منمنمات تاريخية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • منمنمات تاريخية

    يتناول هذه المرة نصار يحيى مسرحية على جانب كبير من الاهمية، باعتبارها نصا مفتوحا يحتمل دلالات متعددة، ويُخرج المسكوت عنه، كما يقول نصار، الى العلن. انها منمنمات تاريخية المسرحية المستقاة من التاريخ، من واقعة احتلال دمشق من قبل تيمورلنك، والصراع بين الاطراف الفاعلة لاجل تسليم المدينة او النضال في وجه الغزاة. يحتار المرء كيف يتعامل مع هذا النص المدهش في دلالته، بحيث يمكن العمل على اسقاطه على الحاضر أو يرى الواقعة التاريخية تحدث الان، ويرى المرء الانقسامات والاراء الكثيرة المتعددة تتكرر.
    بلغته الرفيعة يستعرض نصار الاحداث الرئيسية، ويستعرض كل الاراء ولا ينحاز كما فعل سعدالله ونوس لاي جهة، بل يقدم المبررات من وجهة نظر كل طرف.
    تيار النقل المستبد والذي قسما منه دافع وبشراسة عن دمشق يمثله التالذي، والذي رفض اطلاق سراح تيار العقل ممثلا بالشرائجي لكي يقاتل الى جانبهم وفضل ان تُحتل دمشق على ان يطلق سراحه، وهذه اشارة مهمة يمكن ان توظف لمن يريد ذلك في سياق الحاضر، والقسم الاخر من نفس التيار، النقل، الذي عمل على تسليم المدينة لتيمورلنك. ثم والاهم موقف ابن خلدون الذي يرى " ان للعمران قوانين ثابتة ومطردة.." وبالتالي من العبث مقاومة الاحتلال لان الحواضر ومنها دمشق تمر بمرحلة الانحلال بينما تيمور لنك الغازي فهو في قمة العصبية. هذا هو المخبوء او المسكوت عنه، الذي حاول نصار ابرازه، وهذا هو المقدس الذي تكلم عنه.
    ينهي نصار مقالته الممتعة كما المسرحية، بفقرة شكلت جوهر ما قيل اعلاه، بدأها " دعونا نعمل خلطة ..." ثم يصل الى زبدة الكلام كما يقال " أما السرد الادبي فهو يحاكي تلك الحادثة لكن بافتراضات كامنة بين سطور الحكاية الاصلية، يُظهر المخبوء والمستور منها، يظهر وكأنها واقعة كانت قيد مسكونات مخيال جمعي لاشعوري.."
    ولكن يمكن ان اسأل اكثر من سؤال التالي:
    ــ لو مارس ابن خلدون المقاومة وانضم الى المقاتلين وقُتل، هل يمكن أن نرى علم اجتماع ببصمة ابن خلدون؟ وايهما افضل المقاوم ام العالم!؟ الا يوجد علماء ومبدعين مارسوا نفس انتهازية ابن خلدون؟ هل لهم الحق في ذلك؟
    ليست لدي اجابة.
    ..............................................

    منمنمات تاريخية للكاتب السوري سعد الله ونوس
    //غفى سراج الليل هنيهات على نفسه
    رأى:
    موقد حطب، يرمي بنفسه على تخوم قلعة دمشق//
    شرف الدين تلميذ ابن خلدون، يحاول تلافي الصدمة من شطحات المعلم، ابن خلدون في حياديته، بل الدعوة الصريحة لتقديم ولاء الطاعة للسيد الغازي الجديد تيمورلنك.
    شرف الدين يذهب الى القلعة، هناك حبيبته التي لم يجرؤ على الإعلان عن حبه لها:
    سعاد بنت الشيخ برهان الدين التاذلي الذي خاض القتال حتى هلكَ.
    -سيأتي الكلام عن التاذلي في سياق آخر-
    سعاد التي رفضت أن تبقى في البيت المنكوب بعد مقتل الأب، تصبح إحدى المسعفات للجرحى وشحذ الهمم.
    تبادر بسؤالها لشرف الدين: "هل شجعكَ وجودي هنا على المجيء"؟
    -سؤال مبطن تدرك انه يحبها، لكنه خجول ويحتاج لمن يطلق لسانه-
    تعرقَ المسكين..يتجرأ: "لا أدري..ربما..نعم كنتُ أفكر فيكِ".
