أسرار مراكش وذاكرتها الغنية في قصائد خمسة وثلاثين شاعرا

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أسرار مراكش وذاكرتها الغنية في قصائد خمسة وثلاثين شاعرا

    أسرار مراكش وذاكرتها الغنية في قصائد خمسة وثلاثين شاعرا


    محمد أيت لعميم: مراكش نهر الشعر الذي لا ينضب.
    الاثنين 2024/05/06

    مدينة شعراء مختلفين وصور شعرية مبهرة

    حضرت مراكش في قصائد الشعراء كما حضروا هم فيها وتأثروا بها وبجمالها، فلم تفارقهم ذكراها، وبعضهم اختارها وطنا ومستقرا له، حتى تحولت إلى مدينة للشعراء ومدينة شاعرة، تبث الإلهام في أنفس زوارها. وهو ما يسعى لتوثيقه الدكتور محمد أيت لعميم في كتابه الجديد الذي يستقي معطياته من ذاكرة شعراء مراكش.

    احتفاء بمراكش عاصمة الثقافة في العالم الإسلامي سنة 2024 وانطلاقا من المعتمد بن عباد (431 هـ – 488 هـ / 1040 – 1095م) وانتهاء إلى أحمد بلحاج أية ورهام، يقدم د. محمد أيت لعميم مختارات لتجليات مدينة مراكش على رؤى خمسة وثلاثين شاعرا عنونها بـ”أسرار الأسوار.. من ذاكرة شعراء مراكش”، مؤكدا أنها تمثل نواة لا تدعي الاستقصاء الشامل لكل التجارب والأسماء، وهي كثيرة ومتنوعة، بل فقط تروم التأكيد على أن مراكش في ذاكرتها شعر غزير، وقصائد تستحق التنصيص عليها وإزالة غبار النسيان عن محياها، وأن يسهل الوصول إليها والتفاعل معها، وأن تكون حافزا للباحثين والدارسين والشعراء والمهتمين بالشأن الإبداعي، وأن يعمقوا الحفر في طبقات هذه الذاكرة الغنية بالذخائر، وأن يمسكوا بهذا الحبل الشعري. فلا شعر دون ذاكرة، ولا كتابة حقيقية تستدبر خزانة الشعر والشعراء الذين هم حماة اللغة ومجددوها، والساهرون على مملكة الخيال والمجاز.

    المختارات جاءت بتكليف من بيت الشعر بالمغرب من أجل إنجاز مختارات مصغرة حول ذاكرة الشعر في مراكش بمناسبة الاحتفاء بمراكش عاصمة الثقافة في العالم الإسلامي سنة 2024، وضمت قصائد لشعراء من بينهم: ابن اللبانة، ابن طفيل، الوزير أبو جعفر بن عطية، أبو عمر بن حربون، الإمام القاضي عياض، ميمون الخطابي، عبدالعزيز الملزوزي، عبدالعزيز الفشتالي، محمد بن إبراهيم السراج، عبدالقادر حسن، محمد المدني الحمراوي، الحبيب الفرقاني، مولاي إبراهيم الحاري، سعيد اديوان، أحمد الدباغ، إسماعيل زويريق، عبدالرفيع الجواهري، مليكة العاصمي.
    مدينة شاعرة



    الشعر في مراكش لم يقتصر على الفصيح بل عرف نهضة كبرى في الشعر المكتوب باللغة المستعملة في التواصل اليومي


    يقول محمد أيت لعميم إن “مدينة مراكش، التي أوشكت أن تحتفل بعيد ميلادها الألف، تعد من المدن الشاعرة. فهي منذ القديم كانت مأوى الغرباء ومهوى قلوب الشعراء، تجبى إليها ثمرات القول اليانع، وتتفتح فيها أزهاره وتنور. وما ذلك إلا لأنها تطفح بالسر والجمال الذي تدركه الصفة ولا تحيط به المعرفة. لتبقى على الدوام كتابا منشورا مستغلقة إشاراته وعباراته وعلاماته. هناك سحر خفي يترصد الداخل إليها والمقيم. يستشعره المرء ولا يكاد يدرك أسبابه. وقد كان هذا الغموض والالتباس مدعاة للتأمل والتفكر فيها والرغبة في امتلاكها عبر المتخيل والخيال والصور والمجازات”.

