"حامل الصحف القديمة": اليأس المتوالد وشظايا الأمل

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "حامل الصحف القديمة": اليأس المتوالد وشظايا الأمل

    "حامل الصحف القديمة": اليأس المتوالد وشظايا الأمل

    فيصل درّاج
    حجم الخط


    كانت صدفة سعيدة تلك التي قرأت فيها رواية أولى لإبراهيم عبد المجيد عام 1982، عنوانها: ليلة العشق والدم. أعلنت عن روائي مصري جديد مختلف، واعدٌ في اختلافه وجدير بالمتابعة، بسيط الأسلوب نافذ الرؤية. تابعته في روايات لاحقة أكّدت اختلافه المتميّز، آيتها "البلدة الأخرى ـ 1991"، لحقت بها "لا أحد ينام في الإسكندرية ـ 1996"، انتهت إلى "ثلاثية الإسكندرية"، التي استكملتها رواية "طيور العنبر" و"الإسكندرية في غيمة"، صاحبتها ست مجموعات قصصية، جمعت في مجلد واحد عنوانه: "أشجار السراب".

    تضيف الرواية الأخيرة: "حامل الصحف القديمة" (صدرت عن دار الشروق، القاهرة، 2023، 294 صفحة) جديدًا نوعيًا إلى ما سبقها، أسبغ عليها "فساد الأزمنة"، بلغة قديمة، كآبة بلا حدود وأسى عالي الصوت، تناجي طبقاته المتعددة روحًا مخذولة وأصدقاء رحلوا وأحلامًا انقشعت وذكريات من ملح وجراح ووفاء ومسرة، وذاكرة تحاور، شاكية، مصر في أزمنة متعددة، تتوجّه، أولًا، إلى "ثورة يناير" في مطلع القرن، تأجّجت كحلم وأغرقها الغبار والرماد.

    انطوت الرواية على سير متعددة مدخلها السيرة الروحية لكاتب ثائر مخذول، أقلع عن الكتابة والحلم بواقع مختلف، واقتنع صامتًا بزوجة تؤنسه، وشرفة لا يشاركه فيها أحد. وامتزجت سيرته بسيرة "الثورة المغدورة"، بلغة مستعارة من الروسي تروتسكي، وبسيرة أصدقاء حالمين حصدهم الموت، وبذكريات "وسط البلد"، الذي كان صاخبًا ذات مرة، ووقع عليه ما صيّره مكانًا مهجورًا، "يُمنع الاقتراب منه". سيرة مركزية تسرد "شكاوى المصري الفصيح". وهي تسرد أصوات أحبّاء استقروا تحت التراب، وعرفوا ظلمة سجون لا خروج منها.



    بنى إبراهيم عبد المجيد عمله بحوار داخلي (مونولوج) دائري الحركة، يبدأ مما أشقاه، ويستحضر صورًا غابت، ويعود ليؤنس وحدته المتوالدة بصور تستكمل الصور الغائبة، أو تستأنفها دون أن تدري. ففي وعيه أوجاع وفي لا وعيه أوجاع أكثر اتساعًا. ولأنّ ما يجرح الروح لا يبتعد عنها إلا ليقترب، وسّع الروائي خطابه الدائري بتقنيات متنوعة: زامن بين تداعي الثورة وسطوة "الكورونا" كما لو كان الأفول الثوري مرضًا، يثير الخوف ويكاثر الرقابة، يمنع اللقاء المريح ويحظر الاتصال، ويمنع التجوّل ويفرض على الحياة اليومية أوامر مشدّدة، يُعيّن المسموح والممنوع ويقود، كأوامر السلطة إلى ما يجب تجنبه وعدم الخوض فيه. بل إن في المرض، كما في الرقابة السلطوية، ما يلغي العادي ويملي "اللاعادي" قانونًا زاجرًا متوجًا بعقاب يقلب وجوه الحياة.

    وطّد الروائي دلالة مرض الكورونا، الذي له صفة الوباء، بإشارة فنية واسعة مرآتها: بائع الصحف القديمة، صديق جاء به السياق اليتيم ترافقه، أبدًا، صحف من زمن مضى، كما لو كان قبح الواقع الراهن لا يحتاج إلى قراءة، كان لها معنى في ماض لا تسيّجه الأوبئة يحايثه قسط من الحرية والفضول ولّى زمنيهما. الزمن المقيّد القائم على تكرار ممض، أمسه كيومه، لا يسأل ولا يتيح الأسئلة. ولعل ثبات الواقع، الذي ينفي القول والحركة، هو الذي يكاثر شخصية "حامل الصحف القديمة"، الذي بدأ مفردًا وتلاحق في صيغة الجمع.