    لن تغفو عنهما المنمنمات سيعودان للقاء الاخير (ص 68-70 نسخة الكترونية).
    يدركان أن القلعة ستسلم غداً، هي في قرارة نفسها تعرف أنها ستكون إحدى محظيات تيمور لنك، ثم بعد قليل يرميها لعساكره.
    تعلن موتها انتحارا قبل التسليم بدقائق!
    سكرات قبل الموت جعلت منها فتاة حرة تصغي لرغباتها الطبيعية بالارتباط ومتع الجسد:
    تطلب من شرف الدين الزواج: إني زوجتكَ نفسي..يقول هو أيضاً إني زوجتكِ نفسي.."
    الفاتحة يقرآن..
    تقول له: " لن نخبر أحداً..سيكون زواجنا حلماً..أو أقصر من الحلم..تطلب منه ليلة دخلة -يظهر عليه القلق-.نحلم..دعنا نحلم..دعنا نحلق فوق الأنقاض..اغمضْ عينيكَ..وانزلق الى الحلم..إننا نطير.."
    أوشكَ التسليم على طرق الباب..تفيق من الحلم..تنفرد بنفسها -شرف الدين ينام- تربط جدائل شعرها "طوق موت".
    تعلق نفسها على خشبة مرمية على سور القلعة، وهي تنزلق نحو "الهاوية" تلتقي عيناها بالمصلوب على بوابة القلعة، تتذكر أنها سمعت به من أبيها الشيخ التاذلي قاضي المالكية وكبيرهم الذي شارك في الحكم على هذا المعلّق، بالكفر والزندقة..
    إنه جمال الدين الشرائجي.
    الان يروي حكايته الأخيرة:
    "آمنت ُ أنّ العقلَ خيرٌ من النقل -ياعفوالله أحد المارين من عامة الحي- عَلموا قضاة دمشق الأربعة..استدعوني -بكل تهذيب- شتم وضرب وإحراق كتبي، ثم رموني في سجن القلعة..حين حل تيمور..أبكاني القهر، أن لا أكون مع الأمة في مواجهة هذه المحنة..السلطان رفض طلبي أن أكون معهم، على العكس ضيق السجن علي -ذكرته بحالك يا مسكين، شاهد عيان معاصر-الأمير آزدار رجوته أن يخلي سبيلي كان جوابه: تحلى بالصبر على بلواك، وفي مكان آخر قبل الوداع، سؤال طرحه عليه معاونه شهاب الدين: لماذا يتردد الأمير بالإفراج عن جمال الدين الشرائجي؟
    "لا أستطيع أن أفرج عن رجل اتهمه التاذلي وسائر العلماء بالكفر والزندقة"..
    يتابع المصلوب (الشرائجي): وحينما سيطر تيمور كاملاً على المدينة، قادوني العسكر إليه..كان يجلسُ عند قدميه نفرٌ من علماء المسلمين.. عرفتُ منهم الشيخ ابن العز وعبد الرحمن بن خلدون..أخبروه عن قصتي..علا وجهه الغضب..أمرَ أن أجلد وأصلب..عجبتُ من اتفاقهم في أمري على مابينهم من الحرب وسفك الدماء.."
    تلاشت الاضاءة..كانت تلك آخر الكلمات في منمنمات تاريخية.
    يأتي مؤرخ قديم:..وكان الماء يتدفق في بردى بزيادة وشدة لم تعهدهما دمشق منذ سنوات طوال..
    تعاود المنمنمات سرد حكايتها:
    هي ثلاث منمنمات رئيسية ذات عناوين محددة (فصول)، يتفرع منها تفاصيل عدة (مشاهد) لكل منمنمة..تستمد مخيالها السردي المسرحي من حدث تاريخي حقيقي (803 هجري. 1400-1401 ميلادي).
    يتمثل بوصول جحافل التتار (تيمورلنك) إلى دمشق ومحاصرتها، بعد أن كان قد التهم حلب وحماه ثم حمص..
