"لا تسقني وحدي".. رواية عرفانية تعود إلى القرن السابع الهجري

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "لا تسقني وحدي".. رواية عرفانية تعود إلى القرن السابع الهجري

    "لا تسقني وحدي".. رواية عرفانية تعود إلى القرن السابع الهجري


    سعد مكاوي يجمع رموز الصوفية في أحداث مثيرة.
    الأحد 2024/05/05
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    تواصل مع التراث الصوفي

    تسعى الروايات العرفانية إلى إحياء التراث الصوفي وتسليط الضوء على خفايا روحية في الدين الإسلامي، وبذلك تحرره من النظرة الأحادية وتفتح تراثه على التأويل والاعتبار والأفكار التي تسمو بالفرد من عالم الملذات الضيق إلى عالم التأمل الفسيح في الكون. وفي هذا التمشي تأتي رواية الكاتب المصري سعد مكاوي “لا تسقني وحدي”.

    هل نستطيع أن نقول إن رواية “لا تسقني وحدي” للكاتب الروائي سعد مكاوي (1916 – 1985) رواية تاريخية؟ فهي تتناول شخصياتٍ حقيقية ظهرت في القرن السادس الهجري أو القرن الحادي عشر الميلادي، من أمثال عمر بن الفارض (1181 – 1235م) وشهاب الدين عمر السهروردي (1145 – 1234م)، وبرهان الدين الجعبري (1242 – 1328 م). أم هي رواية عرفانية بطلُها علاء الدين السوهاجي، وهو شخصية غير معروفة في التاريخ، ولكننا نتذكر أن علاء الدين كان اسم ابن جلال الدين الرومي في قونية بتركيا، ولعله يمثل قناع الكاتب نفسه أو صوتَ، وهو الذي يتوسَّل في روايته بأئمة التصوف من أمثال محيي الدين بن عربي والسهروردي وابن الفارض والجعبري، والفقيه العز بن عبدالسلام، لصناعة الإيهام الروائي الجميل؟
    رواية عرفانية


    تدل الأجواء الروحانية التي تعبق بها رواية سعد مكاوي على أنها من الروايات العرفانية التي لا تروم القطيعة مع تراثنا الديني والروحي والفلسفي والفكري والثقافي، وإنما تتواصل معه وتنجذب إليه، وتُجليه وتُعيد تقديمَه على ضوء المفاهيم الراهنة.

    والأدب العرفاني هو الأدب القائم على المعرفة الباطنية، أو الصوفية، والزهد، والبعد عن الملذات الجسدية، أو الترفُّع عن عالم الجسد. كما سنرى في رواية “لا تسقني وحدي” لسعد مكاوي.

    من تتبعِ سيرة حياة الكاتب سعد مكاوي يتضح لنا أنه ينتمي إلى الريف المصري الفقير الذي يسوده عبق التصوف، إذ يقول: “كان أبى من طبقة المتصوفة، التي أخذت روح التصوف الحقيقي في معناه الكلي، ليس التصوف الذي يفر من الواقع في صورته الشائعة، بل الذي ينظر إلى الواقع من خلال رؤية كلية تنفذ إلى الماوراء لدرجة أنها قد تربط المعنى الإنساني الكلي وحقائق الوجود الأصلية بالمصير الإنساني، مما يهب النفس قدراً من الثقافة والتصوف. بهذا المعنى يُعطَى الإنسان قدرة على أن يستشف كلَّ حقائق الوجود والحياة، بحيث تكون النظرة الجوانية للإنسان هي القوة السائدة”.

