أبواب فاروق حسن:
الفنّان فاروق حسن من روّاد التشكيليين العراقيين، المجدّدين لمفهوم اللوحة الفنية، منذ سنوات دراسته في معهد الفنون ببغداد ١٩٥٨- ١٩٦٠، ومرافقته لأساتذة الفن الكبار في المعهد، وسارَ على نهج التجديد حتى يومنا هذا.
ويعجب متلقّو تجربة الفنان فاروق لبقاء هاجس التجديد والمغايرة الفنية قويّاً رغم تعدد المراحل التاريخية، وتغير المدارس الفنية، وهجرة الفنان بعيداً عن الجذور العميقة في مخياله الفني، ونشأته الاجتماعية الأولى.
وإزاء هذه التماسك والتوازن واستمرار العطاء الفني، لا بدّ لنا أن نبحث عن تفسير مقنع يتعلق أولاً بقيم النشأة والدراسة والغربة ومؤثراتها القوية في إبداع الفنّان. فإذا حسبنا تلك المؤثرات الخارجية عوامل ثانوية، وأنّها تعمل ضدّ إرادة الإنسان أحياناً، ذهبنا إلى التفسير الآخر، وهو تفسير فلسفي ونفساني- ذاتي- يتلخّص في فكرةٍ حضَرَت بقوة في رسائل الفلاسفة العرب القدماء عن خلق العالم، وآرائهم في مسألة الجبر والاختيار. (راجع اللوحة المعنونة بعنوان: القدر ) ولولا هذان الدليلان لظلّ العقل معطّلاً، والنفسُ مقيدةً لنشأتها إنْ كانت خيراً أو شرّاً، جهلاً أو علماً. بل إنّ الصراع حول اللحظة والمصير الأخير يتساويان في الوعي الذي يسعى لغايته الوجودية. وما أعنيه بالتقاء اللحظة والمصير في نقطة زمانية ومكانية، هو أنّ الإنسان قادرٌ على تشكيل وجوده حسب اختياره، وبقدر وعيه للقيود التي تُجبره على السكون والجمود والطاعة العمياء. ولا أفضلَ لقياس لحالة الإنسان الفنّان كقياس الحرية التي يشعر بها في ذاته لذاته، متجاوزاً القيودَ والحدود (لوحة: حديث صامت). وفي حالة اجتماع الوعي بالماضي والحاضر، عند نقطةٍ مكانية واحدة، كاللوحة التشكيلية مثلاً، فإنّ الذاكرة البصرية للفنّان تستدعي الأزمنةَ كلَّها، في لحظة واحدة، هي لحظة الخلق الفني لموضوع أو فكرة أو مفهوم، وكأنها لحظة تحوّل داهمة (لوحة: الطوفان، مثلا).
بهذا التأويلات نستطيع ان نستجمع ذاكرةَ ستين عاماً من الابداع الفني لفاروق حسن، وقد نجد - بصفتنا متلقٌين لأعماله الفنية- طريقةً تهدينا نحو الجوهر أو الغاية المفصَّلة في لوحاته خلال مراحل فنية متباعدة، ابتدأت بالعام ١٩٥٨ واستمرّت حتى يومنا هذا. وقد نستعين على تبويب مفاصل هذه الذاكرة بالفنان (الحاضر في كتابه- ألبومه التذكاري)* ونتساءلُ عن شعوره أمام ما قد تمثّله كلُّ مرحلة على حدة، أو شعورِه في اجتماع المراحل كلِّها في لحظة زمانية ومكانية واحدة.
أمّا الأبواب التي سندخل منها إلى جوهر العملية الفنية لدى فاروق حسن فهي كثيرة، أذكرُ منها:
- باب الطفولة والطبيعة.
- باب المدينة وعمارتها البصَرية.
- باب الموروثات الشعبية والأسطورية.
- باب القَدَر والنبوءة.
- باب المِرآة والذات.
- باب المَرأة والآخَر.
ولكلّ بابٍ من هذه الأبواب حديثُه الخاص. فإنْ أردتم جزّأناها بحسب تمثيلها الفني الخاصّ. وإنْ أردتم دخلْنا من أوسع الأبواب إلى الفِناء الداخلي لمعرضٍ افتراضي يجمع أقوى هذه التمثيلات البصَرية في عرضٍ كبير.