    لم يورد المراجع بأسمائها، إنما اكتفى بالاشارة الى تكرار بعد كل تفصيل (مشهد) مؤرخ قديم..ربما يكمن السبب في طريقة سعدالله ونوس بالسرد والتوجيهات المسرحية: عندما يأتي المؤرخ القديم، تظهر شخصية الحكواتي الناطق والقارئ لمصداقية ماتم قبله من عرض على الخشبة.
    وكما هو بات معروفا أن مسرح سعد الله ونوس يحاكي في الكثير من أماكنه المسرح الملحمي البريختي، بكسره للجدار الرابع، لا ستاره ولا كواليس. ولا تغيير للديكور ..
    مع الانتباه أنه لم يقتصر على محاكاة المسرح البريختي.هنا استعان بالحكواتي وشيء من خيال الظل، عندما ينفصل الممثل عن الدور:
    أحد الأمثلة خروج الشيخ التاذلي عن الدور، عندما طفح به الكيل من هروب السلطان، وتبرير ابن خلدون بقوله: "فصاحة مولاي (السلطان) أبلغُ من تعثر عباراتي، السلطان أدرى منا..".
    التاذلي يتوارى خلف الممثل يتوجه إلى الجمهور: هرب السلطان ..تركنا نحارب -لوحدنا- هذا الكافر تيمور..لذلك قررتُ خلع السلطان..".
    /المشايخ (ابن العز والنابلسي وابن مفلح) اعتبروا أن التاذلي أصابته لوثة .."مصدق حاله أن النبي زاره في منامه.."
    التاذلي كان قد روى لهم حلمه بأن النبي قد زاره وأوصاه بالدفاع عن المدينة (دمشق).
    تشعر وكأنك أمام شخصيات عدة تتنوع بهمومها وجرأتها، ما بين المتاح (المسموح)، وبين الرقابة الداخلية المسكونة بالقلق والخوف، لتلعبَ دوراً أشد من الجلاد الحقيقي..
    يعتمد أسلوب التنبيه بعبارة:
    تتلاشى الاضاءة..أحيانا يتلاشى الصوت والضوء. ليس عبثا أن تتبادل الأفعال الصيغة هنا، حيث الضوء المرتبط بالصوت..
    هل من الضروري الكلام عن المسرح الملحمي التغريبي البريخي؟
    لطالما يرنو هذا السؤال، نحو اختيار حادثة تاريخية حقيقية حصلت في الماضي، ثم عرضها مسرحيا بما هو زمن الحاضر، أي أن الحاضر يطرح السؤال على الماضي، بهذا المنحى يمكننا الدخول للأكاديميات في المنصوص عنها من التعاريف:
    قبل "الأكاديميات" سعد الله ونوس كان قد أجاب على سؤال طُرح عليه، عن تأثره بتقنيات المسرح البريختي؟
    "لا أظنُ أنّ كاتباً معاصراً لم يتأثر سلباً أو ايجاباً بالتجربة البريختية في المسرح بخاصة"..مقابلة أجراها معه رشيد بو شعير / كتابه أثر بريخت في مسرح المشرق العربي.
    النموذج البريختي حاول معالجة النص المسرحي بكل عناصره، من كتابة، وإعداد العمل للعرض..قد تجوز التسمية زعزعة اليقين السينوغرافي التقليدي (الفضاء المسرحي)، نحو مناحٍ مغايرة كلياً، بما فيها الدعوة للجمهور أن يكون "حاضر البديهة" طيلة العرض، أن لايتماهى مع العرض المسرحي (الإيهام) كما كان يحصل في المدرسة الأرسطية التقليدية، يعتمد بذلك على عدم تماهي الممثل مع الدور..
    تظهر الرغبة هنا حثيثة لدى سعدالله ونوس في هذه المسرحية: خذوا الدروس والعبر من هؤلاء الذين فرطوا بالمدينة. كان بالإمكان عدم التسليم والتغلب على الغازي..