    وعلى ذلك فإن تصوف أبيه كان أقرب إلى تصور التصوف عند ابن عطاءالله السكندري، وشيخه أبي العباس المرسي وشيخهما أبي الحسن الشاذلي صاحب الطريقة الشاذلية. وقد تأثَّر سعد مكاوي بهذه النظرة الصوفية، فنجده يقول في روايته التاريخية الأشهر “السائرون نياما” (ص 283): “الله هو النور لمن يبصر بقلبه، وفي معنى النور تتوحَّد كل صفات الله الحسنى، والبشر خليقة نور، وفي النور يريدهم ربّهم، في نور الحق وكرامة الواجب وسواء السبيل، فليكن النورُ رفيقَنا وهادينا، ولتكن صلاتُنا أن اللهم هبنا القدرة على أن تُشرق أنفسُنا البشريَّة بحقيقتك النورانيّة، واضربْ بنا الظلمةَ، واجعل الموتَ إن وجب حبيبًا إلينا”.

    الأجواء الروحانية التي تعبق بها الرواية تدل على أنها من الروايات العرفانية التي لا تروم القطيعة مع تراثنا

    في رواية “لا تسقني وحدي” سنجد الجو الصوفي الذي نشأ فيه سعد مكاوي، بطريقة أكثر تكثيفا من “السائرون نياما” 1963.

    يفتتح سعد مكاوي روايته ببيتين من الشعر الصوفي من نظمه، جاءا من بحر المتدارك، يقول فيهما: مجدًا في شوقٍ مجدولٍ/ من أزلِ الكونِ إلى أبدِهْ/ وطریقي موجٌ موصولٌ/ بالبرِّ الكليِّ وزبدِهْ.

    وهذا يدل على انفتاح النص الروائي العرفاني على بقية الأجناس الأدبية والفنية الأخرى، فمع بداية الرواية سنشاهد – في مشهد سينمائي – شخصيتين (مروان وعلاءالدين)؛ يمشيان في تقدم بطيء غير مُطَمْئِن في الصحراء الطاغية.

    يعاتب علاءالدين صاحبه مروان بعد أن لاحظ علوّ صوته وضجره في بداية الرحلة. ويحاول أن يمتصَّ غضبه. ويظهر في الطريق أو في المشهد شخصٌ ثالث؛ إنه السهروردي، شيخ طاعن في السن، تلمع تحت الشمس رأسه الصلعاء، وتغطي لحيتُه البيضاءُ صدرَه العاري، وتحاكي جمودَ التمثالِ جلستُه على حجر. ولكنه عندما تكلَّم جاء صوتُه رائقًا كالنبعة الكريمة. وكان يرى أنه أمام الوضع الذي وصلت إليه الأرض التي جاء منها علاءالدين ومروان، لا سبيل إلا الاقتحام في المواجهة بغير طاقة روحية فوق العادة. ولا يقدر بنو الإنسان في هذا الركن من الأرض على ذلك، إلا أصحاب الشوق الجاذب بالزمام.

    في اللحظة التي يريد فيها مروان الرجوع من حيث أتيا، فالصحراء ممتدة أمامهم كالمجهول، يصرُّ علاءالدين على إتمام الرحلة. وينقسم الطريق طريقين على وقع إنشاد الشيخ السهروردي (من مخلَّع البسيط): تبدَّدتْ وحشةُ الليالي/ وأقبلتْ دولةُ الوصالِ/ تشرَّبتْ أعظمي هواكمْ/ فما لغيرِ الهوى وما لي.

    لقد غمرتْ نَفْسَ علاءالدين سكينةٌ لا يدري مأتاها، وتراخى الزمن، وتحطم تحت نعله عقرب. ومن بين صخرتين عملاقتين سمع فجأة صوتًا يصلّي صلاة عجيبة، ويدرك أن جبل المقطم لم يعد جهمًا. فقد أشرقت طينته وخَفَّت، وبين صخرتين في الجبل يرى كهفًا، وفي عمق الكهف يرى رجلا في حدود الخمسين جالسًا على الأرض العارية، عجيب الهدوء، فيستأذن منه للدخول.

    وعندما يقول علاء لهذا الشيخ – الذي سنعرف فيما بعد أنه الشاعر الصوفي عمر بن الفارض -: الصحراء لم تهزمني، لكنها أخذت مني رفيق الطريق.

