"هناك معرفة في الأرض كما في أنفسنا"
يتناول الكاتب أندرو كيركباتريك في مقاله "هناك معرفة في الأرض كما في أنفسنا" نقدًا للنظرة الغربية التقليدية للمعرفة والطبيعة، ويقترح بديلاً أكثر ترابطًا بين الإنسان والطبيعة، مستلهِمًا من الفلسفة الغربية الحديثة ومن الحكمة للشعوب الأصلانية في أستراليا.
في البداية، يشير المقال إلى أن الفكر الغربي، منذ ديكارت، رسّخ فكرة الانفصال بين العقل والجسد. فوفقًا لمقولة ديكارت الشهيرة "أنا أفكر إذًا أنا موجود"، يُفهم أن المعرفة تنبع حصريًا من العقل، الذي يُعتبر جوهرًا غير مادي ومنفصلًا عن الجسد والعالم الطبيعي. هذا التقسيم جعل الطبيعة تُختزل إلى مجرد مادة ميتة، في حين رُفعت منزلة العقل إلى مرتبة خاصة. ومن هنا، تَكَوَّن في الوعي الغربي اتجاه يعتبر الإنسان كائنًا عقلانيًا بحتًا، منفصلًا عن البيئة التي تحيط به.
هذا التصور ما يزال حاضرًا اليوم، وإن لم يكن دومًا معلنًا بوضوح. ففي عبارات يومية مثل "سيطرة العقل على الجسد" يتجلى بقايا هذا الفكر الديكارتي، مما يدل على عمق تغلغله في الثقافة الغربية.
غير أن كيركباتريك يدعونا إلى رؤية مغايرة مستندة إلى أنظمة معرفية أخرى، وعلى رأسها الحكمة المتجذرة لدى الشعوب الأصلانية الأسترالية. ففي هذه الأنظمة، الطبيعة ليست مادة خاملة، بل كيان حي يتواصل مع الإنسان. فالأرض، بمكوناتها من تربة ومياه ونباتات وحيوانات، ليست فقط ذات قيمة مادية، بل تحمل معرفة وأخلاقًا. الأرض تسمع، ترى، تشعر، وتشارك في نظام معلوماتي حيّ؛ فعلى سبيل المثال، يعرف سكان منطقة Yarralin أن لدغات أنواع معينة من الذباب تشير إلى نضوج بيض التماسيح أو الثمار البرية. وهكذا، لا تُفهم الأحداث الطبيعية كوقائع منعزلة، بل كرسائل ضمن شبكة من العلاقات الحيوية المتبادلة.
هذا المفهوم يُعبّر عنه بمصطلح "البلد" (Country) عند السكان الأصليين، حيث لا يُنظر إلى الأرض كمساحة مادية فقط، بل ككائن حيّ ذو مشاعر ووعي، يمكنه أن يكون سعيدًا أو حزينًا، آخذًا دورًا فعالًا في حياة البشر.
ويمضي الكاتب إلى مقارنة هذه النظرة بفلسفة موريس ميرلو-بونتي، الفيلسوف الفرنسي، الذي أكد بدوره على أن المعرفة لا تنحصر في العقل بل تسكن الجسد أيضًا. ففي مثاله الشهير عن الكفيف وعصاه، أوضح ميرلو-بونتي أن العصا تصبح امتدادًا لجسد الكفيف، بحيث لا يشعر بها كشيء خارجي، بل كجزء من ذاته. المعرفة هنا ليست فكرية باردة بل حسية ملموسة "تسكن الأيدي" لا العقول وحدها. كذلك هو حال الكاتب عند استخدام الآلة الكاتبة؛ فالمهارة لا تقوم على تفكير واعٍ بكل حركة، بل تتجسد في الجسد ذاته عبر التمرين والعادة.
ويتوسع كيركباتريك ليبرز كيف أن هذه الأفكار تجد امتدادها أيضًا في فلسفة ألفريد نورث وايتهيد، صاحب فلسفة العمليات. يرى وايتهيد أن العالم ليس مجموعة أشياء جامدة، بل شبكة من العمليات المتفاعلة المستمرة، حيث لكل حدث قيمته ومعناه، مهما بدا صغيرًا أو عابرًا. العالم، وفق هذا المنظور، كيان حيّ نابض بالحركة والمعنى، وليس مجرد مسرح صامت لعقولنا.
في الخلاصة، يدعو الكاتب إلى إعادة النظر في علاقتنا بالعالم من حولنا. المعرفة ليست حكرًا على عقولنا المنفصلة، بل تتغلغل في أجسادنا، وفي جسد العالم ذاته. الأرض ليست شيئًا "هناك"، بل كائن حي نتشارك معه في نسيج واحد، مصنوعين من ذات "النسيج"، كما قال ميرلو-بونتي.
إنه نداء للتواضع أمام حكمة الطبيعة، ولإعادة وصل أنفسنا بالعالم بطريقة أكثر إنسانية وواقعية.
جميل سالم، مقال "هناك معرفة في الأرض كما في أنفسنا"، أندرو كيركباتريك أستاذ التعليم في الفلسفة في جامعة سوينبرن للتكنولوجيا في أستراليا، ابريل 2025.