    مع التذكير أيضاً، لا توجد ذروة للحدث، ليست لعبة تصاعدية، ربما هي أقرب للعبة المجاورة، منمنمات ثلاث تتجاور، يربطها خيط مهم: ماذا فعل القائمون على المدينة من سلطان (الناصر) المقيم في مصر، إلى كل من يقود المدينة: أمير..قضاة المذاهب الأربعة..تجار المدينة برمزهم (دلامة)..كلهم ساهموا في هذه الحالة من الضعف وعدم التمسك بالمدينة..كلهم مدانون إنما بدرجات مختلفة..سيختلف من حاول القتال:لشيخ التاذلي إثر توبته بعد "لقاء النبي المتخيل".
    وأيضاً الأمير آزدار الذي رفض تسليم القلعة إلا بعد حصار دام أربعين يوماً..
    هنا ستبدأ الفصول، ندخل العرض النصي وكأننا على خشبة المسرح، لا فواصل ونقاط بين النص وشخوصه الذين يظهرون بين المنمنمات:
    المنمنمة الأولى حملت عنوان: الهزيمة (الشيخ برهان الدين التاذلي). ثلاثة عشر تفصيل (مشهد).
    تأتي الأخبار جملة وتفصيلا: حلب انهارت ومعها حماة بيد تيمورلنك..والتعريف بقاضي قضاة المالكية الشيخ برهان الدين التاذلي: "هو من أهل النقل وليس العقل..هنا تبدأ المحاكمة للشيخ جمال الدين الشرائجي (من أهل العقل) سنتعرف إليه كحالة من الاستمرارية للقدرية والمعتزلة باختيارها العقل مقابل النقل (النص) ..
    المتفرج يتابع هذه المحاكمة التي قضت بانزال أشد العقوبات بالملاحدة والزنادقة ومن لف لفهما -وفهمكم كافي-يتوج الحكم بالتبرير المجتر على لسان التاذلي: " أن المحنة نزلت بالناس بسبب استماعهم للملحدين".
    لاتنسى صديقي المشاهد (القارئ)، أنه حصل إجماع بين المشايخ القضاة الأربعة: التاذلي، ابن العز، ابن مفلح، ابن النابلسي.
    سيكون للنابلسي وضع خاص، حيث الشرائجي كان من تلامذته..
    لماذا ترك الشرائجي شيخه النابلسي، صاحب الاتهام؟
    يعلنها بالفم الملأن: ابن النابلسي يتوه في المسائل ويستحل الأوقاف..
    جن جنون النابلسي: يصفعه كف من كعب الدست، قائلا له: "يا ثعبان الكفر والجحود.." . كان ابن العز واقفاً، ركض ركضة شاب بمقتبل العمر: فصفعه صفعة مقتدر حكيم.أما ابن مفلح فاكتفى بالقول: أيها القدري، ألم تعلم أن القدر مجوس هذه الامة..
    يأتي دور التاذلي كبير الحضور، ينطق بالحكم: خذوه واضربوه حتى تكسروا كبرياءه، ثم ارفعوه إلى سجن القلعة..
    يتبين في تفصيل (مشهد) لاحق، أن أول من "كتب تقرير" ووجهه إلى النابلسي عن الشرائجي هو:
    ابراهيم الملكاوي الذي كان على علاقة مع ياسمين زوجته للشرائجي..يقولها بصراحة: "أنا الواشي الجبان"..ياسمين "مبسوطة" من هذه الوشاية: "أنا شريكتكَ ألم يكن هوانا هو الذي فعل ذلك.."..تحاول التقرب منه..يبتعد ..يشعر أنه "مخصي" عليه أن يكفر عن هذا الذنب..كيف؟!
    "لن أعود إليكي يا ياسمين قبل أن أتطهر واسترد احترامي لنفسي..".
    /يعلق قارئ مطلع، هذا "الحكم" فيه بعض "التساهل"، إذا ما قورن، كيف تعامل الأمويون، مع (القدرية) آباء وأمهات (المعتزلة) التي ستنطلق أكثر في الزمن العباسي ..
    من أمثال: عمر المقصوص، طمروه ودفنوه حياً..الجعد بن درهم، تم قتله في عيد الاضحى، ذبحه والي العراق في منبر الجامع.
    غيلان الدمشقي، الذي قطعت يديه ورجليه قبل صلبه../
    بعد استيلاء تيمور على دمشق سيقوم أيضا بصلب الشرائجي، على خطى "الأسلاف الصالحين"..