    قال له: بل أخذته منك حدودُه التي ما كان قادرًا على أن يتجاوزها.



    ولعل هذا القول يخفّف من وخزةِ ضميرٍ كان يشعر بها علاءالدين إزاء صديقه مروان الذي لم يستطع الصبر على متاعب الطريق.

    وعندما يدخلان القاهرة، ويذهبان إلى جامع مصر، يستمعان إلى واعظ شاب وسط جموع من المصلين بعد صلاة العصر، هو برهان الدين الجعبري الذي يلمح عمر بن الفارض، فيتهلل لرؤيته. مع ملاحظة أن الجعبري – تاريخيا – ولد بعد وفاة ابن الفارض بحوالي سبع سنوات، وثبت أنه لم يأتِ إلى مصر خلال مراحل حياته. فقد قضى جُلّ حياته في بلاد الشام، وعاش قسطًا منها في بغداد بالعراق.

    من خلال وعظه – في الرواية – يدعو الجعبري إلى “انقلابٍ جواني يُعيد إلى الناس التوافق مع الجوهر الصافي ويُدخلهم تارة أخرى في ركب الحياة السائر”.

    وهو ما جعل علاءالدين يرى بوضوح أليم وبيقين عقلي ضرورة التخلص من كل الأوضاع والمتاهات البعيدة عن المثل الواحد الحقيقي. ويقرر أن يزدادَ قربًا من هذا الرجل أيضا، وينهل من هذا البركان.

    إن لقاء علاءالدين بابن الفارض ثم الجعبري سيعيد صياغة حياته فيما هو مقبل عليه من أيام.

    لقد خلَّف مروان وعلاءالدين بيتهما القديم وراءهما، وتركا فيه زوجتيهما الأختين – رباب (زوجة علاءالدين) وهنادي (زوجة مروان) – لحياة جديدة عندما قررا الهجرة من أرض الخنافس المتطاوسة، ولكن هل تتركهما الزوجتان، فلا تبحثان عنهما؟ وهما في سعيهما وراء الزوجين تدخلان في صراع مع العناكب والحيّات، وهي من الممكن أن تكون رموزًا صوفية لصراعات دنيوية أو نفسية أو جسدية. وتقول إحداهما للأخرى: هذه الوحوش ستتعشى بنا قبل أن نتغدى بزوجينا الهاربين.

    وتستنجد رباب بالسهروردي قائلة: مدد.. مدد يا سهروردي.. وعادت هنادي تقول: مدد.. مدد يا سهروردي. ما يدل على أن السهروردي كان معروفًا لدى العامة في مصر وأنه من أصحاب الكرامات.

    ويأتي المدد، وتتقاعس الذئاب عن دائرة الحصار وتمضي لحال سبيلها، وفي طريقهما بالصحراء تجدان عظام إنسان، وتكتشفان من خلال بعض الثياب الممزقة أنها عظام مروان الذي افترسه أحد الذئاب في طريق عودته إلى بلدته بالصعيد بعد أن ترك علاءالدين.

    “نهضت هنادي معولةً كما لو كان الصعيدُ كلُّه يعوي معها:

    ـ هذه والله عظام حبيبي مروان”.

    ويصطحب عمر بن الفارض، علاءالدين إلى بيته في البهنسا، ويقدمه لجاريته آية بقوله: هذا علاءالدين عنده من علم القلب نفحة.

    ويتذكر علاء الدين أبياتًا لابن الفارض يقول فيها (من الطويل):

    تمسكْ بأذيالِ الهوى واخلعِ الحَيا/ وخلِّ سبيلَ الناسكينِ وإنْ جَلُّوا/ أحبَّه قلبي والمحبةُ شافعي/ لديكمْ، إذا شئتمْ بها اتَّصَلَ الحبلُ/ أَخَذتُمْ فؤادي وهوَ بَعضي فما الذي/ يضُرّكُمو لو كانَ عندكُمُ الكُلّ.

