غني لفهم كيف يمكن للفن التجريدي الشرقي أن يُجسّد البُعد الثيوصوفي في اللوحة، عبر طاقة لونية مفعمة بالعاطفة، والرموز، وخطوط تُمثل ما وراء اللغة.
أولاً: الثيوصوفية – المعنى و المفهوم الفلسفي:-
الثيوصوفية، كمصطلح فلسفي، تعني “الحكمة الإلهية” أو “المعرفة المقدّسة”، وهي مذهب فكري–روحي نشأ في إطار تفاعل الفلسفة اليونانية القديمة (وخاصة الأفلاطونية الحديثة) مع الأفكار الشرقية الصوفية، وتطوّر لاحقًا في الفكر الغربي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وتعني وجود المطلق المفارق، الذي يتجلى ويظهر في الكائنات.
تعتمد (الثيوصوفيا) على مبدأ الوحدة الكونية، حيث كل شيء في الوجود مترابط، وما يُرى هو انعكاس لحقائق باطنية أعمق، لا تُدرك بالحواس بل بالبصيرة. وهي بذلك تُقدّم رؤية فلسفية تعتبر الفن بوابة للمعرفة الوجودية، ووسيلة للتأمل في أصل الإنسان ومصيره، وعلاقته بالمطلق، عبر إشارات رمزية ولونية تُحرك الوعي.
ثانياً: التجريد بوصفه لغة ثيوصوفية:-
الفن التجريدي، رغم ارتباطه بالحداثة الغربية، ينطوي في كثير من ممارساته – خاصة في السياق الشرقي – على نزعة ثيوصوفية عميقة، حيث يتحرّر الشكل من التمثيل الحسي ليغدو لغة روحية، رمزية، إيحائية. وقد عبّر بعض رواد التجريد مثل (فاسيلي كاندينسكي) عن هذه الفكرة بوضوح، حين اعتبر أن اللوحة ليست صورة للعالم، بل وسيلة لإثارة الذبذبات الروحية في النفس.
في هذا الإطار، يُمكن فهم أعمال (ناصر سماري) كتجربة تجريدية ذات بعد روحي شرقي، تُمثّل رحلة بحث صامتة عن الجوهر، حيث يتحول اللون إلى أداة انكشاف، والرمز إلى مرآة للسرّ، والخط إلى تواصل مع الماورائي.
ثالثاً: في لوحات ناصر سماري – التجريد كصلاة بصرية:-
يتّخذ اللون في أعمال ناصر سماري بُعداً يتجاوز الإدراك البصري ليغدو أثراً داخلياً، طاقة مشحونة بالعاطفة والوجد. هذه الطاقة لا تكتفي بتلوين السطح، بل تُحدث اهتزازاً روحياً في المتلقي، كما لو أن الفنان يحاول من خلال اندفاع اللون وانفجاره على المساحة الكبيرة أن يُحرّك فينا ما سُجن تحت طبقات الوعي.
اختياره للمساحات الواسعة ليس محض قرار تركيبي، بل إشارة صوفية إلى الرغبة في فتح الحواس على الكليّ، على المطلق الذي لا تحده أشكال مغلقة أو حدود صلبة. هذه اللوحات، في اتساعها، تُشبه الفضاءات التأملية الشرقية، حيث تصبح العين بوابة للقلب، واللون جسداً للروح.
رابعاً: الرمز والخط والسطح – إشارات للباطن:-
تحضر الرموز الطافية في أعماله ككائنات لاهوتية لا تنتمي إلى عالم الواقع، بل إلى عوالم الإشارة والغياب. بعضها يتخذ طابعاً روحياً–محلياً، يستدعي الذاكرة الثقافية والهوية الروحية للمكان، دون أن يتحوّل إلى سردية مباشرة. هنا، يعمل الرمز كعتبة، لا كبنية مغلقة، وكأن اللوحة تُخبرنا بشيء وتُخفي شيئًا آخر.
ويستخدم الفنان في احدى لوحاته الخط الكوفي لا كعنصر خطي زخرفي، بل كهيئة تجريدية متأصلة في البنية البصرية للعمل. الخط الكوفي، بتكوينه الزاوي وصلابته المعمارية، يمنح السطح حضوراً تقشفياً، يُقابل الانفجار اللوني بحرارة هندسية، كما لو أن الخط هو “النَفَس العاقل” داخل “الجسد العاطفي” للوحة. وفي كثير من الأحيان، تتحوّل الهوامش إلى كتابة تجريدية تتحرّك في السطح بحركة خطية غير مقيّدة بالمعنى اللفظي، بل موجّهة نحو التجربة الجمالية الكلية.