    قبلها بدقائق سمحوا له بالكلام: يستعين بالايات القرآنية على إعمال العقل: "فاعتبروا يا أولي الأبصار.." ويتابع : "أكمل مراتب الإيمان ما تحصل بالحكمة..
    المنمنمة الثانية، حملت عنوان ابن خلدون أو محنة العلم. ثمانية من التفاصيل (المشاهد).
    هل يمكننا وضع عنوان آخر: تحطيم الصنم؟
    سيبدأ "اللعب" من طراز غير مسبوق لا نصا ولا أي شكل من العمل الدرامي، كسر التابوهات، دخول للمناطق الحمراء والصفراء وما بينهما من هوامش وتفاصيل؟
    إنه ابن خلدون الايقونة يا سيدي، مؤسس لعلم العمران والبعض من "الغلاة" يسميه مؤسس علم الاجتماع، سبق أوغست كونت وكارل ماركس وماكس فيبر؛ إن أصغينا قليلا لحواره مع تلميذه (شرف الدين) -رأي سعد الله ونوس- سوف نرى أنه حتى علم العمران اكتشافه النوعي، محط تساؤل: غياب حرية الاختيار للإنسان أمام جبروت الحتمية الطبيعية؟!
    على لسان ابن خلدون: "هؤلاء لم يعرفوا علم العمران (الفلاسفة السابقين، أفلاطون وأرسطو والفارابي)، ولم ينكشف لهم ما يطرأ عليه من العوارض الذاتية، والتغيرات الحتمية..إن للعمران قوانين ثابتة ومطردة..
    شرف الدين يطرح أسئلة أكبر من وعيه؛ ينزلق النص لجهة الكاتب وانفعاله اللامحدود من "نرجسية وغطرسة" العلامة ابن خلدون..
    شرف الدين: "أنا أعرف يا سيدي أنك جئت بعلم لم يسبقك اليه أحد..لكنني كلما قرأت فصلاً من فصول المقدمة، أشعر بالانقباض وأدركني اليأس..ماذا يبقى للناس اذا كانت ظواهر العمران لا تحدث باختيار؟..يتابع التلميذ: لا يبقى لهم إلا الخمول والجريان مع هذه الدورة الجبارة، التي تدور بهم من البزوغ الى التلاشي.."
    ببرودة أعصاب وكل هدوء: " ينتظرون ظهور المهدي..أو يرصدون نزر القيامة وميقاتها..وتسيطر عليهم عصبية جديدة أو غازية.."
    التلميذ: كما حالنا الآن يا سيدي مع تيمور..
    نعم..
    ثم تأتي الطامة الكبرى والتي جعلت التلميذ شرف الدين ينفر منه -يتركه ويغادر إلى القلعة- في البداية يقف مبرراً هروب السلطان الناصر..
    تتصاعد الكلمات نحو الشعور بالدونية أمام هذا الطاغوت: " أريد السير في ركابه..كي استكمل خبرتي..لقد سرتُ في ركاب أمراء وسلاطين لا يستحقون أن يكونوا جزمة لتيمور.."
    متفرج خرج عن طوره: لهون وصلت معك يا عالمنا وعلاّمتنا الذي نفتخر بذكره كلما هز العنب عناقيده..
    آخر قال له: طول بالك راح تشوف العجايب؛ كان قد قرأ النص قبل حضوره المسرحية..
    سوف يقوم برسم خرائط لبلاد المغرب ويسلمها لهذا الغازي؟
    تلبية لرغبة تيمور، الذي طلب منه ذلك؛ فهو من أهل تلك الديار (المغرب)..
    ربما البعض يتحفظ كثيرا على هذا الحوار بين ابن خلدون والتلميذ، ثم سيسأل: هل هذا التلميذ لديه هذا الوعي المتقدم؟
    أم هي فكرة مسبقة، تشكلت بزمن الكتابة (الحاضر)، دون أية مسوغات أو مبررات، دفعت بابن خلدون لهذا الموقف.؟
    المنمنمة الثالثة: آدار أمير القلعة أو المجزرة
    اثني عشر تفصيلاً، ثم تفصيل أخير: (الشرائجي المصلوب).
