محمد جبير النقد حين يتحول إلى ذاكرة
جبير يضع بين يدي قارئه خبرة حياة قضاها في محاولة التقاط كل صغيرة وكبيرة في التجربة الروائية العراقية.
يهب الرواية العراقية أجمل النصوص
كنا صديقين لم يفرق بينهما مزاجهما الثقافي. لم أكن أميل إلى قراءة النتاج الأدبي المحلي فيما كان ينقب مثل آثاري في الرواية العراقية بحثا عن أصولها. كان محمد جبير عراقيا أكثر مني. وكان يضمني بحنانه كلما شعر أنني قد بالغت في تمردي وغضبي.
كانت الحياة بالنسبة إليه حكاية صداقة وهو ما جعله يحب منير عبدالأمير الذي يميل إلى كتابة غامضة هي مزيج من الخيال العلمي والجريمة والتحقيق البوليسي.
هوامش بقلم الرصاص
يميل إلى كتابة غامضة
ذات مرة رأينا في أحد أكشاك الكتب في الباب الشرقي أدمون صبري وهو واحد من رواد القصة القصيرة في العراق. أوقفني محمد جبير وهو يقول “ذلك مشهد تاريخي”. بعد سنوات تذكرت ذلك المشهد وأنا أفكر في ما خسرته وأنا أستعيد تلك المسافة التي صنعها محمد جبير وهو يهيئ نفسه ليكون ناقدا أدبيا من طراز خاص. كانت سخريته السوداء طريقا للمعرفة فيما كنا نجتاز ظرفا سياسيا صعبا، كان قمع الحريات عنوانه.
كان يملأ الكتب التي يقرأها بهوامش يكتبها بقلم الرصاص، بحيث لا يمكن أن تُقرأ بعده. كانت تلك الهوامش مدونته التي جعلت منه في ما بعد ذاكرة للقصة القصيرة والرواية في العراق. وهو ما جعله في غنى عن النظريات والمناهج. بالنسبة إليه فإن النقد هو تجربة قراءة تستند إلى تاريخ من الكشوفات الاستقصائية. لم يرغب في أن يملي على النص شيئا من خارجه.
وهبته الحياة صداقات عظيمة، حرص على أن يكون وفيا لها مثلما هي الصداقة التي ربطته بالكاتب كاظم الأحمدي. أمدته تلك الصداقة بالكثير من التأملات المعرفية التي كانت سندا له حين ألف كتابا عن الأحمدي بعد وفاته.
كل ما يكتبه جبير إنما يعبر عن قراءة نقدية. وهو من خلال ذلك يبدي تقديرا عظيما لحضور النص. النص بالنسبة إليه هو الأصل. إنه يستنبط منه قواعده. وهو في ذلك إنما يبدأ مع كل نص جديد عمله كما لو أنه لم يكن ناقدا من قبل. لكل كاتب يقرأ نصوصه أسراره التي هي خزانة معرفة ينبغي التعرف على مفرداتها. ذلك ما ساعده على أن يكتب عن كل رواية أعجب بها كتابا. وهو ما لم يفعله ناقد عربي من قبل.
كنت أُدهش من غزارته في الكتابة، ولكني لم أتوقع أنه بعد أكثر من ثلاثين سنة من فراقنا ما يزال أشبه بماكنة للكتابة.
ولد محمد جبير في بغداد عام 1955. بدأ النشر في الصحف العراقية منتصف سبعينات القرن الماضي. انصب اهتمامه النقدي على القصة القصيرة والرواية في العراق. لذلك يمكن اعتبار كتاباته مرجعا موثوقا لتطور أساليب الكتابة في الفنين. عام 1989 أصدر كتاب “مقتربات النص”.
ويعتبر جبير واحدا من أكثر الكتاب غزارة في الإنتاج. أذكر هنا عددا من كتبه: “جوار النص” و”متعة القراءة” و”الرواية الاستقصائية” و”فاكهة ليلية” و”جنائن السرد” و”جوار النص”.
يوزع جبير عمله النقدي بين خطين. الأول عمودي حيث التنقيب بحثا عن بدايات الرواية المعاصرة في العراق والثاني أفقي حيث التغطية لكل ما يُنشره العراقيون من روايات في وقتنا الذي كثر فيه الروائيون بطريقة لم تشهدها الثقافة العراقية في الماضي.
يمكن اعتبار كتابات جبير مرجعا موثوقا لتطور أساليب الكتابة في فني القصة القصيرة والرواية في العراق
يُظهر محمد جبير حماسة كبيرة لترسيخ ظاهرة الرواية في الثقافة العراقية. فبعد أن كان الروائيون يعدون على أصابع اليدين، فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان ومهدي عيسى الصقر وعبدالرحمن الربيعي وعبدالخالق الركابي ولطفية الدليمي وعالية ممدوح، ها هم اليوم يتكاثرون بطريقة توحي بأن الرواية في طريقها إلى أن تحتل الحيز الذي كان الشعر يحتله في حياة العراقيين.
