أشرف عبدالغفور.. صاحب الأدوار الجادة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أشرف عبدالغفور.. صاحب الأدوار الجادة

    أشرف عبدالغفور.. صاحب الأدوار الجادة


    ممثل مصري أوصى العرب بالحذر من المسلسلات التركية.
    الثلاثاء 2023/12/05

    فنان تعامل مع مهنته بإخلاص

    عن عمر ناهز واحدا وثمانين عاما رحل الفنان المصري أشرف عبدالغفور، مساء الأحد، حيث ووري جثمانه الثرى يوم الاثنين، وهو الذي اعتاد وصف نفسه بـ“ملك” الأدوار الجادة، واختار له الكثير من الممثلين لقب “نقيب الفن المصري”، وتعرض الراحل لحادث سير مروع في القاهرة أنهى مسيرة فنية حافلة بدأت في خمسينات القرن الماضي.

    مثّل رحيل عبدالغفور المفاجئ صدمة في الأوساط الفنية العربية، كونه اعتاد أن يطل على جمهوره على فترات متقاربة، وظل متمسكا بتقديم عصارة خبرته الفنية للممثلين الشبان والمشاهدين أيضا، ليعمق ثقافة وفهم الطرفين لطبيعة وقيمة مهنة التمثيل.

    لم يكن غريبا أن تتحول منصات التواصل الاجتماعي منذ الإعلان عن رحيله إلى سرادق عزاء للترحم على صاحب الأدوار الجادة، بحكم المسيرة القيّمة التي قدمها طوال تاريخه الفني، ونجاحه في أن يخرج من تحت يديه نخبة من الممثلين اعتبروه قدوة في كيفية إحداث الفارق وترك بصمة عند الجمهور.

    يظل أشرف عبدالغفور أحد رموز مدرسة الفن الهادف لأنه استطاع على مدار مشاركاته الفنية التي تقترب من ستين عامًا، في الدراما والمسرح والسينما، أن يترك بصمة في إثراء مسيرة الفن المصري بموهبته وإجادته اللغة العربية الفصحى.

    رفض منذ بداياته الفنية في الصغر أن يكرر نفسه في أي عمل، ما جعله مختلفا عن كثيرين من أبناء جيله، ولم يستسلم لإغراءات المال والشهرة عندما كانت الساحة الفنية مليئة بالنجوم أصحاب الشكل الجميل أو الكوميديين، فقد فضّل أن يكون مميزا وكفى.
    الهادئ الناعم



    التمثيل الهادئ وأداء الأدوار الصعبة بإتقان


    يصنف عبدالغفور بأنه من الفنانين القلائل الذين يصعب تعويض رحيلهم، ليس تشكيكا في قدرات من يتواجدون على الساحة، بل لأسباب ترتبط بشخصيته، من حيث التاريخ وطريقة التمثيل والهدوء وأداء الأدوار الصعبة بإتقان.

    هو مثل فنانين رحلوا ولم يعوض غيابهم، بينهم عادل أدهم الذي أخفق الكثير من الشباب في تعويضه، أو أداء أدواره بطريقته وشخصيته. هكذا أشرف عبدالغفور الهادئ الناعم الذي يقدم الفن بطريقة مبتكرة تعبر فقط عن خبرة ذاتية متجذرة في شخصيته.

    هناك صاعدون بلغوا الصف الأول في الأداء التمثيلي، لكنهم ليسوا مرشحين لوراثة عبدالغفور، والذي اعتاد طوال مسيرته أن يختار الأدوار المركبة ليؤكد أنه فنان من طراز خاص اكتسب الخبرة والإتقان معا.

    ثمة فوارق شاسعة بينه وبين الكثير من الأجيال الجديدة في الفن، من حيث النظرة إلى المهنة وقيمتها وأهدافها ورسائلها، فعلى الرغم من تقدمه في السن وحاجته إلى العمل وسط ساحة مليئة بالفنانين، كان يرفض بعض الأعمال إذا كانت دون المستوى الفني.