    القلعة في مرحلتها الاخيرة، بقي من بقي، عساكر التتار تعلن "بربريتها" شيئاً فشيئاً، على المدينة (دمشق)؛ ربما تنتظر ساعة التسليم الكامل للقلعة، ويكشر أميرهم تيمور، عن أنيابه فتكا وذبحا واغتصابا للنساء وحتى الأطفال؟
    عند كل غزو أو سيطرة لقوة غاشمة وأحيانا "وديعة" ، يأتي الاغتصاب مقدمة التعبير عن "الفتح": يحملون كبتهم ساعات القتال، ينفلت عقالهم "الشبقي" على العزّل، الذين لاحول لهم ولاقوة..لطالما يغدو "الانتصاب" علامة "الانتصار"..
    -"كان الرجل المعذب يرى امرأته أو ابنته وهي توطأ..وولده وهو يلط به.."-
    في ظل هذا "التوجس" والقلق، يأتيكّ الشيخ ابن العز، يخطب من الجامع الأموي خطبة "عصماء" يردد ذلك المأثور الديني: "أطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم..".
    العساكر التتار يستمعون كما غيرهم..يسمعون كلمة آمين.. يرددونها بلغتهم الخاصة: آمين..دون الانتباه ان هناك حرف ياء ..
    ثم يتوجه للغائب الحاضر تيمور: اللهم وفق تيمور..وافتح له العبادة..اللهم انصره على أعدائه.."
    "شعبان المجذوب يشهق بالبكاء..يمه..يمه هاته صدركِ يمه.."
    هذه المنمنمة التي تروي في أهم مفاصلها حوار الأمير آزدار مع معاونه شهاب الدين.
    الأمير باعتباره آخر بقايا السلطة "الدمشقية" في هذه القلعة، التي تنتهك أسوارها من كل صوب وحدب: لن يقتصر ذلك على تيمور.
    سيأتي للقلعة ابن النابلسي و ابن الطيب، كي يقنعان الأمير بالتسليم "بقضاء الله وقدره"!!
    يعلو صوت الأمير: "أتريدون أن أشاطركم الخزي الذي تتمرغون فيه؟
    استفزهما السؤال..يقوم بالرد ابن الطيب:
    "ألم يخطر ببالك أيها الامير أن تتساءل عمن رمانا تحت أقدام العدو؟
    تقول أننا بلا حياء، ولكن من الذي قتل حياءنا؟
    أليس هو السلطان (الهارب) الذي تحمل رايته؟
    ألم تقتل أنتَ حياءنا..ألم تجعلنا أغراباً في مدينتنا لأننا نخالفك الرأي؟"
    يستمر الحوار والأمير صامت..لربما أتته ساعة صحو وهو الآن قاب قوسين من الاقتناع أن القلعة ستسقط..
    لم يظهر النص ذلك الشعور من الأمير أنه أخطأ يوما ما..
    هذا الاقتباس سيرينا مدى سعة أفق النص بترك مساحة للتفسير حتى لمثل من حمل لواء الاستسلام (ابن الطيب وابن النابلسي)..
    سيظهر الجانب الآخر من شخصية الأمير، الذي يهوى الاستبداد كمثل غيره الكثيرين ممن اعتلوا العرش أو متراسه.
    حوار بين آزدار ومعاونه شهاب الدين:
    آزدار: إني أقاتل من أجل الدولة التي أنتمي إليها..أعطتني مركزي..
    شهاب الدين: إن الدولة شيء والأمة أو النظام شيء آخر
    -يظهر صوت المتكلم الكاتب خلف الحوار بصيغة الحاضر (نهاية القرن العشرين) زمن الكتابة-
    آزدار: "إننا النظام..نقاتل لكي نبرهن أن النظام لم يتداعِ..
    شهاب الدين: يراودني الأمل بأننا نقاتل لكي نبتكر نظام جديد..
    -يظهر أكثر جلياً صوت سعد الله ونوس على لسان شهاب الدين-
    /ملحوظة صغيرة هنا: تشعر وأنت تصغي لهذا الحوار، ان الماضي يشتبك مع الحاضر ليخرج المستقبل حاملاً نفس "اللكنات"../
    وأشد المشاهد تراجيدية ، موكب الامير آزدار بعد التسليم:
    على لسان مؤرخ قديم؛ يصغي الجمهور ومعهم الممثلين والمخرج والكاتب الغائب، لهذا المؤرخ (الحكواتي):
    "بعد أربعين يوما من الحصار..بعد استحالة المقاومة سلم الأمير قلعته..