“دهشة السرد” هو عنوان أحد كتبه. العنوان وحده يقود إلى نوع العلاقة التي تربط جبير بعالم الروائيين. فتنة دفعته إلى أن يدعو الآخرين إلى قراءة كل رواية تعجبه. وقد ألف كتبا في ذلك منها كتاب “قراءة النص السردي” المخصص لقراءة رواية “أحمر خانة” لحميد الربيعي وكتاب “متعة القراءة. اكتشاف النص” تعليقا على رواية “خان الشابندر” لمحمد حياوي.
يقول جبير “قدمت الرواية العراقية وما زالت تقدم نماذج متميزة في الكتابة السردية تشير إلى تطور نوعي على صعيد الإنتاج الإبداعي العربي”.
خبرة حياة استثنائية
ناكرة القصة القصيرة والرواية في العراق
يضع محمد جبير بين يدي قارئه خبرة حياة قضاها في محاولة التقاط كل صغيرة وكبيرة في التجربة الروائية العراقية. وهو ما جعله يمتلك ذاكرة غنية بالمعلومات، الظاهر منها والخفي يشكلان مرجعية تاريخية هي التي يستند عليها روائيو اليوم في العراق من غير أن يعلموا.
لا يستعيد جبير في كتبه قراءاته فحسب بل وأيضا علاقاته الشخصية بروائيين لم يحظوا بشهرة واسعة، ولم يبحثوا عن الشهرة كما هو حال غانم الدباغ الذي يقدمه في كتابه “جوار النص” واحدا من الرواد المنسيين الذين يعيد إليهم اعتبارهم من خلال تسليط الضوء على سيرته وكتاباته.
لا أعتقد أن أحدا من العراقيين فعل ما فعله محمد جبير وهو ينقب بحثا عن الأصول في الثقافة الروائية العراقية. فهو من خلال تدوينه لمراحل تطور الكتابة الروائية قاوم النسيان الذي يُراد له أن يكون سلوكا في كل نواحي الحياة في عراق تعمه الفوضى.
يمثل مشروعه النقدي نوعا من إعادة القراءة لتاريخ الرواية بأدوات معاصرة. ما لم يكن يعرفه الروائيون الجدد عن تاريخ الكتابة وأساليبها وموضوعاتها وتقنياتها يقدمه جبير جاهزا وهو في ذلك إنما يكتب سيرته الشخصية في القراءة والحياة، من غير أن يفصل بينهما.
متعة النقد والقراءة
[ واحد من أهم شهود العصر العراقي
كما لو أنه يسابق الزمن. أشبه بماكنة لإنتاج الكتب الرفيعة.
ثقته بأن ما يحدث في العراق من انتشار أفقي للكتابة الروائية لا بد أن يكون أساسا لبناء عمودي جعلته يخصص لكل روائي من روائيي اليوم الذين يؤمن بموهبتهم كتابا. هو عمل لم يسبقه إليه أحد إلا في الدراسات الأكاديمية التي نادرا ما ترى النور خارج محيطها الضيق.
فهو على سبيل المثال يقرأ في كتابه “الروائية الاستقصائية” الروايات الثلاث التي كتبها الكاتب الراحل سعد محمد رحيم وهي “غسق الكراكي”، “ترنيمة امرأة شفق البحر” و”مقتل بائع الكتب”. جانب الوفاء الشخصي في تلك المحاولة هو جزء من سيرة جبير الشخصية ولكنه ليس المحرض الوحيد لتأليف ذلك الكتاب الذي هو عبارة عن تحية لكاتب توقف عن الكتابة بشكل نهائي. المسألة تتعلق بمسعى الحفاظ على الذاكرة الأدبية بحثا عن أقوى وأجمل لحظات التعبير في الذات العراقية.
يمكن القول إن محمد جبير هو واحد من أهم شهود العصر العراقي. ذلك صحيح. غير أن الصحيح أيضا أن كتبه تمثل مرجعية نقدية تفتح أمام القراء أبواب السرد بمتعة لا تحققها الأعمال الروائية وحدها. لا يكتب جبير على هامش الأعمال الأدبية بل يكتب نصوصا تسمو بتلك الأعمال وتهبها لمعانا مضافا.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
فاروق يوسف
كاتب عراقي
جبير يضع بين يدي قارئه خبرة حياة قضاها في محاولة التقاط كل صغيرة وكبيرة في التجربة الروائية العراقية.
