"الفسيفسائي" رواية أولى لكاتبها تنافس على الجائزة العالمية للرواية العربية
الروائي المغربي عيسى ناصري لـ"العرب": حاولت تصحيح الصورة النمطية للغرب عن المغرب.
الثلاثاء 2024/02/20
ShareWhatsAppTwitterFacebook
عقدت لقاء بين الأنا والآخر وأعليت من صوت التسامح
هناك البعض من الروائيين الذين يتمكنون من تحقيق النجاح الاستثنائي من عملهم الروائي الأول. وكثير من الجوائز المرموقة التي توجت بها أعمال أولى، أو كانت في قائمتها القصيرة، حققت لكتابها نقلة نوعية. من هؤلاء الكاتب المغربي عيسى ناصري الذي تنافس روايته الأولى “الفسيفسائي” على واحدة من أهم الجوائز العربية. “العرب” كان لها معه هذا الحوار حول عمله الأول.
الرباط – “الفسيفسائي” رواية من تأليف القاص المغربي عيسى ناصري، تقسم إلى ثلاثة أقسام. يروي الأول فترة الاحتلال الروماني للمغرب وصناعة الفسيفساء بأيدي الموريين المقاومين، ويحكي الثاني عن بحث الكاتبة الأميركية أريادنا عن لوحة فسيفساء مفقودة، وتورطها في قصة حب مع جواد، أما القسم الثالث فيشمل مذكرات طبيبة نفسية حول مرضاها وحياتهم في سياق تاريخي وثقافي معقد، إذ إن الرواية تقدم نظرة متشعبة حول الماضي والحاضر، وتثير أسئلة حول الهوية والحرية والحب والذاكرة.
وبلغ الروائي المغربي عيسى ناصري القائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية للرواية العربية، لعام 2024، من خلال روايته الأولى “الفسيفسائي” في مساره الأدبي.
الأنا والآخر
عيسى ناصري توسل بفن الفسيفساء للتعبير عن تمجيد الحرية والتسامح والتعايش بين الأنا والآخر وإدانة الاضطهاد
يقول عيسى ناصري في حديثه مع “العرب” عن الدافع لاختياره مواقع مغربية مثل وليلي ومكناس ومولاي إدريس زرهون مسرحا لأحداث روايته “اخترتها أولا لتقاربها جغرافيا، وثانيا لما تحمله من غنى حضاري، فمدينة وليلي بموقعها الأثري الأشهر وأطلالها وفسيفسائها وبقايا أبنيتها، تقف شاهدة على تاريخ غزو الرومان لموريتانيا الطنجية في القرن الأول الميلادي، ومولاي إدريس زرهون كانت مقر حُكم أول دولة إسلامية بالمغرب، ومكناس عاصمة المملكة المغربية في عهد السلطان مولاي إسماعيل، فهذه كلها شكلت فضاءات مكانية غنية تحمل ذاكرة خصيبة وثقلا حضاريا وتاريخيا أستفادتْ منهما الرواية كثيرا”.
ويمثل فن الفسيفساء محورا أساسيا في الرواية، وقد قام عيسى ناصري باستحضاره لهذا الفن القديم موضحا “الفسيفساء من أقدم الفنون التصويرية التي عرفها السومريون والرومان ثم البيزنطيون، إذ يقوم على ترصيف حصيات أو مكعبات على أسطح مستوية لتشكيل مشاهد ولوحات تُزين بها الأرضيات والجدران، وقد استلهمت الفسيفساء الرومانية القديمة في روايتي، لدواع ثلاثة؛ أولا، بالنظر لما يحمله هذا الفن من جمالية وإبداع أصيل ناطق برهافة ذوق القدامى وعمق إحساسهم بالتناسق والجمال، وثانيا باعتبار اللوحات الفسيفسائية القديمة حمالة تاريخ وحضارة بائدة، وثالثا، باعتبار التشكيل الفسيفسائي يمكن محاكاته في فن السرد والكتابة الروائية، إذ جعلت معمار الرواية يقوم على أساس بنية سردية فسيفسائية دالة وموحية”.
