بين المفكر الفرنسي:ألان دنو..والفيلسوف الألماني:فريدريك نيتشه.حكاية.التنوير والتفاهة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • بين المفكر الفرنسي:ألان دنو..والفيلسوف الألماني:فريدريك نيتشه.حكاية.التنوير والتفاهة




    نعيمة عبد الجواد

    التنوير والتفاهة بين نيتشه ودنو
    6 - مايو - 2024م
    ولد الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه
    Friedrich Nietzsche (1844-1900)
    في أوج حركات التنوير ومستهل الثورة الصناعية الأولى، ورسمت نظرياته الفلسفية ملامح عالمنا المعاصر. لقد دعا نيتشه لأهمية هيمنة مبدأ «إرادة القوة» Will of Power وتسيُّد المعرفة جميع المعاملات الإنسانية؛ لأن في المعرفة قوَّة. ولهذا، لا يعتبر نيتشه من أهم الفلاسفة فقط، بل أيضا من أهم خبراء علم الاجتماع بالمعنى الحديث؛ لأن أفكاره كانت تحض على موازنة تحقيق النجاح والحرية للفرد والمجتمع في آن واحد؛ فالمجتمعات التي تهيمن عليها التفاهة تقتل العقول الناشئة والمستنيرة. وعلى الصعيد الآخر، يوجد الكاتب والمفكِّر الفرنسي الأصل الكندي الجنسية ألان دنو Alain Denault (1970) الذي ولد في أوج حركات التقدم العلمي غير المسبوق في سبعينيات القرن الماضي وأصبح شاهدا على الثورة الصناعية الثالثة التي كانت منطلقا للأتمتة automation ومعها ظهرت ثورة الكمبيوتر والإلكترونيات، التي توالت نجاحاتها، فدفعت الإنسان إلى الثورة الصناعية الرابعة التي أدخلت العالم إلى العصر السيبراني وهيمنة الشبكات، ومعها انزلق العالم بشكل متسارع إلى الثورة الصناعية الخامسة التي يتصدَّرها الذكاء الاصطناعي. وبسبب الثورات شديدة التقدُّم والحداثة التي شهدها ألان دنو المهتم بعلم الاجتماع والنقد الاجتماعي، كان من المنتظر أن يكتب عن مدى التقدُّم الذي تشهده الإنسانية.
    علمه الصائب حثَّه على رصد ما يسود العالم من تفاهة، أصبحت بديلا للمعرفة التي كان فريدريك نيتشه يدعو إليها، وبالفعل كانت السبب وراء تقدُّم البشرية. فقد رصد دنو أن النفوس البشرية تغلغل الخراب في داخلها عندما سيطرت عليه منهاجية منظمة جعلت مما أطلق عليه «التفاهة» تهيمن على البشرية.
    وبالنظر للقرن السابع عشر، كان عصر التنوير في أوج قوته واهتم بعقلنة كل شيء؛ فقد ترسخ في الأذهان أن إمكانية حل المشكلات البشرية تكمن في الاكتشافات العلمية. لكن سرعان ما تكشَّف أن الحقيقة عكس التوقعات؛ فالمنهج العقلاني في تصوُّر الأمور أصبح محفِّزا لخلق أزمات نفسية ألقت ظلالا كثيفة على المجتمعات الغربية على وجه الخصوص؛ فقد تبيَّن لهم أن مساءلة الأسس الرَّاسخة في المجتمع مثل الدين والتوجّه إلى الإلحاد، خلق أزمات نفسية عميقة، لأنها نفت القيم التي يمكن أن يتبعها أي إنسان. ومن ثمَّ، غاب ما يردع ارتكاب الجرائم مهما كانت بشاعتها؛ فالتوجُّه للمادة والتخلِّي عن العالم الروحاني أصبح بمثابة أزمة تمر بها البشرية.
    ومع بداية القرن الثامن عشر، اندلعت طفرة فكرية جديدة تزعمها هيغل وتفسيره للنفس البشرية. وكان على رأس روَّاد الفكر في هذه الحقبة، الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه الذي شهد نزوغ البشر نحو الوحشية عندما تفشَّت الحروب، وارتكبت فيها أبشع الجرائم لتكون شاهدا على تعقيد النفس البشرية، التي أفسدتها العقلانية المفرطة، وأزجى مجونها التقدم العلمي غير المسبوق المصاحب لعصر التنوير الذي جعل الأغنياء يسرفون في الانغماس في الملذَات واستغلال الضعفاء، بل العمل على إضعافهم. فحينئذٍ، سادت فكرة احتقار الإنسان، وصاحبها العديد من الممارسات اللا أخلاقية، ولذلك، أصبح الحل يكمن في فلسفة نيتشه، الذي أكَّد أنه عندما تُرك الإنسان في الدنيا وحيدا ضعيفا لا يجد في الدين ملجأ، كان لا بد من إبراز «إرادة القوة» التي تؤكِّد أن البشر لديهم نزعة فطرية للتغلُّب على القيود، والسعي وراء تحقيق العظمة من أجل تحقيق الذَات، ويسهل ذلك من خلال الإبداع الفكري، أو الفني، أو حتى التحدِّي الشخصي لتجاوز الأعراف المجتمعية والمشكلات. لكن نيتشه دأب على التحذير من تفسير أفكاره بأنها دعوة للعنف أو تحقيق السيادة على الآخرين.
    وعلى هذا الأساس، انتشرت وسائل التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم على المستوى العالمي، وانقلبت الأحوال عندما اعتلى التَّافهون من مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي مرتبة رموز المجتمع، عوضا عن العلماء ونوابغ العلوم والفلسفة.