    ينتج الزمن المريض قارئًا مستحيلًا، يستعيض عن التساؤل اليومي المقيد بإشارات هامشية فقيرة كأن ينتبه القارئ الماضي إلى "نباح الكلاب" ومواء القطط الشاردة ويلوذ، وحيدًا، بشرفة تنفتح على مخلوقات عارضة وتستدعي ذكريات "قاهرة مقهورة" وأمواج "اسكندرية" كان لها شكل ذات يوم، وماض مصري طارده الطاعون وكاثر الأموات. تحتل الذاكرة الطريدة مكان حاضر مطارد، تشير إلى موات ثابت الخُطا، يقنع الكاتب اليائس أن "الثورة لن تعود"، وأن الكتابة فعل نافر لا مردود له، وأن الموات الشاسع يأمر "برواية مستحيلة".
    واجه إبراهيم عبد المجيد الحاضر العقيم بسخرية سوداء
    التكرار الذي يدور حول ذاته فعل يثير السخرية: يسخر السارد المتوحّد من ذاته، يسخر من الأحلام والأوهام.... "الرئيس مبارك لم يخلعه أحد، كان في إجازة طويلة، وتباطؤه في العودة إلى عمله أدى إلى إقصاؤه..."، و"ربما يظهر الرئيس مبارك في التلفزيون ويحتفل مع المصريين بالذكرى الرابعة للثورة...". لم تكن هناك ثورة، وما جرى فيها استتباع لما سبقها، وعالم يقع لا سبيل إلى استئنافه. فإن كان لما دعي "بالثورة" أثر فقائم في توسيع ساحة السخرية. لا معنى على سبيل المثال للسؤال عن إنسان سجين يساق إلى السجن، ويتساقط سؤال الخروج منه، ففي الزمن المريض القوي "الأبواب والمخارج"، يتساوى السجن بخارجه، ويتساوى الخارجون والداخلون إليه. وتغيب الصحف بقدر ما غاب القرّاء، وتظل وحدها "متعة قراءة الصحف القديمة". تفرغ المقاهي من روّادها وتسقط اللغة التي تقيس الحاضر على الماضي.

    واجه إبراهيم عبد المجيد الحاضر العقيم بسخرية سوداء، كما لو كان خواء الحياة واقعة لا يعبّر عنها، تنوب عنه "متواليات قصصية مجزوءة"، تعكس حياة مخلوقات مجزوءة "تتوهّم الحياة". ولهذا يدور النص الروائي حول ذاته مكتفيًا بحوار طويل بين شخصيات محدودة، وبنثر متقن الصياغة، يحيل على رهافة الروائي ووجوه الحياة المحاصرة. إذ الكتابة شهادة على بوار الزمن، وشهادة على شاهد نبيه يرى في تفاصيل اللغة الأدبية بديلًا عن واقع مختلف، يعتقل البشر ولا يستطيع اعتقال اللغة التي هي المرآة لوعي كاتب يفصل بين المأساوي المسيطر والهازل المرير الممتد فيه.
    انطوت "حامل الصحف القديمة" على شهادة مثقف نقدي متسق التزم دائمًا بالحقيقة وابتعد عن المواقف الموسمية العارضة
    في عام 2006 نشر ابراهيم رواية صغيرة فسيحة الإمتاع عنوانها: "عتبات البهجة"، وجمع "كتابات متنوعة" وأصدر عام 2012 كتاب: "من الذي يصنع الأزمات في مصر؟". ولأن كل مثقف حقيقي يلتزم بقضية أساسية لا يتخلى عنها، فإن في روايته "حامل الصحف القديمة" أصداء من كتابيه، تضيء باختصار نبيه مصدر الأزمة المستديمة في مصر، الممتدة من الحقبة العثمانية إلى انقلاب 1952 وما بعده، كما جاء في كتاب "كيف تسقط الأمم"، الصادر قبل عقد من الزمن، الذي قرأ السقوط في ثنائية الاستبداد والفساد، وورد اسم الرئيس مبارك في الصفحة الثانية، تلاه اسم ابنه "جمال" بعد صفحات...



    أمّا "عتبات البهجة"، التي لا بهجة فيها، فزاملت رواية "حامل الصحف القديمة" من الصفحة الأولى إلى الأخيرة، متكئة على أشعار وحكم و"آهات" مصرية وغير مصرية منتهية، في التحديد الأخير إلى نص مكتفٍ بذاته، ينشر دلالات الأوجاع والغربة والاغتراب والشكوى التي يُسقط اتساعها معناها. فكل ما ينتشر بين الملأ تتهاوى صورته حتى لو كانت زاهية.