وكان لثنائية الأنا والآخر حضور وازن في رواية “الفسيفسائي”، كما قاربها المؤلف بالصراعات القديمة بين الموريين المغاربة والرومان الغزاة وقد عبر عن هذا بقوله “الأنا في الرواية يمثله مغاربة تسعينات القرن العشرين، من جهة، والموريون في القرن الأول من جهة ثانية، بينما الآخر يمثله المستعمر الفرنسي في القرن العشرين، والرومان في القرن الأول، ورغم الفجوة الزمنية العريضة الممتدة بين الحقبتين نجد أن علاقة الطرفين واحدة لا تكاد تتغير، هي علاقة يغلب عليها الصراع، صراع اتخذ تمظهرات وأبعادا عرقية وثقافية وهوياتية فامتد بتبعاته إلى حاضرنا”.
ويتابع “هذا ما كرس نوعا من النظرة الدونية عند الآخر الذي استعمرنا ولا يزال يستعمرنا بثقافته ولغته واقتصادياته، فنظرة دونية ارتبطت بتفوق استعماري وتقدم حضاري كاسح، إذ أرى هذا التفوق التاريخي والحضاري إن لم يكن عُقدة تفوق، فلا يمنع أبدا من إقامة حوار حضاري وتحقيق اندماج بين ثقافة الأنا والآخر، وهو ما انتصرتُ له في الرواية، إذ عقدت لقاء بين الأنا والآخر وأعليتُ من صوت التسامح والتعايش والانفتاح”.
الرواية تعتمد على التشظي والتمرد على الوحدة محطمة مبدأ الإيهام بالواقعية في عالم تشوبه الفوضى
وتعامل الروائي المغربي في روايته مع مسألة الحرية والاضطهاد حيث أشار إلى ذلك بقوله “اللوحة الفسيفسائية النواة التي صنعها الفتى الموري أيدمون، هي اللوحة الجسر التي أتاحت لي أن أربط الماضي البعيد بالحاضر القريب، حملتُها شيئا من أحلام الموريين بالحرية، إذ إن اللوحة تترجم فكرة التوق إلى الحرية، تعبر عن رفض الموريين لكل أشكال الاستبداد والقهر اللذين أكلا من أجسادهم ومن أرواحهم”.
هكذا توسل عيسى ناصري بفن الفسيفساء للتعبير عن تمجيد الحرية وإدانة الاضطهاد، “وبين الاثنين أعليتُ صوت المقاومة، ذلك أن الموريين لم يكونوا لقمة سائغة في متناول المستعمر الدخيل، حيث قاوموه بجسارة وشكلوا تحالفات قبلية فألحقوا به هزائم وكبدوه خسائر، فلجأ إلى تدعيم صفوفه بفيالق إضافية كما نرى في بداية مخطوطة ‘الفتى الموري'”.
ويبين أن الاضطهاد تمثل في أشكال الردع والعقاب والإدانة والإهانة التي حرص المحتل على إلحاقها بالأسرى والمساجين والسكان الأصليين، ومن أشكال هذا الردع، كما صورته الرواية، عروض الإدانة بالوحوش، التي كانت بمثابة دروس في إخضاع الثوار وتركيعهم.
وفي حديثنا عن التوازن الذي حاول الكاتب تحقيقه بين الثقافة المحلية والثقافة الأجنبية في روايته يقول “حاولت أن أصحح تلك الصورة النمطية التي يسوق لها الإعلام الغربي في ربورتاجاته وأفلامه وآدابه عن المغرب باعتباره بلدا غارقا في بداوته، بلدا لا ينتج سوى التزمت والفولكلور مع خشونة مقيمة في طباع أهاليه. وبالمقابل روجتُ لمغرب مثقف يقرأ، مغرب المثقفين والفنانين ومتذوقي الفنون، بلد المواهب والكتاب المُجيدين، بلد منفتح على الثقافات الأخرى، بلد التعدد الثقافي والحضاري الذي انصهرت فيه روافد ثقافات متعددة، عربية صحراوية أمازيغية أندلسية متوسطية وأفريقية”.
تسأل “العرب” ناصري عن كيفية رسمه صورة للعلاقات الإنسانية بين الشخصيات المغربية المورية والرومانية والأميركية في روايته، ليجيبنا “نسجت بين هؤلاء الأطراف علاقات يغلب عليها الطابع الإنساني، إذ أقمتُ علاقة حب بين موري ورومانية، ومتنتُ صداقات ندية بين أميركيين ومثقفين مغاربة، وجهتُ العدالة، بقلم السارد الأعلى، للقبض على مغربي أجرم في حق كاتبة أميركية، رفعتُ من قيمة الكتابة والفن باعتبارهما أداتين مُثلييْن لتعميق هذه العلاقات الإنسانية وإعلاء صوت التسامح والتعايش بين أطراف هذه العلاقات”.