يتناول الكاتب أندرو كيركباتريك في مقاله "هناك معرفة في الأرض كما في أنفسنا" نقدًا للنظرة الغربية التقليدية للمعرفة والطبيعة، ويقترح بديلاً أكثر ترابطًا بين الإنسان والطبيعة، مستلهِمًا من الفلسفة الغربية الحديثة ومن الحكمة للشعوب الأصلانية في أستراليا.
في البداية، يشير المقال إلى أن الفكر الغربي، منذ ديكارت، رسّخ فكرة الانفصال بين العقل والجسد. فوفقًا لمقولة ديكارت الشهيرة "أنا أفكر إذًا أنا موجود"، يُفهم أن المعرفة تنبع حصريًا من العقل، الذي يُعتبر جوهرًا غير مادي ومنفصلًا عن الجسد والعالم الطبيعي. هذا التقسيم جعل الطبيعة تُختزل إلى مجرد مادة ميتة، في حين رُفعت منزلة العقل إلى مرتبة خاصة. ومن هنا، تَكَوَّن في الوعي الغربي اتجاه يعتبر الإنسان كائنًا عقلانيًا بحتًا، منفصلًا عن البيئة التي تحيط به.
هذا التصور ما يزال حاضرًا اليوم، وإن لم يكن دومًا معلنًا بوضوح. ففي عبارات يومية مثل "سيطرة العقل على الجسد" يتجلى بقايا هذا الفكر الديكارتي، مما يدل على عمق تغلغله في الثقافة الغربية.
غير أن كيركباتريك يدعونا إلى رؤية مغايرة مستندة إلى أنظمة معرفية أخرى، وعلى رأسها الحكمة المتجذرة لدى الشعوب الأصلانية الأسترالية. ففي هذه الأنظمة، الطبيعة ليست مادة خاملة، بل كيان حي يتواصل مع الإنسان. فالأرض، بمكوناتها من تربة ومياه ونباتات وحيوانات، ليست فقط ذات قيمة مادية، بل تحمل معرفة وأخلاقًا. الأرض تسمع، ترى، تشعر، وتشارك في نظام معلوماتي حيّ؛ فعلى سبيل المثال، يعرف سكان منطقة Yarralin أن لدغات أنواع معينة من الذباب تشير إلى نضوج بيض التماسيح أو الثمار البرية. وهكذا، لا تُفهم الأحداث الطبيعية كوقائع منعزلة، بل كرسائل ضمن شبكة من العلاقات الحيوية المتبادلة.
هذا المفهوم يُعبّر عنه بمصطلح "البلد" (Country) عند السكان الأصليين، حيث لا يُنظر إلى الأرض كمساحة مادية فقط، بل ككائن حيّ ذو مشاعر ووعي، يمكنه أن يكون سعيدًا أو حزينًا، آخذًا دورًا فعالًا في حياة البشر.
ويمضي الكاتب إلى مقارنة هذه النظرة بفلسفة موريس ميرلو-بونتي، الفيلسوف الفرنسي، الذي أكد بدوره على أن المعرفة لا تنحصر في العقل بل تسكن الجسد أيضًا. ففي مثاله الشهير عن الكفيف وعصاه، أوضح ميرلو-بونتي أن العصا تصبح امتدادًا لجسد الكفيف، بحيث لا يشعر بها كشيء خارجي، بل كجزء من ذاته. المعرفة هنا ليست فكرية باردة بل حسية ملموسة "تسكن الأيدي" لا العقول وحدها. كذلك هو حال الكاتب عند استخدام الآلة الكاتبة؛ فالمهارة لا تقوم على تفكير واعٍ بكل حركة، بل تتجسد في الجسد ذاته عبر التمرين والعادة.
ويتوسع كيركباتريك ليبرز كيف أن هذه الأفكار تجد امتدادها أيضًا في فلسفة ألفريد نورث وايتهيد، صاحب فلسفة العمليات. يرى وايتهيد أن العالم ليس مجموعة أشياء جامدة، بل شبكة من العمليات المتفاعلة المستمرة، حيث لكل حدث قيمته ومعناه، مهما بدا صغيرًا أو عابرًا. العالم، وفق هذا المنظور، كيان حيّ نابض بالحركة والمعنى، وليس مجرد مسرح صامت لعقولنا.
في الخلاصة، يدعو الكاتب إلى إعادة النظر في علاقتنا بالعالم من حولنا. المعرفة ليست حكرًا على عقولنا المنفصلة، بل تتغلغل في أجسادنا، وفي جسد العالم ذاته. الأرض ليست شيئًا "هناك"، بل كائن حي نتشارك معه في نسيج واحد، مصنوعين من ذات "النسيج"، كما قال ميرلو-بونتي.
إنه نداء للتواضع أمام حكمة الطبيعة، ولإعادة وصل أنفسنا بالعالم بطريقة أكثر إنسانية وواقعية.
جميل سالم، مقال "هناك معرفة في الأرض كما في أنفسنا"، أندرو كيركباتريك أستاذ التعليم في الفلسفة في جامعة سوينبرن للتكنولوجيا في أستراليا، ابريل 2025.