    عندما سُئل عن سبب غيابه سنوات طويلة عن الدراما والسينما، أجاب بوضوح بأن الأعمال التي تُعرض عليه

    بشكل مستمر لم تعد تناسب نظرته للفن عموما، ولا تتلاءم مع طموحاته، وبعضها دون المستوى، لأن اختياراته أصبحت أكثر دقة، لذلك لا يحاول المشاركة في عمل إلا إذا شعر بمتعة في كيفية تقديمه للجمهور. بينما يقبل فنانون آخرون، من القدامى والجدد، أي عمل لمجرد الظهور أو حبا في عدم الاختفاء مع الحصول على عوائد مالية تعين على صعوبات الحياة، وسط شكاوى متكررة من تدهور الوضع الاقتصادي لبعض الفنانين الكبار وتهميشهم.

    هناك بعض الممثلين الجدد لا يمانعون القبول بأدوار سطحية بدافع الظهور والانتشار، وهي ظاهرة كان يعتبرها الفنان الراحل أشرف عبدالغفور مسيئة للمهنة والعمل الفني والممثل أيضا، وطالما أن الدور الذي سيقدمه الفنان لن يضيف للعمل أو له أو يقدم رسالة للجمهور، كان رفضه واجبا أخلاقيا.
    مدرسة أخلاق


    الفنان ظل متمسكا بتقديم عصارة خبرته الفنية للممثلين الشبان والمشاهدين أيضا ليعمق ثقافة وفهم الطرفين لمهنة التمثيل

    يمكن أن تفسر القناعات التي ظلت جزءا من شخصية أشرف عبدالغفور لماذا نجح وصعد نجمه في وقت بالغ الصعوبة عندما كان آخرون أقل منه خبرة وتميزا، ويملأون الشاشات، مثل حسن يوسف ومحمد عوض، حتى أن جماهيريته لم تتأثر بدخوله منافسا لنجوم عاصروه وعرفوا بالرومانسية ومن أصحاب الوجه الجميل، مثل نور الشريف ومحمود عبدالعزيز وحسين فهمي، لكونه امتلك مهارات خاصة جعلته يصمد ويصعد ويحجز لنفسه مكانا، ويصبح في أولويات المؤلفين والمخرجين.

    نجح أشرف عبدالغفور على مدار سنوات طويلة قضاها في رحاب الفن في أن يصبح أحد أبرز ما يسمى بمدرسة الأخلاق الحميدة، وبرع في غالبية أدواره على مستوى العروض المسرحية الكلاسيكية والدراما التاريخية والدينية والأعمال السينمائية، مستفيدا من كونه نابغا بالفطرة، ويحسن اختيار الأدوار التي يقدمها، والتي استطاع من خلالها أن يترك بصمة عند الجمهور، ولو لم تلق رضاء بعض النقاد.

    ما منحه ميزة مضافة عن الفنانين الذين عاصروه أنه اعتاد إجادة تقمص الشخصية التي يؤديها بلا مبالغة، وظهر ذلك جليا في الشخصيات التاريخية التي كان يتمسك بأن يوسع من خلالها مدارك المشاهدين وتوعيتهم وثقل مفاهيمهم عنها، بعيدا عن التصنع والافتعال، وهي النقطة الفاصلة التي ميّزته عن معاصريه.

    كان من الفنانين القلائل الذين حاربوا التطرف بالعمل الفني، على الرغم من الاتهامات التي طالته بأنه يركز على المسلسلات الدينية لكونه ملتزما دينيا، مع أنه كان يرى في مثل هذه الأعمال قيمة مضافة أبعد من توصيل رسائل، حيث ارتبط بشغفه بمسلسلات تحمل قدوة ومواقف نبيلة للناس.
    بين الدفاتر المدرسية



    فنان برع في غالبية أدواره المركبة


    يصعب فصل صموده في مرحلة صعوده الفني عن حبه للفن منذ الصغر، فهو الذي كان يداوم على مشاهدة الأعمال السينمائية في التلفزيون قبل أن يبلغ سن الرابعة عشرة، لكنه لم يتعامل مع أي فيلم على أنه عمل جذاب، بل ليتعمق في الرسالة أكثر من تركيزه على الممثلين، وينتبه لهوية واسم المخرج ومدير التصوير والسيناريست، وامتلك مدونة ورقية كتب فيها اسم كل فيلم ومخرجه ومؤلفه وممثليه وأفيش العمل والقضية التي يناقشها، واحتفظ بها ضمن أوراق المذاكرة المدرسية.