أساليب فنية
تمجيد الحرية وإدانة الاضطهاد
أما حديثنا عن التأثير الذي يرغب في أن تتركه روايته على القارئ بخصوص قضايا الحضارة والجمال وفن الكتابة، فيوضح ناصري “بخصوص الحضارة، أريد من القارئ أن يعرف أن في المغرب تعددا حضاريا وتنوعا ثقافيا تمتد جذوره إلى القرن الأول وقبله، وأن في هذا البلد أنواعا متعددة من التراث المعترف به والمدرج ضمن قوائم التراث الإنساني العالمي”.
ويتابع “بخصوص قضايا الجمال، أروم أن أجعل هذا القارئ يتذوق الفسيفسائيات القديمة، وينظر إليها برؤية فنية جديدة، في محاولة للقبض على أبعاد الجمال النائم بين حصياتها. أما بخصوص قضايا الكتابة الروائية، فأريد من القارئ أن يختبر قراءة الأعمال الروائية المتوسِلة بجماليات التفكيك والتشظي في السرد، ليتساءل عن مغزى تفكيك الوحدات النصية وتنافرها وتجاورها، وعلاقة ذلك بظواهر العالم التي تتصف بالغموض والفوضى”.
وتناول الروائي المغربي قضية نهب الآثار المغربية مسلطا الضوء على هذا الجانب من التاريخ، حيث يفسر هذا موضحا “سرقة الآثار موضوع قديم حاضر بقوة في الآداب العالمية، إذ تحدثت في الرواية عن سرقة ألواح فسيفسائية وتحف وتماثيل في عهد الاستعمار الفرنسي وبعيده، فأبرز السرقات نهب تمثال باخوس الذي أقام الدنيا ولم يقعدها، كما توقفت عند ملابسات هذه السرقة للتساؤل عما تحمله من أبعاد ودلالات، وقد وجدت فكرة ‘سرقة الأثر’ تعطي الروائي إمكانات التحري والبحث والتقصي، ما يفتح الرواية على غموض ملتبس واحتمالات وأسرار وألغاز تولد التشويق”. ويضيف “جعلت موضوع سرقة الآثار، في نص الرواية، يسير جنبا إلى جنب مع سرقة أخرى هي السرقة الأدبية، فكما سُرقت قِطع اللوحة الفسيفسائية النواة، ستُسرق المخطوات الثلاث المشكلة للرواية الجامعة”.
وفي نقاشنا عن الجوانب الفنية والجمالية في روايته، وكيف تعزز هذه العناصر تفسيره الفني للعالم، يشير عيسى ناصري إلى أن “في ما يخص قضايا الكتابة، توسلت بجماليات التفكيك والتشظي في السرد بدلا من جماليات الوحدة والتماسك، وهذا التفكيك ملمح من السرد الفسيفسائي الذي يعتبر من أنماط السرد الذي قامت عليه الرواية الجديدة، وهذا النمط من السرد من مواصفاته أيضا، تداخل الأزمنة والأمكنة وتعدد الذات وتحولاتها، وكذلك تعدد مستويات اللغة وتنوع نسيجها، مع هيمنة الوصف”.
وهناك تقنية أخرى في “الفسيفسائي”، تم اعتمادها في الروايات التي تمثلت وعي ما بعد الحداثة، هي تقنية الميتاسرد أو السرد الواعي بذاته الذي يتخذ من الكتابة وكشف ألاعيبها موضوعا له، إضافة إلى تقنية الكولاج الروائي أي إلصاق نصوص وتقارير صحفية وقصائد وأغان وإقحامها في متن المحكي.
يقول عيسى ناصري “الاعتماد على التفكيك والتشظي والتمرد على الوحدة والتماسك، وتحطيم مبدأ الإيهام بالواقعية، معناه أن العالم يتصف بالارتباك والغموض والفوضى، وأن ظواهره الغامضة والمتعددة والفوضوية عصية على الفهم والتحليل، لذلك فمهمة الرواية عندي ليست تقديم حقائق ومُسلمات ودفْع القارئ إلى توهم الحقيقة، بل مهمتها تكمن في تجسيد رؤية لا يقينية للعالم، تجسيد رؤية فنية تعكس التشظي والشتات والحيرة والتيه والغموض الذي لف هذا العالم ودمغ ظواهره المتنافرة والمبعثرة والفوضوية”.