ربما أغفلْنا بابَ "الهجرة أو الغربة" من بين أبواب تجربة الفنان فاروق حسن، ولكنّي أشعر بأنّ هذا الباب هو الذي يُوهِم بوجود أبوابٍ متعدّدة للتجربة الفنية لها الاسمُ نفسُه، فهو باب الخروج والدخول المزدوج، بل هو كلُّ الأبواب التي ذكرناها سابقاً، بتعريف صوفيّ: "أنا الباب ولا بابٌ يؤدي لغير فِنائي".
وقد نحسَبُ التعريف الأخير مطابقاً لحالِ المتلقّي الذي يجِدُ نفسَه ضائعاً بين مداخل تجربة الفنّان الذي خلّف لوحاته وراء ظهره، وهو- المتلقّي- ينتظر الدليلَ الحاسم كي يعثر على الباب المناسب الذي يُفضى به إلى أحبّ الرسوم لنفس الفنّان، ويطّلِعُ على ما ظلّ مخفيّاً من حكايات وراء كل لوحةٍ رسمَها.
قد نحتاج، نحن أنفسَنا، إلى الفنّان كي يكون دليلَنا للدخول من أحد الأبواب السابقِ ذكرُها، ويُطلِعنا على أسرار كلّ لوحة، ويُجيب على سؤالنا الآتي: كيف جمعَ بين البداية والنهاية في لحظة زمانية ومكانية واحدة؟ كيف ينظر اليوم إلى ما رسَمَته يداه لمئات اللوحات المتفرّقة خلال هذه المدة الطويلة؟
وقد نصوغ السؤال ثانية بهذه الصيغة: هل يشعر بأنّه في الزمان المناسب، والمكان المناسب، بعد هذه الرحلة الطويلة من إنتاج اللوحات؟
--------------
* استعنتُ لكتابة هذه الكلمة واختيار اللوحات بالكتاب التذكاري الشامل لرحلة الفنان فاروق حسن، الصادر عن دار الاديب، عمّان، ٢٠١٩.
* ألقيت الكلمة في استضافة الفنان فاروق حسن في اتحاد أدباء البصرة بتاريخ ١٩/ ٢/ ٢٠٢٥
الفنّان فاروق حسن من روّاد التشكيليين العراقيين، المجدّدين لمفهوم اللوحة الفنية، منذ سنوات دراسته في معهد الفنون ببغداد ١٩٥٨- ١٩٦٠، ومرافقته لأساتذة الفن الكبار في المعهد، وسارَ على نهج التجديد حتى يومنا هذا.
ويعجب متلقّو تجربة الفنان فاروق لبقاء هاجس التجديد والمغايرة الفنية قويّاً رغم تعدد المراحل التاريخية، وتغير المدارس الفنية، وهجرة الفنان بعيداً عن الجذور العميقة في مخياله الفني، ونشأته الاجتماعية الأولى.
وإزاء هذه التماسك والتوازن واستمرار العطاء الفني، لا بدّ لنا أن نبحث عن تفسير مقنع يتعلق أولاً بقيم النشأة والدراسة والغربة ومؤثراتها القوية في إبداع الفنّان. فإذا حسبنا تلك المؤثرات الخارجية عوامل ثانوية، وأنّها تعمل ضدّ إرادة الإنسان أحياناً، ذهبنا إلى التفسير الآخر، وهو تفسير فلسفي ونفساني- ذاتي- يتلخّص في فكرةٍ حضَرَت بقوة في رسائل الفلاسفة العرب القدماء عن خلق العالم، وآرائهم في مسألة الجبر والاختيار. (راجع اللوحة المعنونة بعنوان: القدر ) ولولا هذان الدليلان لظلّ العقل معطّلاً، والنفسُ مقيدةً لنشأتها إنْ كانت خيراً أو شرّاً، جهلاً أو علماً. بل إنّ الصراع حول اللحظة والمصير الأخير يتساويان في الوعي الذي يسعى لغايته الوجودية. وما أعنيه بالتقاء اللحظة والمصير في نقطة زمانية ومكانية، هو أنّ الإنسان قادرٌ على تشكيل وجوده حسب اختياره، وبقدر وعيه للقيود التي تُجبره على السكون والجمود والطاعة العمياء. ولا أفضلَ لقياس لحالة الإنسان الفنّان كقياس الحرية التي يشعر بها في ذاته لذاته، متجاوزاً القيودَ والحدود (لوحة: حديث صامت). وفي حالة اجتماع الوعي بالماضي والحاضر، عند نقطةٍ مكانية واحدة، كاللوحة التشكيلية مثلاً، فإنّ الذاكرة البصرية للفنّان تستدعي الأزمنةَ كلَّها، في لحظة واحدة، هي لحظة الخلق الفني لموضوع أو فكرة أو مفهوم، وكأنها لحظة تحوّل داهمة (لوحة: الطوفان، مثلا).
