نحت الشخصيات.. في قوة الاختزال

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • نحت الشخصيات.. في قوة الاختزال

    نحت الشخصيات.. في قوة الاختزال
    ليف تولستوي

    من بين تماثيل عديدة صوّرت الكاتب الروسي الشهير ليف تولستوي (1828- 1910)، هناك عملان فنيان يتميزان بالقوة والتأثير، أحدهما في العاصمة موسكو، والثاني في مدينة تولا مسقط رأس هذا الكاتب الذي يُعدُّ من أعمدة الأدب الروسي في القرن التاسع عشر، ومن أعظم الروائيين في تأريخ الأدب، كما يصفه البعض.

    في شارع بولشايا بيروگوفسكايا بالعاصمة الروسية، ينتصب تمثال لتولستوي أبدعه النحات "أليكسي بورتيانكو"، حل محل تمثال آخر في عام 1972.. كتلة ضخمة من أحجار الگرانيت مُقسّمة إلى قطع كبيرة لُصِقَت معا بالغراء.. إنه نوعٌ من نهج بناء الكتل في النحت التركيبي الذي تتشكل الهيئات فيه عبر نظام الإزالة الجُزئية، لتتحول القطع الحجرية المُسَيطَر على أبعادها، إلى كتلة ضخمة راسخة تصوّر الشخصية بإتزان واثق، فتستند هذه الجزئيات مُجتمعةً إلى قاعدة مُربعة، وترتفع بمثلث مُتغيّر القاعدة نحو الأعلى.. إتزانٌ يمنح شخصية تولستوي الجالس التقديرَ الذي يكنّه له كل من قرأ روايتي "الحرب والسلام" و"آنا كارنينا" اللتين تتربعان على قمة الأدب الواقعي، نظراً لما أبدعه هذا الكاتب الكبير فيهما من صورة واقعية للحياة الروسية في تلك الحقبة الزمنية.

    رأس تولستوي ولحيته، كما شعره وظهره، أجزاء غير مكتملة التصوير، يداه ضخمتان ونظرته الحادة تأتي من مكان ما من أعماق الكون، وتنطلق في الأفق كشعاع.. كل شيء هنا كبير جداً لدرجة أنه لا يتناسب مع أي شيء في المحيط، لكنه يمنحنا إحساساً بأن تولستوي في حالة عودة إلى حجر الگرانيت غير المُشكَّل، أو في انبثاق منه.. فمن مسافة بعيدة تبدو الملامح مألوفة، يحوّلها العقل إلى تولستوي الذي تعتقد أنك تعرفه. كلما اقتربت النظرة تفقد قبضتك أكثر.. فهذا الأمر لا يعني أن أي شيء يصور تولستوي يصبح مجهولاً، بل يجعلك تدرك أنك مطلع فقط على جزء منه، على سطحه.

    النظر إلى قطعة الحجر هذه والتفكير بأن "هذا الرجل يذهب بعيداً جداً ليقول ما نعرفه جميعاً" يمنح تمثال تولستوي الذي أبدعه بورتيانكو وضوحا لا يتجاوز السطح، لكنه يشعرنا بشكل متزايد أن شيئًا من القوة الجامحة والأساسية بوجود هذا الكاتب في حياتنا، يصل إلينا بصوت عالٍ كمصلح اجتماعي وداعية سلام ومفكر أخلاقي اعتنق أفكاراً أثرت على مشاهير القرن العشرين مثل المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ في كفاحهما الذي اتسم بسياسة المقاومة السلمية النابذة للعنف.

    نصبٌ تذكاري ثانٍ لتولستوي وُضع في ساحة مُسمّاة بإسمه، عبر مُنتزّه بيلوسوف المركزي للثقافة والترفيه الواقع في أقصى مدينة "تولا"، مسقط رأسه، لكن النحات "فياچيسلاف بوياكين" الذي حقق هذا التمثال من البرونز في عام 1973، جسّد تولستوي بشخصية الفلاح الودودة التي يتلبّسها، بقميصه الريفي الفضفاض، والحبل كحزام، والريح تهب على شعر لحيته، وهو يتقدّم بخطوات واثقة عبر حقل قمح على الأرجح.. تمثال ضخم يذكر بوضوح بتولستوي، ويصوّر تشابها خشنا في وجهه لا يترك أي شك حول شخصيته، مع وضع اقتباس من أحاديثه أسفل قاعدة التمثال يقول فيه؛ "كتاباتي هي كل ما أنا عليه".

    قد يثير فينا هذا التمثال استرجاع كل ما أثير حول شخصية هذا الكاتب، بدءً من القصص المعادية للنساء في أواخر حياته، إلى العديد من المقاطع الأكثر قداسة والتي أصبحت تملأ كتاباته بشكل متزايد مع تقدمه في السن، وكم كان مُستبداً في منزله، وكيف كان يعامل زوجته وخادماته بشكل سيء، لكن رغم هذا كله، فان حضور التشابهات الفنية في تمثال تولستوي يشعرنا بالتواضع أمام كاتب كبير ملأ الدنيا بإضاءاته اللامعة، بعد أن نظر البعض إليه باعتباره تجسيداً للطبيعة والحيوية الخالصة، بينما اعتبره آخرون تجسيدًا لضمير العالم، وهو إطراء ضَمّنَهُ گاري سول مورسن حينما كتب في الموسوعة البريطانية أن تولستوي، بالنسبة لجميع الذين عرفوه أو قرأوا أعماله تقريبا، لم يكن مجرد واحد من أعظم الكتاب الذين عاشوا على الإطلاق، بل كان رمزاً حياً للبحث عن معنى الحياة.

    كن صفحة النقد والفن تلتشكيلي ..
يعمل...