    تقمص عبدالغفور شخصية الناقد الفني الذي يُشرّح العمل، والتقط بعض الأخطاء من شدة تركيزه، فازداد حبه للتمثيل وداوم على حضور ندوات وأمسيات ثقافية، واشترك بإحدى فرق التمثيل في المدرسة، وشارك في مسرحيات من أعمال الراحل نجيب الريحاني قبل أن تسند إليه رئاسة فرقة التمثيل في المدرسة.

    عندما حصل على شهادة الثانوية العامة (البكالوريا) تقدم بأوراقه إلى كلية التجارة واستمر فيها عدة أشهر، ثم تركها والتحق بمعهد السينما وحصل بعدها على دبلوم قسم التمثيل من المعهد العالي للفنون المسرحية، وفور التخرج اشترك بمسرحية “جلفدان هانم” التي مهدت له طريق المشاركة في العديد من الأعمال المسرحية، أبرزها:

    “سليمان الحلبي”، “ثلاث ليال”، “موتى بلا قبور”، “مصرع جيفارا”، “وطني عكا” و“النار والزيتون”، ويظهر أمام الجمهور برفقة فنانين كبار.

    إتقان الممثل للغة العربية كان نقطة تحول في تاريخه جعلته ضيفا دائما في المسلسلات ذات الطابع التاريخي والديني

    كان إتقان أشرف عبدالغفور للغة العربية نقطة تحول في تاريخه الفني، جعلته ضيفا دائما في المسلسلات التي لها طابع تاريخي وديني، ما ضاعف من نجوميته وشهرته، حيث كانت الجماهير تتشوق لمثل هذه الأعمال الفنية، وتراها جديرة بالمشاهدة.

    لم تكن ميزة إتقان اللغة متوافرة عند الكثير من الفنانين، لكن علاقته توطدت بالعربية من خلال تقديم الأعمال الإذاعية التي تحتاج إلى دقة في اللغة، وكان وقتها الفنان محمد الطوخي يمتلك استديو للتسجيلات الإذاعية بمنطقة وسط القاهرة، وينتج أعمالا للمنطقة العربية، ويشترط في الممثلين الشباب الذين يرغبون في المشاركة أن يجيدوا اللغة العربية، وما دفعه إلى إتقانها جيدا إقباله على معاجم اللغة.

    استمر أشرف عبدالغفور في دراسة اللغة العربية بإجادة طوال مسيرته الفنية، ليس للاستفادة بها في أعماله، بل حبا وعشقا لها، ما ساهم في خروج الأعمال التي شارك فيها بجودة عالية، وكان يرفض وجود خطأ لغوي في الحوار الفني أو على تتر المسلسل، ولو كلفه الأمر إعادة تصوير المشهد لتصحيح النطق.

    يقول عن ذلك في أحد حواراته الإعلامية “كان إتقاني للفصحى علامة فارقة في مشواري الفني، لأنه خلال فترة السبعينات لم يكن هناك ممثلون كثيرون يجيدون فن الأداء بالفصحى، وكان الطريق مفتوحا أمامي، بجانب أنني أتمتع بملكة الحفظ، وهو ما جعلني أنجح في تجاوز صعوبات الدراما التاريخية ذات المشاهد الطويلة والمكثفة التي تحتاج إلى التركيز والحفظ”.