خامساً: الخشونة واللون الآخر – التوتر بوصفه مقاماً روحياً:-
سطوح أعمال (سماري) لا تُقدّم نسيجاً ناعماً مريحاً، بل خشونة ظاهرة، كتجسيد لصراع بين الداخل والخارج، بين الثقل المادي والتوق الروحي. هذه الخشونة ليست صدفة تقنية، بل بيان وجودي يُشبه أثر الصمت في منتصف الجملة، أو التنهيدة داخل قصيدة صوفية.
ومن بين أكثر العناصر تميزاً في تجربته، هو ما يمكن تسميته بـ(اللون الآخر)، ذاك اللون الذي لا يُحدّد مكانه بالضبط، لكنه يُشير إلى بُعد صوفيّ، يُلمّح إلى حضور متعالٍ.
هذا اللون، غالباً ما يتخفّى داخل العلاقات اللونية الأخرى، ويظهر في لحظة خاطفة كوميض روحي، له دلالات دينية–رمزية، كما في استخدامات بعض الفنانين المسلمين لمفهوم “النور” في الفن الإسلامي.
خاتمة: الفن ككشف – التجريد كعبور:-
إن تجربة الفنان (ناصر سماري) ليست فقط ممارسة تشكيلية قائمة على مهارات وتقنيات، بل هي رحلة روحية في قلب التجريد الشرقي، تُجسّد لقاءً حميماً بين الحس والروح. إنها محاولة لاستنطاق الباطن، وإعادة وصل الإنسان بجذره الكونيّ.
في لوحاته يفتح سماري نافذة لا إلى العالم، بل إلى الجهة الأخرى من العالم؛ حيث يقيم الجمال كحالة كشف، والتجريد كثيوصوفيا بصرية، تجعل من الفن طريقاً لا للتمثيل، بل للاتصال.
د. قيس عيسى
يُعدّ الفن مساحة للعبور من الإدراك الحسي إلى الرؤيا الداخلية، ومن الواقع الملموس إلى العالم المجرد، وفي هذا الامتداد الفلسفي والروحي للفعل الجمالي، تبرز مفاهيم عميقة كالـثيوصوفيا (Theosophy)، بوصفها منظوراً كونياً يسعى إلى استبطان الجوهر والتواصل مع المطلق. وفي هذا السياق، تأتي تجربة الفنان ناصر سماري كأنموذج غني لفهم كيف يمكن للفن التجريدي الشرقي أن يُجسّد البُعد الثيوصوفي في اللوحة، عبر طاقة لونية مفعمة بالعاطفة، والرموز، وخطوط تُمثل ما وراء اللغة.
أولاً: الثيوصوفية – المعنى و المفهوم الفلسفي:-
الثيوصوفية، كمصطلح فلسفي، تعني “الحكمة الإلهية” أو “المعرفة المقدّسة”، وهي مذهب فكري–روحي نشأ في إطار تفاعل الفلسفة اليونانية القديمة (وخاصة الأفلاطونية الحديثة) مع الأفكار الشرقية الصوفية، وتطوّر لاحقًا في الفكر الغربي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وتعني وجود المطلق المفارق، الذي يتجلى ويظهر في الكائنات.
تعتمد (الثيوصوفيا) على مبدأ الوحدة الكونية، حيث كل شيء في الوجود مترابط، وما يُرى هو انعكاس لحقائق باطنية أعمق، لا تُدرك بالحواس بل بالبصيرة. وهي بذلك تُقدّم رؤية فلسفية تعتبر الفن بوابة للمعرفة الوجودية، ووسيلة للتأمل في أصل الإنسان ومصيره، وعلاقته بالمطلق، عبر إشارات رمزية ولونية تُحرك الوعي.
ثانياً: التجريد بوصفه لغة ثيوصوفية:-
الفن التجريدي، رغم ارتباطه بالحداثة الغربية، ينطوي في كثير من ممارساته – خاصة في السياق الشرقي – على نزعة ثيوصوفية عميقة، حيث يتحرّر الشكل من التمثيل الحسي ليغدو لغة روحية، رمزية، إيحائية. وقد عبّر بعض رواد التجريد مثل (فاسيلي كاندينسكي) عن هذه الفكرة بوضوح، حين اعتبر أن اللوحة ليست صورة للعالم، بل وسيلة لإثارة الذبذبات الروحية في النفس.