    الأدب العرفاني هو القائم على المعرفة الباطنية أو الصوفية والزهد والبعد عن الملذات الجسدية والترفُّع عن عالم الجسد

    وقد سعد الشاعر كثيرا بترديد أبياته، فقد تهلَّل وجه عمر وهامت نظرته فی ما وراء السحب الرقيقة المتدافعة من أرجاء السماء لمداعبة القمر، وفي العمق تردَّدت همسات مزامير، وتداعت دفقات دفوف ورنَّات عيدان.. حي على الرقص.

    ويبدو أننا سنشاهد رقصة المولويه أو “التنورة” التي أبدعها شمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي. وبالفعل يخبرنا السارد أنه شَرَقَ في جنبات البستان الأنيق فيضٌ من مدد، وبالانسجام المشعشع انتظم عمر وعلاءالدين في حركة الرقص التي ابتعثها بزوغ عدد محدود من الرجال المحلّقين كأنهم نبعوا من شذى الأزهار المتقابلة، وتدفقوا من رحيقها.

    فهل أراد سعد مكاوي في “لا تسقني وحدي” بعث حكاية شمس الدين التبريزي وجلال الدين الرومي، من خلال علاقة ابن الفارض وعلاءالدين؟ أعتقد أن الدراسة المقارنة – والتي لسنا نحن بصددها الآن – ستفيدنا كثيرًا في هذا المجال، وإن كنت أعتقد أن العلاقة بين التبريزي والرومي – كما صورتها لنا “قواعد العشق الأربعون” – أقوى من علاقة علاءالدين بابن الفارض، كما صورتها “لا تسقني وحدي”.

    نمضي مع أجواء الرقص الصوفي في بيت عمر بن الفارض، الذي أتت إليه بقية الجواري والمغنيات، لنلاحظ أنه خفَّت طينة علاءالدين وشعشعت، منذ احتواه الإيقاع الموزون المتناسق مع حركة الكون الكليّة، ورفعه بالتصفية نحو الترقي واندمج به قانون الكون ذاته.

    وتتحول الجارية آية إلى عشيقة لعلاءالدين، وتسأله: أتشتهیني لحمًا ودمًا أم نُعتنق روحًا واحدة؟ عند سؤالها جاشت نفس علاء الدين بإحساس غامر بالتسامي جعله يقبِّلُ طرف كمِّها بخشوع، فتبّسمتْ وأشرقَ الوجودُ بابتسامتِها حتى صار سماءً بلا حدود، ومرت لحظة بالغة العمق والدلالة قبل أن تتناهى إلى تلك السماء صيحةُ فرح ترددتْ بالباب المفتوح: السهروردي!.. السهروردي.

    ويبدو أن السهروردي هنا يمثل القطب الكبير، أو الشيخ الأكبر، أو سيد الإشراق، ويعاودون الرقص على فيض بيتين من شعر السهروردي (من بحر الكامل): لا تسقني وحدي، فما عودَّتَني/ أني أشحُّ بها على جلاسي/ أنتَ الكريمُ، ولا يليق تكرُّما/ أن يعبرَ الندماءُ دورَ الكاسِ.

    وقد ورد تصحيف، أو خطأ مطبعي، في كلمة “أشحُّ” فكُتبت “أشيحُ”، في أكثر من مكان بالرواية.

    لم تتحدث سيرة السهروردي التي اطلعتُ عليها أنه جاء إلى مصر، ولكن سعد مكاوي يجعله يأتي إلى مصر، ويلتقي عمر بن الفارض (الشخصية الحقيقية) وعلاءالدين (الشخصية المتخيلة) بل يستعير اسم الرواية “لا تسقني وحدي” من أحد أبيات السهروردي الشعرية وقد أوردناه منذ قليل.