بهذا التأويلات نستطيع ان نستجمع ذاكرةَ ستين عاماً من الابداع الفني لفاروق حسن، وقد نجد - بصفتنا متلقٌين لأعماله الفنية- طريقةً تهدينا نحو الجوهر أو الغاية المفصَّلة في لوحاته خلال مراحل فنية متباعدة، ابتدأت بالعام ١٩٥٨ واستمرّت حتى يومنا هذا. وقد نستعين على تبويب مفاصل هذه الذاكرة بالفنان (الحاضر في كتابه- ألبومه التذكاري)* ونتساءلُ عن شعوره أمام ما قد تمثّله كلُّ مرحلة على حدة، أو شعورِه في اجتماع المراحل كلِّها في لحظة زمانية ومكانية واحدة.
أمّا الأبواب التي سندخل منها إلى جوهر العملية الفنية لدى فاروق حسن فهي كثيرة، أذكرُ منها:
- باب الطفولة والطبيعة.
- باب المدينة وعمارتها البصَرية.
- باب الموروثات الشعبية والأسطورية.
- باب القَدَر والنبوءة.
- باب المِرآة والذات.
- باب المَرأة والآخَر.
ولكلّ بابٍ من هذه الأبواب حديثُه الخاص. فإنْ أردتم جزّأناها بحسب تمثيلها الفني الخاصّ. وإنْ أردتم دخلْنا من أوسع الأبواب إلى الفِناء الداخلي لمعرضٍ افتراضي يجمع أقوى هذه التمثيلات البصَرية في عرضٍ كبير.
ربما أغفلْنا بابَ "الهجرة أو الغربة" من بين أبواب تجربة الفنان فاروق حسن، ولكنّي أشعر بأنّ هذا الباب هو الذي يُوهِم بوجود أبوابٍ متعدّدة للتجربة الفنية لها الاسمُ نفسُه، فهو باب الخروج والدخول المزدوج، بل هو كلُّ الأبواب التي ذكرناها سابقاً، بتعريف صوفيّ: "أنا الباب ولا بابٌ يؤدي لغير فِنائي".
وقد نحسَبُ التعريف الأخير مطابقاً لحالِ المتلقّي الذي يجِدُ نفسَه ضائعاً بين مداخل تجربة الفنّان الذي خلّف لوحاته وراء ظهره، وهو- المتلقّي- ينتظر الدليلَ الحاسم كي يعثر على الباب المناسب الذي يُفضى به إلى أحبّ الرسوم لنفس الفنّان، ويطّلِعُ على ما ظلّ مخفيّاً من حكايات وراء كل لوحةٍ رسمَها.
قد نحتاج، نحن أنفسَنا، إلى الفنّان كي يكون دليلَنا للدخول من أحد الأبواب السابقِ ذكرُها، ويُطلِعنا على أسرار كلّ لوحة، ويُجيب على سؤالنا الآتي: كيف جمعَ بين البداية والنهاية في لحظة زمانية ومكانية واحدة؟ كيف ينظر اليوم إلى ما رسَمَته يداه لمئات اللوحات المتفرّقة خلال هذه المدة الطويلة؟
وقد نصوغ السؤال ثانية بهذه الصيغة: هل يشعر بأنّه في الزمان المناسب، والمكان المناسب، بعد هذه الرحلة الطويلة من إنتاج اللوحات؟
--------------
* استعنتُ لكتابة هذه الكلمة واختيار اللوحات بالكتاب التذكاري الشامل لرحلة الفنان فاروق حسن، الصادر عن دار الاديب، عمّان، ٢٠١٩.
* ألقيت الكلمة في استضافة الفنان فاروق حسن في اتحاد أدباء البصرة بتاريخ ١٩/ ٢/ ٢٠٢٥