    كان موكبه أمراً عجباً..يتقدمهم يحاول الانتصاب.."
    -منتصب القامة أمشي-
    يقف بين يدي تيمور، وتبدأ مرحلة الاذلال كما تجري العادة بين المنتصر والمهزوم، خاصة أن هذا المنتصر (تيمور) يحمل حقدا دفيناًعلى الأمير، ربما هو والشيخ التاذلي ومعه بعض فقراء أهل المدينة (حي الشاغور). ممن قال لن يدخل تيمور إلا على أجسادنا..
    يمسك به تيمور ويقول له: "فإن قتلك مرة واحدة لا يشفي غليلي"
    يلجأ لاسلوب بربري عتيق في القتل البطيء : "قيده بقيد زنته سبعة أرطال ونصف.."
    ثم يترك في العراء؛ "ولم يعرف له خبر"
    هل يمكننا الآن الوقوف مع هذه السردية المسرحية -دونا عن دلالة العنوان- حيث قُدمتْ الكثير من الدراسات الاكاديمية بصيغة دلالية سيميائية عن هذه المسرحية، والتي اقتضت قبل الولوج للنص الوقوف مع رمزية المنمنمة وما تحمله من دلالة تاريخية، ثم جمعها جمع مؤنث سالم (منمنمات) ان لاتبقى معلقة بالهواء، إنما بالتاريخ..
    على أهمية تلك الدراسات.
    دعونا نعمل "خلطة"، بحيث نلفت الانتباه لهذا السرد، بتعدد أصواته : عندما يتكلم أحمد ومروان ومعهما خديجة زوجة مروان (أبناء الشاغور)، تتنحى الفصحى المقعرة لجهة اللهجة الدارجة (حرمة..متل الضراط عالبلاط..).
    لغة القضاة (المشايخ) هي نفسها صباح مساء في الجامع وفي البيت: مسكونة بالمفردات الدينية.
    طبيعي أن تختلف اللغة مع الأمير ومعاونه، والاكثر وضوحا لغة ابن خلدون وتلميذه..
    والاهم من هذه التعددية، حالة العمق في النظر للشخصيات بكل أبعادها: ليس هناك رجم مسبق حتى لمن فاوض وسلم المدينة دون مقاومة (ابن مفلح، ابن النابلسي، ابن العز، ابن الطيب).سنجد في أماكن أخرى لماذا هم بهذه الحالة ومن أوصلهم: (تم ذكر "الملاسنة بين ابن الطيب والأمير آزدار).
    أما تلك الحالة "النضالية" للشيخ التاذلي والأمير آزدار، فهي أيضا ليست نبيلة الدوافع على طول الخط، كما ألفنا بقراءات أخرى تعظم من "المقاتل والشهيد"..
    فقط ابن خلدون لم نجد له مسوغاً، أو جانب آخر من الشخصية: الناس تقتل من حواليه وهو يفكر فقط بالنجاة حتى لو كانت على جثث أهل المدينة..
    هل هي صدفة وجود شخصية شعبان المجذوب، وعند كل مأزق جديد يردد: "يمه هاتي بزك يمه..جوعان يمه..".
    وبعد أن تتلاشى الاضاءة، تجد نهر بردى رمز مدينة دمشق وحواريها..
    يبقى السؤال الأخير: هل من حق الكاتب "لوي" عنق التاريخ/ الماضي بما يخدم الحاضر وتوجهاته الفكرية؟
    لطالما تفترش الاجابة لها حيزها بالقول: للحادثة التاريخية عنوانها ولغتها في الكتب والسيَر المدرسية.
    أما السرد الادبي فهو يحاكي تلك الحادثة لكن بافتراضات كامنة بين سطور الحكاية الاصلية، يُظهر المخبوء والمستور منها، يظهر وكأنها واقعة كانت قيد مسكونات مخيال جمعي لاشعوري.
    Nassar Yahia
يعمل...
X