رسم يصور أحد مشاهد الرواية ضمن كتاب ألن بو (أمازون)
آلن بو اخترع "الرواية البوليسية" ليموت هو وسط ظروف ملغزة
أكثر أنواع الأدب وضوحاً في التعاطي مع صورة الإنسان بين ارتباكه والتزامه منطقه العقلي
إبراهيم العريس باحث وكاتب
الخميس 15 فبراير 2024م
منذ عقود من السنين وبفضل كتاب ومفكرين كبار أعادوا إليه اعتباره، لم يعد الأدب البوليسي أدباً ثانوياً، ولم تعد شعبيته ورواجه يشتغلان ضده في نظر النخبة. فإذا أضفنا إلى هذا أن السينما ثم التلفزة، قد أسهمتا في نشره إلى حد كبير، يمكننا أن نفترض أن القرن الـ20 كان، إلى أمور أخرى، عصر ازدهار الأدب البوليسي. ومع هذا نعرف أن هذا الأدب لم يولد في القرن الـ20، بل قبل ذلك بزمن بعيد، وربما يكونون مصيبين أولئك الذين يعودون به إلى أسطورة أوديب. غير أن ما يجب التوقف عنده هنا هو أن الأدب البوليسي الحديث، بطابعه العقلاني الصرف واعتماده فن المنطق لحل الألغاز التي تشكل جوهره، ولد في القرن 19، الذي شهد أقسى درجات ازدهار العقلانية في الفكر الإنساني، فلسفة ورسماً وأدباً وشعراً. ولقد رأى كثر من الباحثين أن الأدب البوليسي كان المكان الذي تجلت فيه العقلانية أكثر من أي مكان آخر، لأن هذا الأدب في طبيعته يفترض اللجوء إلى التحليل المنطقي، وتحديداً لإيصال حبكات تبدو، أول الأمر، وكأنها أبعد ما تكون عن المنطق. وإذا كان للأدب البوليسي الرفيع أقطابه الكبار الذين توارثوه وبدت أعمالهم نابعة من بعضها البعض، ودخل أبطالهم (من أمثال شرلوك هولمز وهركول بوارو) الأسطورة، فإن ما يمكن أن يقال في هذا السياق هو أن الأبوة الشرعية لهذا النوع الأدبي، تعود إلى واحد من أكبر الشعراء في تاريخ الأدب الأميركي، ومن أكبر الشعراء العالميين: إدغار ألن بو.
رواية رائدة:
فعلى رغم أن هذا الأمر يكاد يكون عصياً على التصديق بالنسبة إلى محبي الشعر الصرف والأدب الراقي، يجمع مؤرخو الأدب البوليسي على أن ألن بو هو الذي كانت البداية على يديه، وتحديداً عبر رواية كتبها ذات شهر سئم فيها، وشاء أن يجعل باريس ميداناً لها. وهذه الرواية الغريبة الرائدة، سرعان ما تلقفها القراء، ولكن أيضاً الكتاب، الذين راحوا يسيرون على منوالها ويكتبون، ولا يزالون حتى اليوم، أعمالاً تبتعد أو تقترب منها، لكنها تدين إليها بالريادة. وهي "الجريمة المزدوجة في شارع المشرحة". فمع هذه الرواية التي كتبها إدغار ألن بو في بداية أربعينيات القرن قبل الماضي، ولد الأدب البوليسي الحديث... وأكثر من هذا: ولدت قوانينه وقواعده. أما الحكاية فتبدأ في باريس ذات ليلة من ليالي عام 1841. حيث عند الثالثة قبل الفجر يسمع أهل الحي في شارع المشرحة، همهمات وصراخاً غريباً مرعباً، آتية من شقة في الطابق الرابع من بناية قديمة، وهي شقة تسكنها أرملة عجوز وابنتها. ويهرع الناس لرؤية ما يحدث ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه ويدفعون الباب المغلق من الداخل بإحكام، ليجابهوا مشهداً رهيباً: المرأتان مقتولتان بطريقة وحشية، وقد خبئت جثتاهما، واحدة في المدفأة مدلاة ورأسها إلى الأسفل، والثانية في فناء صغير يقع خلف المبنى. وحين تصل الشرطة إلى المكان للتحقيق يفاجأ أفرادها بغرابة الأمر: فالشقة مغلقة من الداخل تماماً، ولا يبدو أن ثمة من اغتصب بابها. أما في الخلف، فثمة مبنى آخر، يرى عبر نافذة تطل على الفناء، لكنها مرتفعة ولا يمكن لأي كائن بشري أن يدخل منها أو يخرج.
إدغار آلن بو (1809 – 1849) (غتي)
تعليق