    يجمع الكاتب شخصيات من أزمنة وأمكنة مختلفة في زمن واحد ومكان واحد، لهدف روائي وتخطيط إبداعي ينشِّط مخيلته، ويثير شهية القارئ ليعرف ما الذي يجمع بين تلك الشخصيات وما الهدف من وراء ذلك.
    حضور ابن عربي


    أحداثُ الرواية تدور في نهایة الربع الأخير من القرن السابع للهجرة، وهو زمن وُجد فيه السهروردي وابن الفارض

    تدور أحداثُ الرواية في نهاية الربع الأخير من القرن السابع للهجرة، وهو الزمن الذي وُجد فيه السهروردي المولود في سهرورد بإيران، وابن الفارض المولود في مصر بالقاهرة.

    وعلى الرغم من مجالس التصوف، أو ما يسمّى بالحضرة الإلهية، ورقصات المولوية فإن هؤلاء القوم لم يغضوا الطرف عن الواقع المرير، فنرى أحاديث السياسة تأخذ مكانها في جلساتهم في المساجد، ما يجعلنا نقول إن هذه الرواية تنتمي – في أحد انتماءاتها – إلى الرواية السياسية. فلم يكن تصوف هؤلاء القوم تصوفًا سلبيا، وإنما كان تصوفًا علميًّا أو سلوكيًّا ثوريًّا أو سياسيًّا. إنهم لم يكونوا دراويش من دراويش مسجد الحسين بالقاهرة على سبيل المثال، أو دراويش مسجد السيد البدوي في طنطا، أو مسجد أبي العباس المرسي في الإسكندرية.

    وفي هذه الأجواء التي جمعت بين الرقص الصوفي والحديث السياسي تصل المرأتان: رباب وهنادي، إلى بيت الجعبري حيث يقيم علاءالدين، فهبط في الحال من مقام الأسى على حال الأمة، وضرب كفًّا بكف قائلا: ورائي ورائي.. لا فائدة. فيجيب الجعبري: شد حيلك يا بطل. وما أن رأته هنادي حتى أطبقت على جلبابه واصفةً إياه بأنه خائن صداقة زوجها مروان.

    وهكذا ستظل الأختان – على طول الرواية – تعكران صفو علاءالدين، وتفسدان عليه خلوته، وتلومانه على تركه لبيته في الصعيد أو هروبه منه.

    وفي نقلة للأحداث تستدعي زينة زوجة الوزير زياد، علاءالدين بحجة أن امرأة جاءت تشكوه، وعرفتْ منها أنه من أصدقاء الشيخ الجعبري الذي تودُّ لقاءه، بل تبني له مسجدًا على حسابِها يحمل اسمَه للذكرى وابتغاء مثوبة الله. إن امرأة الوزير ترغب أن يعظها الجعبري وعظًا خصوصيًّا ولو مرة واحدة. لتعيد إلى الذاكرة ظلالا من حكاية النبي يوسف مع زليخة امرأة العزيز. خاصة أن زينة امرأة الوزير تسأل علاء الدين: هل هو حقا رجل رائع الشباب، جميل الصورة، مهيب القامة، ساحر النظرة والإشارة والكلمة؟ فيجيبها بأنه هو ذلك كله وشيء أكبر. فتسأله مأخوذةً: أكبر من هذا؟

    لكن زيية لا تريد أن تسمع كلمات من علاءالدين مثل: التحرر، وغير تقليدي. ولهذا مغزاه السياسي عند الطبقة الحاكمة سواء السلطان أو الوزير أو زوجته. فتقول له: هناك كلمات أتمنى ألا تكون شائعة في كلامك.

    وعندما تلاحظ من علاءالدين صدًّا وعزوفًا عن حمل طلبها للجعبري، تنقلب على وجهها الآخر وتهدده بقولها: اسمع أنت!.. إنك لا تدري أين يمكن أن ألقي بك إلى آخر يوم في عمرك إن لم تحملإليه رسالتي.. هل ستحدثه عن فكرة المسجد الجديد وتطلب إليه أن يأتيني بصورة البنيان وحساب التكلفة؟ فيبلغها علاءالدين بأن الرجل لن يستجيب لها، معللا ذلك بقوله: الشيخ برهان الدين الجعبري ليس من أهل الوعظ الخصوصي. فتهدده امرأة الوزير بتهمة ملفقة من الممكن أن تلصقها به في قولها: أنت لصٌّ فرَّ من بيت الزوجية بمصاغ زوجته المسكينة. وذلك تمهيدًا لسجنه.