الروائي المغربي عيسى ناصري لـ"العرب": حاولت تصحيح الصورة النمطية للغرب عن المغرب.
الثلاثاء 2024/02/20
ShareWhatsAppTwitterFacebook
عقدت لقاء بين الأنا والآخر وأعليت من صوت التسامح
هناك البعض من الروائيين الذين يتمكنون من تحقيق النجاح الاستثنائي من عملهم الروائي الأول. وكثير من الجوائز المرموقة التي توجت بها أعمال أولى، أو كانت في قائمتها القصيرة، حققت لكتابها نقلة نوعية. من هؤلاء الكاتب المغربي عيسى ناصري الذي تنافس روايته الأولى “الفسيفسائي” على واحدة من أهم الجوائز العربية. “العرب” كان لها معه هذا الحوار حول عمله الأول.
الرباط – “الفسيفسائي” رواية من تأليف القاص المغربي عيسى ناصري، تقسم إلى ثلاثة أقسام. يروي الأول فترة الاحتلال الروماني للمغرب وصناعة الفسيفساء بأيدي الموريين المقاومين، ويحكي الثاني عن بحث الكاتبة الأميركية أريادنا عن لوحة فسيفساء مفقودة، وتورطها في قصة حب مع جواد، أما القسم الثالث فيشمل مذكرات طبيبة نفسية حول مرضاها وحياتهم في سياق تاريخي وثقافي معقد، إذ إن الرواية تقدم نظرة متشعبة حول الماضي والحاضر، وتثير أسئلة حول الهوية والحرية والحب والذاكرة.
وبلغ الروائي المغربي عيسى ناصري القائمة القصيرة لجائزة البوكر العالمية للرواية العربية، لعام 2024، من خلال روايته الأولى “الفسيفسائي” في مساره الأدبي.
الأنا والآخر
عيسى ناصري توسل بفن الفسيفساء للتعبير عن تمجيد الحرية والتسامح والتعايش بين الأنا والآخر وإدانة الاضطهاد
يقول عيسى ناصري في حديثه مع “العرب” عن الدافع لاختياره مواقع مغربية مثل وليلي ومكناس ومولاي إدريس زرهون مسرحا لأحداث روايته “اخترتها أولا لتقاربها جغرافيا، وثانيا لما تحمله من غنى حضاري، فمدينة وليلي بموقعها الأثري الأشهر وأطلالها وفسيفسائها وبقايا أبنيتها، تقف شاهدة على تاريخ غزو الرومان لموريتانيا الطنجية في القرن الأول الميلادي، ومولاي إدريس زرهون كانت مقر حُكم أول دولة إسلامية بالمغرب، ومكناس عاصمة المملكة المغربية في عهد السلطان مولاي إسماعيل، فهذه كلها شكلت فضاءات مكانية غنية تحمل ذاكرة خصيبة وثقلا حضاريا وتاريخيا أستفادتْ منهما الرواية كثيرا”.
ويمثل فن الفسيفساء محورا أساسيا في الرواية، وقد قام عيسى ناصري باستحضاره لهذا الفن القديم موضحا “الفسيفساء من أقدم الفنون التصويرية التي عرفها السومريون والرومان ثم البيزنطيون، إذ يقوم على ترصيف حصيات أو مكعبات على أسطح مستوية لتشكيل مشاهد ولوحات تُزين بها الأرضيات والجدران، وقد استلهمت الفسيفساء الرومانية القديمة في روايتي، لدواع ثلاثة؛ أولا، بالنظر لما يحمله هذا الفن من جمالية وإبداع أصيل ناطق برهافة ذوق القدامى وعمق إحساسهم بالتناسق والجمال، وثانيا باعتبار اللوحات الفسيفسائية القديمة حمالة تاريخ وحضارة بائدة، وثالثا، باعتبار التشكيل الفسيفسائي يمكن محاكاته في فن السرد والكتابة الروائية، إذ جعلت معمار الرواية يقوم على أساس بنية سردية فسيفسائية دالة وموحية”.