    ويضيف “مراكش مقام العابرين، وصفها الشاعر الناثر لسان الدين بن الخطيب حين زارها ووقف على معالمها، وطاف بحوماتها حتى وصل إلى شيخ رجالاتها أبي العباس السبتي بما يلي ‘برج النير العلي، وتربة الولي، ودار الملك الأول’، ليوجز بذلك جوها الموسوم بسلطة الشمس المنيرة، وبميسمها الروحي، وبتمركز السلطة الدنيوية فيها. هذه الخصائص بوأت المدينة عبر تاريخها المجيد المديد مكانة عالية، ولذلك كانت مقصد الناس من كل الآفاق، وتهوي إليها أفئدتهم إذ ‘كل الناس لهم إليها محبة واشتياق’ كما قال الطيب بن اليمني بوعشرين في ‘البيان المعرب’. ولذلك فلا غرابة أن تعرف المدينة عبر تاريخها إقامة شعراء مبرزين، وأن يفد عليها شعراء آخرون لأسباب مختلفة. فقد كانت القصور تعج بالشعراء الذين يتبارون في تجويد القول والبراعة في إنشاء الأشعار والقصائد. ولم تخل فترة من الفترات من شعراء استطاعوا عبر أشعارهم أو ما سلم من عوادي الدهر منها أن يغنوا ذخائر الخزانة الشعرية للمدينة”.

    عوالم هؤلاء الشعراء تغري بالمتابعة والنبش والترجمة، إذ أغلب دواوينهم مازالت قابعة في اللغة التي كتبت بها

    يرى لعميم أن مشارب الشعراء في مراكش تنوعت وتعددت، إذ عرفت أزمنة شعر يسامق ويضاهي الشعر الذي قدم من المشرق إبان قوته، وجددت في الأشكال والمضامين التي نبتت في الأندلس، وقد كانت هذه المثاقفة تجعل الشعراء في مراكش يعلون من سقف طموحهم الشعري. لم يقتصر الشعر في مراكش على الفصيح منه، بل عرف نهضة كبرى في الشعر المكتوب باللغة المستعملة في التواصل اليومي، ونبغ في هذا المضمار شعراء ملحون زاحموا القصيدة الفصيحة، وتناولوا فيها أغراضا متنوعة، وأبدعوا في التصوير، وتفننوا في القول، حتى أضحت قصائدهم حديث المجالس، يرددها الناس ويستشهدون بدررها، وقد خلدت قصائدهم عن طريق الغناء والإنشاد.

    وكتبت في هذا الجنس الشعري، الذي هو بالفعل ديوان المغاربة، الذي به تميزوا، نخبة من الشعراء، ولم يقتصر على الطبقات الشعبية بل كتبه حتى الملوك. وقد عرفت مراكش شعر الملحون بوصفها حاضنة له وهي التي تعهدت تربيته بعدما ولد في سلجماسة.

    ويضيف مؤلف الكتاب أن “مراكش كانت الأم الرؤوم التي حدبت عليه حتى استوى على سوقه. فنبغ فيه كبار شعراء الملحون، في لحظة عرفت بـ’صابة لشياخ’، من أهم هؤلاء الرواد: الشيخ الجيلالي مثيرد صاحب ‘فاطمة شرع الله معاك’، وهو دفين مراكش بمقبرة سيدي علي بلقاسم بمحاذاة مسجد الكتبيين. والتهامي لمدغري صاحب القصيدة ذائعة الصيت ‘النحلة’. ومحمد بن الطاهر الشاوي (قصيدة صارم الطعن)، والحاج أحمد بن الطالب مريفق (قصيدة كلثوم)، وحسن بنشقرون (قصيدة الرقاص)، ومحمد البوعمري ( قصيدة الغالية)، ومحمد بن الفاطمي الركراكي (قصيدة النزاهة)، وسي عباس بوستة (السفرية)، ومحمد النجار ربيب الجيلالي مثيرد (قصيدة جل الصلاة مهدية). لقد خلد هؤلاء الشعراء أسماءهم في مدونة الشعر المغربي نصوصا قوية، غاية في الجمال ظاهرا وباطنا، ومبهرة بما انطوت عليه من معان مخترعة، مازالت في حاجة إلى الدراسة والقراءة والتأويل”.
    أشعار متنوعة المشارب


    يلفت لعميم إلى أنه “في مراكش أيضا نبغ شعراء كتبوا شعرهم باللغة الفرنسية، وما تميزوا به أنهم كتبوا شعرا ينهل من طبيعة هويتهم وخصوصية ثقافتهم ومشاغل البلاد، إذ لم تكن لديهم اللغة عائقا للتعبير عن خصوصية وجدانهم وحرية فكرهم، الشيء الذي حال بينهم وبين الانجراف وراء الكتابة بعقلية أعجمية. وهذا ما منح هؤلاء الشعراء قوة في العبارة والإشارة، وجدارة الإقامة في أرض الشعر المغربي. فمن الأسماء التي نشأت في مراكش وتشربت أسرارها، نذكر شاعرها الكبير، زغلول مرسي”.