    يبدو أن علاءالدين استطاع أن ينجو من براثن المرأة وحبائلها، لأننا سنشاهده بعد ذلك في أماكن أخرى في المدينة، ثم في بيت الجعبري ومسجده، ويعرف الجميع ما جرى بينه وبين امرأة الوزير، وتهدده زوجته رباب، فكيف يرفض طلب امرأة عظيمة. ولكن الجارية آية (جارية عمر بن الفارض) تسألها: أتحسبينها عظيمة لأنها امرأة وزير أم لأنها خلعت الحياء وأعلنتْ شبقها؟ ثم تُثني على علاءالدين وموقفه الرافض لطلب زينة قائلة: لو أحسنتِ النظر إلى الرجل الذي عاشرتِه عشرين سنة لأدركتِ كم هو غنيٌّ بموقفه ومواويله. ولكن تصفه رباب بأنه: أخيب الرجال.

    من تتبعِ سيرة حياة الكاتب سعد مكاوي يتضح لنا أنه ينتمي إلى الريف المصري الفقير الذي يسوده عبق التصوف

    وتصبح قصة غرام امرأة الوزير بالفتي الجعبري حديث القاهرة، فنجد صاحب مقهى يقول، وهو يضع أمام صديقه الصينية النحاسية يتوسطها كوب الزنجبيل: زمن أغبر يا حاج.. هل العشق هو الآخر بالعافية؟ فيجيبه الرجل: لم تجد بنت الرفضي غير الجعبري؟

    وعلى المقهى يتم تداول حكايات الفساد وسلطان البلاد مع الوزير زوج زينة، فبدلا من أن يعاقبه على أفعاله واستغلاله لسلطاته في نهب البلاد والعباد والتجارة في “أفيون زينة”، وبقية المخدرات، يكافئه بتزويجه امرأة حاملا في شهرها الرابع، وقد يكون حملُها من السلطان نفسه أو أحد أبنائه وأتباعه، وبتعيينه رئيسًا لديوان الحسبة (تعادل وزيرًا للمالية الآن)، ويقول له: والآن اذهبْ فخُذْ إليك بديوان الحسبة وترفّقْ في النهب، إن عيني ساهرةٌ على حقوق العباد ومصالح البلاد.

    أما هنادي (أخت رباب) فتسير في طريق الرذيلة، بعد أن أوقعتها رشيدة، إحدى قوَّادات المدينة، لتتجسد منظومتا العهر والفساد، وتتقاربا من بعضهما البعض في مقابل رؤى وأحلام علاءالدين الذي لا يجد أي توافق روحي مع زوجته رباب، وحتى على مستوى الحديث اليومي معها.

    ثم يحين ظهور شخصية العز بن عبدالسلام في أجواء الرواية، وهو قاضي القضاة في مصر، رغم أنه ولد في دمشق سنة 1181م (577 هـ) – وهو نفس العام الذي ولد فيه ابن الفارض – ثم رحل العزُّ إلى القاهرة وتوفي بها سنة 1262 م (660 هـ) بعد أن قام بالتدريس والإفتاء، ثم أصبح قاضيا للقضاة. فهو ينتمي إذن إلى نفس الفترة التاريخية التي تدور فيها أحداث الرواية.

    قال علاءالدين لصديقه حسن: تعال نغتسل بكلمات العز بن عبدالسلام. كلماته باب مفتوح للناس في كل وقت. ولم يعلم أن حسن هذا هو الذي سينقذ هنادي مما تردَّت إليه في بيت الدعارة، في مشهد يذكرنا بمشهد الفنان نور الشريف في بداية فيلم “دائرة الانتقام” (1976) عندما أخرج جابر عبدالواحد أخته من بيت الدعارة، ولكن حسن هنا يطلب المدد من السهروردي: مدد يا سهروردي الذي يُنقذه بالفعل، فقد كان حسَن، حسن النية ويريد الزواج من هنادي بعد أن ينقذها من جحيم الدعارة ومآلاتها.