    لعبت الظروف السياسية خلال السبعينات دورها في مشاركة الفنان الراحل أشرف عبدالغفور في الأعمال الدرامية التي أنتجتها بعض دول الخليج، بحكم الظروف التي أحاطت بمصر بعد معاهدة السلام مع إسرائيل وما تلاها من مقاطعة سياسية، وجعلت بعض الدول العربية تتجه إلى عدم التعامل مع العامية المصرية، لإخفاء هذه اللهجة التي انتشرت آنذاك، فلجأوا إلى الأعمال الدرامية بالفصحى، واستعانوا بالفنانين المتميزين فيها، ما جعله أحد أبرز من ظهروا فنيا خلال الفترة من 1975 وحتى 1985.
    عبدالغفور والإخوان



    تعاملت معه جماعة الإخوان بمنطق عدائي خلال حكمها لمصر بعد ثورة 25 يناير 2011، وكان وقتها نقيبا للمهن التمثيلية، وخرج متحديا التنظيم بأن الفنانين لم ولن يكونوا في صفهم، لا بالرسالة أو بالتوجيه الجماهيري مهما كانت التهديدات.

    آنذاك، طلب مرشد جماعة الإخوان محمد بديع أن يلتقيه في مكتبه، وقد حدث. وبعدها فسّر عبدالغفور اللقاء بأنه أراد فهم ما يدور في عقلية عدوه كي يستطيع وضع خطة الحرب معه، لكن الإخوان لم يتركوه وأطلقوا عليه شائعات تشير إلى أن نقيب المهن التمثيلية ينتمي إلى الجماعة، ويدعمها في مواجهة من يحاولون ضربها، فجاء رد عبدالغفور صاعقا.

    شارك الراحل في مسرحية “المحاكمة”، وجسد فيها شخصية رجل الدين المتشدد ويعرّي التعصب الديني والتطرف، وحصل هذا العمل على سبع جوائز، وفي ذروة سطوة الإخوان شارك في مسرحية “في بيتنا شبح”، وكشف الدور الخفي للجماعة، ولم يستسلم للتهديدات عندما كانت المفرقعات تُضرب على باب المسرح وقت العمل.

    ما منحه ميزة مضافة عن الفنانين الذين عاصروه أنه اعتاد إجادة تقمص الشخصية التي يؤديها بلا مبالغة

    رغم شجاعته لم ينكر أنه كان بعيدا عن توصيفه كنجم شباك مثل باقي أبناء جيله من الكوميديين ومن اتسموا بالوسامة، لكنه نجح في ترك بصمة بارزة عند الجمهور بتنوع أعماله الدرامية التي كانت تستهدف مختلف الشرائح دون أن تركز على فئة بعينها.

    لم يكن البعض تستهويهم طريقة التمثيل التي يؤدي بها أشرف عبدالغفور ورأوا أنها مفتعلة بعض الشيء، مع أن رصيده امتد لقرابة ثلاثمئة عمل فني، لكن لا يختلف هؤلاء على أن أسلوبه متميز ومختلف، ويعبر عن فنان تعامل مع المهنة بإخلاص، وإلا ما استمرت العروض الفنية تنهال عليه رغم ابتعاده عن المشهد لسنوات طويلة، وظل يرفض الإغراءات المادية ليحافظ على تاريخه، ولم يشارك في عمل ضعيف.

    انعكس ذلك على المسيرة الفنية لابنته ريهام عبدالغفور، فهي من أبناء الفنانين القلائل الذين ورثوا المهنة عن آبائهم واستطاعوا أن يحجزوا مكانة عند الجمهور، وأصبحت مشاركاتهم في الأعمال السينمائية والدرامية راقية وتحمل إضافة لها، وهو ما فسرته في بأنها ورثت ذلك عن أبيها، بأن تتعامل مع التمثيل بإخلاص، لا لشهرة أو مال.

    تظل الرسالة الأهم التي تركها أشرف عبدالغفور قبل رحيله أن الفن المصري يواجه خطرا الحكومة شريكة فيه مع القطاع الخاص، نتيجة قلة الاكتراث بعملية بيع التراث التي رفضها عبدالغفور، محذرا من سحب البساط والريادة من تحت أقدام المصريين، ودق ناقوس الخطر من اقتحام الدراما التركية لحياة الشعوب العربية، لكن لم ينتبه أحد. فهل تصل صرخاته بعد رحيله؟


    أحمد حافظ
    كاتب مصري
يعمل...
X