    سار البشر على نهج نيتشه على مدار نحو ثلاثة قرون تقريبا، تخللتها طفرات فكرية وأخلاقية لازمت التقدم العلمي والتكنولوجي، إلى أن وصل العالم للعصر الحالي الذي يصفه ألان دنو بأنه «نظام التفاهة»؛ لأن الثقافة المتدنية تعمَّقت فيه، وأثَّرت سلبا على الحياة اليومية للأفراد، ما سبب جرحا غائرا في المجتمعات العلمية. ويناقش كتاب «نظام التفاهة» La Médiocratie تأثير القوى الثقافية المتدنية على تشكيل الأفكار والقيم. ويقصد دنو بمصطلح «نظام التفاهة» أن يسود عصرنا الحالي السرعة والسطحية، ويسيطر عليه الإعلام والثقافة الشعبية. ولهذا، لا يكاد يمر يوم دون أن تتعرض المجتمعات لموجة من المعلومات والأفكار المسطحة. وفي هذا السياق، يظهر مفهوم «نظام التفاهة» كأداة لفهم القوى الثقافية والاجتماعية المؤثرة على الحياة اليومية التي تقوض القيم الإنسانية والفكر النقدي. فالنظام التافه السائد يقود البشرية إلى تقدير أقل للفكر النقدي والتعبير الفردي، ومقاومته قد تمكن الفرد من بناء مستقبل أكثر إشراقا وتنوعا ثقافيا، كما حدث في القرن الثامن عشر على يد العديد من الفلاسفة، التي أصبحت فيها رؤى نيتشه نبراسا رائدا لأنه استطاع اكتشاف موطن العطب في المجتمع.
    وبالطريقة نفسها، لمس دنو، الأمراض التي أصابت المجتمعات الحديثة ودفعتها للانهيار. وكما يؤكِّد دنو، فإن السبب الحقيقي للتفاهة هو السعي وراء المظاهر البرَّاقة فقط؛ فعلى سبيل المثال، المجال الأكاديمي الذي هو أساس التعليم والمعرفة والخبرة، تحوَّل من إطار علمي إلى مشروع له علامة تجارية يسعي الجميع وراء نيلها ويقومون بتمويلها مقابل الحصول على الأختام والتقارير. وبذلك، فليس كل متعلِّم مستنيرا، فالأخير اكتسب معرفة وخبرة حقيقية، أمَّا المتعلِّم في العصر الحديث فهو صاحب شهادة ليس لها أي فائدة سوى ختمها ذي الصيت الذائع، وذلك في حد ذاته جريمة أخلاقية؛ لأن ما ناله من العلوم مبسَّطة تبسيطا مخلا، لن يخلق سوى أجيال من الجهلاء التافهين. وفي ذلك يقول دنو: «قد لا تكون هناك جريمة أكثر فداحة من جريمة التبسيط العلمي الساذج، الذي ينزل بالمعرفة إلى مستوى قدرات غير العارف، عوض عن أن يرفع قدرات الأخير بما يليق بمستوى المعرفة التي كان ينبغي نقله إليها».
    وعلى هذا الأساس، انتشرت وسائل التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم على المستوى العالمي، وانقلبت الأحوال عندما اعتلى التَّافهون من مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي مرتبة رموز المجتمع، عوضا عن العلماء ونوابغ العلوم والفلسفة. وكم هو مؤلم بالنسبة للأقلية السابقة من المستنيرين أن تتحوَّل نجاحاتهم لفشل، في حين نجحت «مواقع التواصل… في ترميز التافهين، أيّ تحويلهم إلى رموز». ويؤكِّد دنو أنه: «صار يمكن لأي جميلة بلهاء أو وسيم فارغ، أن يفرضوا أنفسهم على المشاهدين، عْبَر عدة منصات تلفزيونية عامة.. هي في أغلبها منصّات هلامية وغير منتجة، لا تخرج لنّا بأيّ منتج قيميّ صالح لتحدي الزمان». فعندما يتم تفريغ المجتمع من قيمه الثابتة، والعقول من العلم الحقيقي المفضي للتنوير، يصبح من السهل تهميش الإنسان الذي لن يصبح قادرا على مجابهة تبعات الطفرات التكنولوجية الفائقة، واستبداله بآلة مرقمنة لها القدرة على الاستفادة من العلوم التي نبذها. كما هو من المعروف، كل قمَّة يتلوها قاع، لكن إذا وصلت الإنسانية إلى القاع، بسبب السعي الدؤوب وراء التفاهة، بعد بلوغها قمة التقدم، سوف تصير فرصة النهضة مرَّة أخرى شبه معدومة؛ لأن الإنسان صانع النهضة تم إقصاؤه إلى الأبد.

    كاتبة مصرية

يعمل...
X