    ولا تكف زينة عن إرسال البصاصين (المخبرين) للتجسُّس على علاءالدين في محاولة للإيقاع به والانتقام منه لعدم استجابته لطلبها بخصوص الشيخ الجعبري، وقد عرف ناس المدينة ما يدبر له فكانوا يحذرونه أثناء تجواله في الشوارع والحارات، وها هي عجوز تخرج من باب خفيض وفي يدها قصعة صغيرة يشيع الابتسام في تجاعيد وجهها تقول لعلاءالدين: اشربْ وامضِ لحالك فإن في عطفتنا بصاصًا لا نحب لك أن ينالك شره.. لبن رائب يا صاحب الموال. وهنا تعود ظلال العنوان “لا تسقني وحدي”، وكأنه يريد أن يشرب الجميع من هذا اللبن الرائب الذي يرمز إلى الطهر والنقاء، فضلا عن فائدته الصحية للجسم.
    الذئب والغزالة


    في رواية "لا تسقني وحدي" سنجد الجو الصوفي الذي نشأ فيه سعد مكاوي، بطريقة أكثر تكثيفا من “السائرون نياما” 1963

    يحضر في الرواية الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي وديوانه “تُرجمان الأشواق” وكتابه الضخم “الفتوحات المكية”.

    وأثناء تجمع تلك الصحبة العرفانية: ابن عربي والسهروردي وابن الفارض والجعبري والعز بن عبدالسلام وعلاءالدين، ومعهم الغزالة الآمنة في الحِمى، يطل عليهم ذئب – قد يكون رمزًا للدنيا (الأدنى والأحقر) أو ذئب الشهوات “ذئبٌ كبيرُ الجرْم في اندفاعاتِه ثقةٌ في النفس، لم تلبث أن تكسَّرت عند حافة دائرة الضوء التي تبتعثها راكية النار”. وخشي علاءالدين أن يكون الذئب طليعةً لذئاب أخرى (شهوات أخرى) وقال ابن عربي: لعلنا ندخله النار (حيث تحترق تلك الشهوات ويبطل مفعولها) ولمس ابن الفارض بيده الحساسة عنق الغزالة أو الظبية قائلا: لا تراعِ يا جميلة. وانتقض برهان الدين الجعبري واقفًا وخلع الجبَّة وشمَّر عن ساعديه قائلا: أنا كفيل بابن الخسيسة. والذئب يطوف حول النار وهو يسمعُ حسيسَها، ولعينيه على حافة الضوء وميض سيء.

    ويتوقف الذئب عن التقدم إلى الجماعة، ويلتفت الجعبري مبتسمًا نحو الظبية التي ترمق الموقف قائلا لها: أترين يا حلوة المعاني كم هو خائف منك.

    وفي الوقت الذي يُقتل فيه الذئب، يُقتل وزير الحسبة في فراشه، ويبدو أن الذئب كان معادلا موضوعيا للوزير زياد، وزير الشهوات والمخدرات، الذي وجد قتيلا في فراشه ومكفَّنا بدمه. وإن كان الحشاشون والمساطيل يرون أن القاتل لن يخرج عن السلطان أو زينة زوج الوزير.

    وتنتهز زينة زوج الأمير فرصة اغتيال زوجها وتتهم الشيخ برهان الدين الجعبري واعظ جامع مصر. وهنا تنجح تقنية المعادل الموضوعي والرمزي التي أشرنا إليها من قبل عندما قتل الجعبري الذئب أثناء وجوده وسط الأحبة.