    أسرار الأسوار.. من ذاكرة شعراء مراكش”.. مختارات مصغرة حول ذاكرة الشعر في مراكش بمناسبة الاحتفاء بمراكش عاصمة الثقافة في العالم الإسلامي سنة 2024


    ويتابع “حدثني عنه طالبه وصديقه فيما بعد المؤرخ حميد التريكي، والده الموسيقار مرسي أتى به الباشا الكلاوي من القاهرة لما زارها لكي يعلم فرقته الموسيقية في مراكش، وقد استقر مرسي في مراكش وتزوج من امرأة رحمانية، هي التي أنجبت له زغلول مرسي. ولد عام 1933 بمراكش وفيها درس في ‘كوليج المسلمين’ الذي سيحمل اسم ‘ثانوية محمد الخامس’ فيما بعد، ثم انتقل لمتابعة دراسته بالرباط وبعدها سيلتحق بجامعة السوربون (1956 – 1960)، أين تحصل على شهادة التبريز في الآداب المعاصرة، وهو أول مغربي يحصل على هذه الشهادة، وحصل كذلك على دبلوم الدراسات العليا العربية. سيشتغل ما بين 1960 – 1967 أستاذا بجامعة محمد الخامس بالرباط، التي كان مديرا لشعبة الآداب والحضارة الفرنسية فيها. سيشتغل في اليونسكو بين 1972 إلى 1993، كان يرأس تحرير المجلة الفصلية للتربية المقارنة، وعام 2016 سيهدي مكتبته العامرة الخاصة للمكتبة الوطنية بالرباط. توفي في فرنسا عام 2020. تتلمذ على يديه طلبة سيصيرون فيما بعد من النخبة المثقفة بالمغرب، منهم المؤرخ حميد التريكي، والكاتب محمد البوغالي العميد السابق لكلية الآداب القاضي عياض، والشاعر عبداللطيف اللعبي، والروائي الطاهر بنجلون، وعبدالجليل الحجمري عضو أكاديمية المملكة وأمين سرها الدائم، والناقد عبدالفتاح كيليطو. خلف العديد من النصوص القوية شعرا ونثرا”.

    ويضيف “هناك الشاعرة والروائية رجاء بنشمسي، من مواليد 1958 بمكناس، درست في المغرب ثم أكملت دراستها في فرنسا، فحصلت على دكتوراه في الفلسفة حول موريس بلانشو، ثم اشتغلت في المدرسة العليا للأساتذة بمراكش، كتبت في الشعر والرواية والمحكيات وفي الفن التشكيلي حيث تخصصت في تجربة زوجها الفنان فريد بلكاهية، وانخرطت في تجربة روحية انعكست على أعمالها الإبداعية. من أعمالها: أحاديث الليل، انكسار الرغبة، خلاف مع الزمن، مراكش ضوء المنفى، رسالة ما بعد الموت من ابن الخطيب لابن خلدون”.

    ويتابع لعميم “من الشعراء أيضا محمد الواكرة الذي ولد في مراكش (1945 – 2023) ودرس فيها، مارس المسرح، وتعلم الموسيقى وكتب دراسات حول الفن التشكيلي بالمغرب، خلف العديد من الدواوين الشعرية من أبرزها: الأفق من طين، ومرا كش – القصيدة، العين المتكسرة. ومن شعراء مراكش المميزين الشاعر عبدالرحمن بنحمزة، ولد في مراكش عام 1952، وهو شاعر وناقد تشكيلي من أعماله الشعرية: المسافر، وأضواء هشَّة وصحراء شاسعة، وكتاب نثري بعنوان ‘من يومٍ لآخر’. في الحقيقة، عوالم هؤلاء الشعراء تغري بالمتابعة والنبش والترجمة، إذ أغلب دواوينهم مازالت قابعة في اللغة التي كتبت بها، ولا بد من التفكير في ترجمتها حتى تعرف تداولا بين القراء في المغرب والمشرق”.

    ويوضح أن “مواكب الشعراء بمراكش لم تتوقف عن الكتابة الشعرية، وارتياد عوالم وآفاق جديدة في الكتابة، إذ في العصر الحديث ظهرت أقلام شعرية تفاعلت بقوة مع التيارات الشعرية التي هبت على المغرب من الشرق ومن الغرب. فاستُؤنف القول الشعري عبر إحياء رسوم القصيدة القديمة، والتفاعل مع الاتجاهات الرومانسية والرمزية خصوصا عند شعراء المهجر، والانفتاح على عوالم الروح والاشتباك مع القضايا القومية والسياسية والمجتمعية ومقاومة المحتل عبر الكلمة، وقد عرف الشعر في مراكش انفتاحا على تجارب شعرية اتخذت الشعر الحر شكلا للتعبير، وبعد هؤلاء الشعراء الذين جربوا هذا الشكل في الكتابة، سيعرف الشعر أيضا توجها استفاد من التجارب الشعرية التي انحازت لكتابة قصيدة النثر والأشكال المجاورة لها، فمنذ أواخر الثمانينات إلى اليوم ظهرت أصوات شعرية بحساسيات مختلفة اشتبكت مع المنجز الشعري العربي والغربي”.