وكان لثنائية الأنا والآخر حضور وازن في رواية “الفسيفسائي”، كما قاربها المؤلف بالصراعات القديمة بين الموريين المغاربة والرومان الغزاة وقد عبر عن هذا بقوله “الأنا في الرواية يمثله مغاربة تسعينات القرن العشرين، من جهة، والموريون في القرن الأول من جهة ثانية، بينما الآخر يمثله المستعمر الفرنسي في القرن العشرين، والرومان في القرن الأول، ورغم الفجوة الزمنية العريضة الممتدة بين الحقبتين نجد أن علاقة الطرفين واحدة لا تكاد تتغير، هي علاقة يغلب عليها الصراع، صراع اتخذ تمظهرات وأبعادا عرقية وثقافية وهوياتية فامتد بتبعاته إلى حاضرنا”.
ويتابع “هذا ما كرس نوعا من النظرة الدونية عند الآخر الذي استعمرنا ولا يزال يستعمرنا بثقافته ولغته واقتصادياته، فنظرة دونية ارتبطت بتفوق استعماري وتقدم حضاري كاسح، إذ أرى هذا التفوق التاريخي والحضاري إن لم يكن عُقدة تفوق، فلا يمنع أبدا من إقامة حوار حضاري وتحقيق اندماج بين ثقافة الأنا والآخر، وهو ما انتصرتُ له في الرواية، إذ عقدت لقاء بين الأنا والآخر وأعليتُ من صوت التسامح والتعايش والانفتاح”.
الرواية تعتمد على التشظي والتمرد على الوحدة محطمة مبدأ الإيهام بالواقعية في عالم تشوبه الفوضى
وتعامل الروائي المغربي في روايته مع مسألة الحرية والاضطهاد حيث أشار إلى ذلك بقوله “اللوحة الفسيفسائية النواة التي صنعها الفتى الموري أيدمون، هي اللوحة الجسر التي أتاحت لي أن أربط الماضي البعيد بالحاضر القريب، حملتُها شيئا من أحلام الموريين بالحرية، إذ إن اللوحة تترجم فكرة التوق إلى الحرية، تعبر عن رفض الموريين لكل أشكال الاستبداد والقهر اللذين أكلا من أجسادهم ومن أرواحهم”.
هكذا توسل عيسى ناصري بفن الفسيفساء للتعبير عن تمجيد الحرية وإدانة الاضطهاد، “وبين الاثنين أعليتُ صوت المقاومة، ذلك أن الموريين لم يكونوا لقمة سائغة في متناول المستعمر الدخيل، حيث قاوموه بجسارة وشكلوا تحالفات قبلية فألحقوا به هزائم وكبدوه خسائر، فلجأ إلى تدعيم صفوفه بفيالق إضافية كما نرى في بداية مخطوطة ‘الفتى الموري'”.
ويبين أن الاضطهاد تمثل في أشكال الردع والعقاب والإدانة والإهانة التي حرص المحتل على إلحاقها بالأسرى والمساجين والسكان الأصليين، ومن أشكال هذا الردع، كما صورته الرواية، عروض الإدانة بالوحوش، التي كانت بمثابة دروس في إخضاع الثوار وتركيعهم.
وفي حديثنا عن التوازن الذي حاول الكاتب تحقيقه بين الثقافة المحلية والثقافة الأجنبية في روايته يقول “حاولت أن أصحح تلك الصورة النمطية التي يسوق لها الإعلام الغربي في ربورتاجاته وأفلامه وآدابه عن المغرب باعتباره بلدا غارقا في بداوته، بلدا لا ينتج سوى التزمت والفولكلور مع خشونة مقيمة في طباع أهاليه. وبالمقابل روجتُ لمغرب مثقف يقرأ، مغرب المثقفين والفنانين ومتذوقي الفنون، بلد المواهب والكتاب المُجيدين، بلد منفتح على الثقافات الأخرى، بلد التعدد الثقافي والحضاري الذي انصهرت فيه روافد ثقافات متعددة، عربية صحراوية أمازيغية أندلسية متوسطية وأفريقية”.
تسأل “العرب” ناصري عن كيفية رسمه صورة للعلاقات الإنسانية بين الشخصيات المغربية المورية والرومانية والأميركية في روايته، ليجيبنا “نسجت بين هؤلاء الأطراف علاقات يغلب عليها الطابع الإنساني، إذ أقمتُ علاقة حب بين موري ورومانية، ومتنتُ صداقات ندية بين أميركيين ومثقفين مغاربة، وجهتُ العدالة، بقلم السارد الأعلى، للقبض على مغربي أجرم في حق كاتبة أميركية، رفعتُ من قيمة الكتابة والفن باعتبارهما أداتين مُثلييْن لتعميق هذه العلاقات الإنسانية وإعلاء صوت التسامح والتعايش بين أطراف هذه العلاقات”.