في هذا الإطار، يُمكن فهم أعمال (ناصر سماري) كتجربة تجريدية ذات بعد روحي شرقي، تُمثّل رحلة بحث صامتة عن الجوهر، حيث يتحول اللون إلى أداة انكشاف، والرمز إلى مرآة للسرّ، والخط إلى تواصل مع الماورائي.
ثالثاً: في لوحات ناصر سماري – التجريد كصلاة بصرية:-
يتّخذ اللون في أعمال ناصر سماري بُعداً يتجاوز الإدراك البصري ليغدو أثراً داخلياً، طاقة مشحونة بالعاطفة والوجد. هذه الطاقة لا تكتفي بتلوين السطح، بل تُحدث اهتزازاً روحياً في المتلقي، كما لو أن الفنان يحاول من خلال اندفاع اللون وانفجاره على المساحة الكبيرة أن يُحرّك فينا ما سُجن تحت طبقات الوعي.
اختياره للمساحات الواسعة ليس محض قرار تركيبي، بل إشارة صوفية إلى الرغبة في فتح الحواس على الكليّ، على المطلق الذي لا تحده أشكال مغلقة أو حدود صلبة. هذه اللوحات، في اتساعها، تُشبه الفضاءات التأملية الشرقية، حيث تصبح العين بوابة للقلب، واللون جسداً للروح.
رابعاً: الرمز والخط والسطح – إشارات للباطن:-
تحضر الرموز الطافية في أعماله ككائنات لاهوتية لا تنتمي إلى عالم الواقع، بل إلى عوالم الإشارة والغياب. بعضها يتخذ طابعاً روحياً–محلياً، يستدعي الذاكرة الثقافية والهوية الروحية للمكان، دون أن يتحوّل إلى سردية مباشرة. هنا، يعمل الرمز كعتبة، لا كبنية مغلقة، وكأن اللوحة تُخبرنا بشيء وتُخفي شيئًا آخر.
ويستخدم الفنان في احدى لوحاته الخط الكوفي لا كعنصر خطي زخرفي، بل كهيئة تجريدية متأصلة في البنية البصرية للعمل. الخط الكوفي، بتكوينه الزاوي وصلابته المعمارية، يمنح السطح حضوراً تقشفياً، يُقابل الانفجار اللوني بحرارة هندسية، كما لو أن الخط هو “النَفَس العاقل” داخل “الجسد العاطفي” للوحة. وفي كثير من الأحيان، تتحوّل الهوامش إلى كتابة تجريدية تتحرّك في السطح بحركة خطية غير مقيّدة بالمعنى اللفظي، بل موجّهة نحو التجربة الجمالية الكلية.
خامساً: الخشونة واللون الآخر – التوتر بوصفه مقاماً روحياً:-
سطوح أعمال (سماري) لا تُقدّم نسيجاً ناعماً مريحاً، بل خشونة ظاهرة، كتجسيد لصراع بين الداخل والخارج، بين الثقل المادي والتوق الروحي. هذه الخشونة ليست صدفة تقنية، بل بيان وجودي يُشبه أثر الصمت في منتصف الجملة، أو التنهيدة داخل قصيدة صوفية.
ومن بين أكثر العناصر تميزاً في تجربته، هو ما يمكن تسميته بـ(اللون الآخر)، ذاك اللون الذي لا يُحدّد مكانه بالضبط، لكنه يُشير إلى بُعد صوفيّ، يُلمّح إلى حضور متعالٍ.
هذا اللون، غالباً ما يتخفّى داخل العلاقات اللونية الأخرى، ويظهر في لحظة خاطفة كوميض روحي، له دلالات دينية–رمزية، كما في استخدامات بعض الفنانين المسلمين لمفهوم “النور” في الفن الإسلامي.
خاتمة: الفن ككشف – التجريد كعبور:-
إن تجربة الفنان (ناصر سماري) ليست فقط ممارسة تشكيلية قائمة على مهارات وتقنيات، بل هي رحلة روحية في قلب التجريد الشرقي، تُجسّد لقاءً حميماً بين الحس والروح. إنها محاولة لاستنطاق الباطن، وإعادة وصل الإنسان بجذره الكونيّ.
في لوحاته يفتح سماري نافذة لا إلى العالم، بل إلى الجهة الأخرى من العالم؛ حيث يقيم الجمال كحالة كشف، والتجريد كثيوصوفيا بصرية، تجعل من الفن طريقاً لا للتمثيل، بل للاتصال.
د. قيس عيسى