    ويؤكد أن هذه المختارات الشعرية من بعض ذاكرة الشعر بمراكش “تطمح للنبش في نصوص شعرية متنوعة ومتعددة المشارب والرؤى منذ الزمن المرابطي إلى أواخر السبعينيات من القرن العشرين، وذلك بغية إيقاظ هذه الذاكرة من السبات والنسيان، وربط الشعر في مراكش بموصوله الحضاري والثقافي، والتنصيص على أن مراكش جرت فيها مياه شعر وفير وظل هذا النهر تتجدد مياهه بلا نضوب، وأمام هذا الترادف والجريان وهذا التنوع في التجارب بدا لي أن أغطي بعضا من هذه الذاكرة، للتنبيه إلى أن مراكش لم ينقطع فيها تموج الشعر، ولم تخل فترة من الفترات من شعراء، سواء ولدوا ونشؤوا فيها أو أتوها من آفاق أخرى واستوطنوها، أو عبروا منها بعدما قضوا فيها زمنا، أو من أبنائها الذين غادروها إلى مدن أخرى أو بلدان بعيدة”.

    ويتابع “ما يهم هو هذا الانتساب لمدينة من أهم مميزاتها احتفاؤها بالغريب، ومن خصائصها الضيافة، فهي المدينة التي ترعى حق الضيف، لأن الضيف صورة الملاك، فهذه الخاصية جعلت من مراكش كعبة للشعر والشعراء قديما وحديثا. فهؤلاء الشعراء خلفوا وراءهم إرثا أصبح ملكا لورتثهم وأحفادهم، رغم ما لحق أحيانا هذا الشعر من ضياع أو إتلاف. هذا ما جعلني أتقرى نصوص هؤلاء الشعراء في مصادر قديمة وفي دواوين حديثة، حاولت أن أجمع ما تفرق من نصوص في مظانها، وأشكل من هذه المنتخبات نواة لأنطولوجية شاملة في المستقبل، تسعى إلى الإحاطة بمختلف التجارب والحساسيات والمذاهب والتيارات الشعرية التي تحققت في المدونة الشعرية بمراكش. وأسعى إلى تحفيز الباحثين والمهتمين بالشعر إلى أن يفكروا في وضع أنطولوجيات أخرى تغطي المدن المغربية”.


    المدينة التي ترعى حق الضيف

    قصيدة "مراكش" للشاعر عبدالرفيع الجواهري:


    نظرات المطر على جسد ينزف شمسا
    ها رائحة النخل ورائحة الحناء
    وها وجه غز الخائف
    مختبئ في عينيك
    وجهه أم دمعة طفلة؟
    ثغرك أم جرحي؟
    ***


    قطرات المطر على جسد ينزف شمسا
    هذا المطر كما الجمر
    يحيل الجسد الصحراوي جحيما
    فأرى فوق الجدران الحمراء عيونا
    موالا ينساب
    ***


    ها هو ذا صفصفاف منحجر
    ها هي ذي الكتبية تشرب أحزان الساحة
    فتعالي نشرب
    تحت الكتبية أحزان الفرح وأفراح الأحزان
    أي هدير في أحشائك يصطخب
    دقات طبول
    دقات أكف
    ***


    أقدام عارية تقفز ترقص
    حمداني لاعب ثعبانا
    حمداني لاعب قردا
    قتل الزير مئات الفرسان
    قالت عبلة يا “عنتر”
    قال الراوي.. قال الراوي
    في الساحة أصوات، أصوات، أصوات
    لكنه في الأصوات وفي الأجساد
    في (الجذبة) في ناب الأفعى
    في القرد وفي الساحر
    صرخات، صرخات، صرخات
    جمرات، جمرات، جمرات
    نخل يمشي في نسغ الصحراء
    في الساحة ترتفع يد تمسك طعنة
    وها أنت كما الجمر حمراء حمراء حمراء
    نازفة تمشي وتتبع كالطعنات
    بين الموتى والأحياء
    نازفة باسمة تمشي
    ها رائحة النخل ورائحة الحناء
    وها وجه غز العائد
    يضحك في عينيك
    وها شمس تورق في خاطرك.



    محمد الحمامصي
    كاتب مصري
يعمل...
X