    وهي فرصة لكي تنتقم رشيدة (القوَّادة) من هنادي وزوجها حسن ومن علاءالدين أيضا. ويرسل الوالي في طلب علاءالدين، وعلى الرغم من كراهية رباب لزوجها علاءالدين لانصرافه الدائم عنها، فإن قلبها امتلأ بالخوف عليه والرغبة في حمايته.

    وكما جندل برهان الدين الجعبري الذئب في مشهد سابق، فإنه يُسقط أحد جنود الوالي جاء ليُلقي القبض على علاءالدين بضربة من الخلف، ويقبض علاءالدين على الجندي الثاني، وتتوحد رباب مع زوجها وتنتصر له قائلة من فوق كتفه: لن تطوله هذه الأيدي القذرة أبدًا. ويغادر علاءالدين منزل الشيخ الجعبري الذي أقام فيه طيلة الفترة السابقة.

    الرواية تتناول شخصياتٍ حقيقية ظهرت في القرن السادس الهجري أو القرن الحادي عشر الميلادي

    لم يجد علاءالدين سوى صديقه حسن كي يختبئ عنده، رغم أنه يعرف أن هذا المكان غير آمن، وبالفعل يصل إليه جنديان من جنود الوالي قبل الفجر، ولكن يستطيع حسن وعلاءالدين وشجاعة أم حسن الضريرة التعامل معهما، ليعاود علاءالدين الهروب من جديد، لاجئًا إلى سفوح المقطم، ليجد غزالة السهروردي المباركة نائمة تحت ندى الفجر. وعندما فتحت عينيها وثبت إلى الأرض وتمسحت بساقيه في فرح قبل أن تتواثب حوله في رقصة عفوية، وهو يسعى في اتجاه نبتة صبار عجيبة النضرة، بينما الغزالة تقودُه إلى بؤرة المدد في رحاب السهرورودي الذي قال له: القاهرة هي الأخرى يا علاءالدين فقدت قدرتها المُنْعشة، لكنها ليست جثةً هامدة، ولن تكون. إنها في محنة، فهي منذ استنامت للجمود وركنت إلى التقليد، فقدت قدرتها على الإبداع، والنبض الحر فيها قليل يتوارى.

    ويتعقبه جنود الوالي، ويستطيعون الوصول إلى مكمنه، ربما جاءوا في إثر النسوة المُراقبات، وفي هذه المرة يستطيعون القبض عليه، ولكن هل سينجحون وهم في رحاب السهروردي وغزالته التي يتشهون لحمها ويريدون ذبحها والأكل منها؟

    من كل صوب تدفق نحوهم فتيان كأن كثبان الرمال انشقَّت عنهم بإشارة سهروردية، وغزلان كثيرة منقضَّة يقودها غزالٌ كبير جميل تتواثب في حماه غزالة السهروردي الذي جلجلتْ ضحكتُه ملء الآفاق.

    وأمام المشهد الخارق حدَّث علاءالدين نفسه: لكن هذه الكائنات الجمیلة. في انتشارها وتجمعها وترابطها وعنادها كلمات حية!

    وتدفق من وجدانه مطلع موال جديد:

    مجدافي شوق مجدول

    وطريقي موج موصول

    لا حا أكسر الأرغول

    ولاحا بطل أقول!

    وضحك كل شيء مع السهروردي: علاءالدين والرمال، والغزالة، ونبتة الصبار، والنجوم، وقلب الحجر!

    ويتشابه موال النهاية مع موال البداية في سيرة علاءالدين الصوفية، ولعلها تكون سيرة روائية لكاتبنا المبدع سعد مكاوي نفسه، إنه لا يريد أن يُسقى وحدُه من هذا الفيض والإبداع والمواويل، فأشركَ قارئه معه علَّه يفوز بشربةٍ هنيئةٍ من هذا النبع الصافي المتدفق بالخير والعطاء والجَمال. فلا يزالُ الجمالُ يمشي متحسسًا الأرضَ وضاربًا خيامَه في كل تربة صالحة.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    أحمد فضل شبلول
    كاتب مصري
يعمل...
X