    يُستهل الكتاب، وفي صفحة كاملة مستقلة، بقول "ابن الوردي": "ماذا يصنع الطاعون في بلد في كل يوم له بالظلم طاعون"، إذ الظلم طاعون يؤبّده الظالمون، وإذ الطاعون وباء سلطوي متوارث لا يحتاج إلى معين. تدعمه أقوال متناسلة، مختلفة الجنسيات والمرايا، كأن يستهل الفصل الثالث بأنشودة للمغربي محمد بنيس: "لو كنت أهجر حيرتي لأضفت أجراسًا إلى أجراس" يتصادى فيها ما نطق به عزت الطيري في مطلع الفصل الرابع: "الطائر حين يحاول هربًا من قفص تدفعه الريح إلى قفص آخر"، يستضاء في الفصل السادس بحكمة لإيليا أبو ماضي: "لو عرفنا ما الذي قبل الوجود لعرفنا ما الذي بعد الفناء". تتلوه بلاغة ابن حزم الأندلسي: "إذا تكاثرت الهموم سقطت كلها". كان محمود درويش يقول: كل صنفة إذا شاعت أسقطها شيوعها.

    كل فصل من فصول الكتاب وعددها عشرون ينفتح على الأسى بشعر أو بنثر كأنه شعر جاءت به أسماء كارهة للطغيان: السوري محمد الماغوط، الفرنسي بول فاليري، والألماني غوته، والإسباني لوركا، والفرنسي الآخر رينيه شار ومواطنه رامبو، والرمزي الألماني رينيه ماريا ريلكه والفلسطيني محمود درويش القائل: "وطني حبل غسيل، لمناديل الدم المسفوك في كل دقيقة"، فبودلير وتساؤله الحزين: "يقولون دائمًا: "إلى الأمام" ولا يدرون لماذا..." أما المصري حسن طلب فيقول: "كم أشتاق إلى النور هنا بعد مغيب الشمس... وقبل الشروق"...

    صيّر إبراهيم عبد المجيد، بكآبة رهيفة، نشيد الشعراء إلى نص أدبي موازٍ يلامس الشوق والغضب والحرمان، و"ملأ" فراغات الكلام بما عاشته روحه إبّان الثورة وبعد غروبها. كأن تعبُر بوحَهُ المتدفق جمل "هادئة" محتشدة بتساؤلات حارقة: "لماذا لا تقول ضاع العقل من البلاد؟"، أو: "سوف أُجن يا أخي، أنا تعبت... رغم حياتي مع الماضي إلا أن الحاضر يأتي إليَّ..."، أو : "ابتسم وهو يفكر هل انتهت الثورة إلى طلب ساندويتش غير موجود؟!"، "أريد أن أكتب على الفيسبوك ما حدث، لكنني خائف"، "حتى الكلاب التي كانت تعوي مع كل آذان سكتت. العالم يتسع وتبدو السماء قريبة..." وإذا عاد إلى ماضي المصريين كتب: "كان القتل فيهم نوعًا من التسلية، وأهملت حياتهم فصار الطاعون زائرًا دائمًا...".

    يُقرأ خطاب رواية عبد المجيد في التكرار اليومي الذي يعتقل العقل واللسان والهواء، وفي جملة متناثرة أخطأها اليومي المقيْد وأخبرت عما لا يُقال. ولعل القصديّة في رثاء ما جاء مشرقًا وغَرُب، هي التي أدرجت في الرواية: "التناص الذاتي"، الذي جمع بين سرد فراغ الحاضر ونصوص للروائي كتبها خلال الثورة ونشرها في صحف معروفة كما لو كان يطارد في وعيه الحزين مساحات الخطأ والصواب، ويسرد يوميات ثورة، انشغلت باليومي البسيط بظواهر الأمور، وأعرضت عما تبقى.

    انطوت "حامل الصحف القديمة" على شهادة مثقف نقدي متسق التزم دائمًا بالحقيقة وابتعد عن المواقف الموسمية العارضة. كما انطوت على شهادة موازية عن روائي روّض النثر والمتخيّل واستيلاد شخصيات تنكر التجريد وينكرها التجريد.

    رواية "حامل الصحف القديمة" لابراهيم عبد المجيد إعلان عن موهبة قديمة جديدة مثابرة، صقلها التأمل والتجريب، وتتويج لإبداع مختلف عرفته الرواية المصرية، كما العربية بعامة، في فترات سعيدة.
    • عنوان الكتاب: حامل الصحف القديمة
    • المؤلف: إبراهيم عبد المجيد
يعمل...
X