أساليب فنية
تمجيد الحرية وإدانة الاضطهاد
أما حديثنا عن التأثير الذي يرغب في أن تتركه روايته على القارئ بخصوص قضايا الحضارة والجمال وفن الكتابة، فيوضح ناصري “بخصوص الحضارة، أريد من القارئ أن يعرف أن في المغرب تعددا حضاريا وتنوعا ثقافيا تمتد جذوره إلى القرن الأول وقبله، وأن في هذا البلد أنواعا متعددة من التراث المعترف به والمدرج ضمن قوائم التراث الإنساني العالمي”.
ويتابع “بخصوص قضايا الجمال، أروم أن أجعل هذا القارئ يتذوق الفسيفسائيات القديمة، وينظر إليها برؤية فنية جديدة، في محاولة للقبض على أبعاد الجمال النائم بين حصياتها. أما بخصوص قضايا الكتابة الروائية، فأريد من القارئ أن يختبر قراءة الأعمال الروائية المتوسِلة بجماليات التفكيك والتشظي في السرد، ليتساءل عن مغزى تفكيك الوحدات النصية وتنافرها وتجاورها، وعلاقة ذلك بظواهر العالم التي تتصف بالغموض والفوضى”.
وتناول الروائي المغربي قضية نهب الآثار المغربية مسلطا الضوء على هذا الجانب من التاريخ، حيث يفسر هذا موضحا “سرقة الآثار موضوع قديم حاضر بقوة في الآداب العالمية، إذ تحدثت في الرواية عن سرقة ألواح فسيفسائية وتحف وتماثيل في عهد الاستعمار الفرنسي وبعيده، فأبرز السرقات نهب تمثال باخوس الذي أقام الدنيا ولم يقعدها، كما توقفت عند ملابسات هذه السرقة للتساؤل عما تحمله من أبعاد ودلالات، وقد وجدت فكرة ‘سرقة الأثر’ تعطي الروائي إمكانات التحري والبحث والتقصي، ما يفتح الرواية على غموض ملتبس واحتمالات وأسرار وألغاز تولد التشويق”. ويضيف “جعلت موضوع سرقة الآثار، في نص الرواية، يسير جنبا إلى جنب مع سرقة أخرى هي السرقة الأدبية، فكما سُرقت قِطع اللوحة الفسيفسائية النواة، ستُسرق المخطوات الثلاث المشكلة للرواية الجامعة”.
وفي نقاشنا عن الجوانب الفنية والجمالية في روايته، وكيف تعزز هذه العناصر تفسيره الفني للعالم، يشير عيسى ناصري إلى أن “في ما يخص قضايا الكتابة، توسلت بجماليات التفكيك والتشظي في السرد بدلا من جماليات الوحدة والتماسك، وهذا التفكيك ملمح من السرد الفسيفسائي الذي يعتبر من أنماط السرد الذي قامت عليه الرواية الجديدة، وهذا النمط من السرد من مواصفاته أيضا، تداخل الأزمنة والأمكنة وتعدد الذات وتحولاتها، وكذلك تعدد مستويات اللغة وتنوع نسيجها، مع هيمنة الوصف”.
وهناك تقنية أخرى في “الفسيفسائي”، تم اعتمادها في الروايات التي تمثلت وعي ما بعد الحداثة، هي تقنية الميتاسرد أو السرد الواعي بذاته الذي يتخذ من الكتابة وكشف ألاعيبها موضوعا له، إضافة إلى تقنية الكولاج الروائي أي إلصاق نصوص وتقارير صحفية وقصائد وأغان وإقحامها في متن المحكي.
يقول عيسى ناصري “الاعتماد على التفكيك والتشظي والتمرد على الوحدة والتماسك، وتحطيم مبدأ الإيهام بالواقعية، معناه أن العالم يتصف بالارتباك والغموض والفوضى، وأن ظواهره الغامضة والمتعددة والفوضوية عصية على الفهم والتحليل، لذلك فمهمة الرواية عندي ليست تقديم حقائق ومُسلمات ودفْع القارئ إلى توهم الحقيقة، بل مهمتها تكمن في تجسيد رؤية لا يقينية للعالم، تجسيد رؤية فنية تعكس التشظي والشتات والحيرة والتيه والغموض الذي لف هذا العالم ودمغ ظواهره المتنافرة والمبعثرة والفوضوية”.