يهب الرواية العراقية أجمل النصوص
كنا صديقين لم يفرق بينهما مزاجهما الثقافي. لم أكن أميل إلى قراءة النتاج الأدبي المحلي فيما كان ينقب مثل آثاري في الرواية العراقية بحثا عن أصولها. كان محمد جبير عراقيا أكثر مني. وكان يضمني بحنانه كلما شعر أنني قد بالغت في تمردي وغضبي.
كانت الحياة بالنسبة إليه حكاية صداقة وهو ما جعله يحب منير عبدالأمير الذي يميل إلى كتابة غامضة هي مزيج من الخيال العلمي والجريمة والتحقيق البوليسي.
هوامش بقلم الرصاص
يميل إلى كتابة غامضة
ذات مرة رأينا في أحد أكشاك الكتب في الباب الشرقي أدمون صبري وهو واحد من رواد القصة القصيرة في العراق. أوقفني محمد جبير وهو يقول “ذلك مشهد تاريخي”. بعد سنوات تذكرت ذلك المشهد وأنا أفكر في ما خسرته وأنا أستعيد تلك المسافة التي صنعها محمد جبير وهو يهيئ نفسه ليكون ناقدا أدبيا من طراز خاص. كانت سخريته السوداء طريقا للمعرفة فيما كنا نجتاز ظرفا سياسيا صعبا، كان قمع الحريات عنوانه.
كان يملأ الكتب التي يقرأها بهوامش يكتبها بقلم الرصاص، بحيث لا يمكن أن تُقرأ بعده. كانت تلك الهوامش مدونته التي جعلت منه في ما بعد ذاكرة للقصة القصيرة والرواية في العراق. وهو ما جعله في غنى عن النظريات والمناهج. بالنسبة إليه فإن النقد هو تجربة قراءة تستند إلى تاريخ من الكشوفات الاستقصائية. لم يرغب في أن يملي على النص شيئا من خارجه.
وهبته الحياة صداقات عظيمة، حرص على أن يكون وفيا لها مثلما هي الصداقة التي ربطته بالكاتب كاظم الأحمدي. أمدته تلك الصداقة بالكثير من التأملات المعرفية التي كانت سندا له حين ألف كتابا عن الأحمدي بعد وفاته.
كل ما يكتبه جبير إنما يعبر عن قراءة نقدية. وهو من خلال ذلك يبدي تقديرا عظيما لحضور النص. النص بالنسبة إليه هو الأصل. إنه يستنبط منه قواعده. وهو في ذلك إنما يبدأ مع كل نص جديد عمله كما لو أنه لم يكن ناقدا من قبل. لكل كاتب يقرأ نصوصه أسراره التي هي خزانة معرفة ينبغي التعرف على مفرداتها. ذلك ما ساعده على أن يكتب عن كل رواية أعجب بها كتابا. وهو ما لم يفعله ناقد عربي من قبل.
كنت أُدهش من غزارته في الكتابة، ولكني لم أتوقع أنه بعد أكثر من ثلاثين سنة من فراقنا ما يزال أشبه بماكنة للكتابة.
ولد محمد جبير في بغداد عام 1955. بدأ النشر في الصحف العراقية منتصف سبعينات القرن الماضي. انصب اهتمامه النقدي على القصة القصيرة والرواية في العراق. لذلك يمكن اعتبار كتاباته مرجعا موثوقا لتطور أساليب الكتابة في الفنين. عام 1989 أصدر كتاب “مقتربات النص”.
ويعتبر جبير واحدا من أكثر الكتاب غزارة في الإنتاج. أذكر هنا عددا من كتبه: “جوار النص” و”متعة القراءة” و”الرواية الاستقصائية” و”فاكهة ليلية” و”جنائن السرد” و”جوار النص”.
يوزع جبير عمله النقدي بين خطين. الأول عمودي حيث التنقيب بحثا عن بدايات الرواية المعاصرة في العراق والثاني أفقي حيث التغطية لكل ما يُنشره العراقيون من روايات في وقتنا الذي كثر فيه الروائيون بطريقة لم تشهدها الثقافة العراقية في الماضي.
يمكن اعتبار كتابات جبير مرجعا موثوقا لتطور أساليب الكتابة في فني القصة القصيرة والرواية في العراق
يُظهر محمد جبير حماسة كبيرة لترسيخ ظاهرة الرواية في الثقافة العراقية. فبعد أن كان الروائيون يعدون على أصابع اليدين، فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان ومهدي عيسى الصقر وعبدالرحمن الربيعي وعبدالخالق الركابي ولطفية الدليمي وعالية ممدوح، ها هم اليوم يتكاثرون بطريقة توحي بأن الرواية في طريقها إلى أن تحتل الحيز الذي كان الشعر يحتله في حياة العراقيين.
“دهشة السرد” هو عنوان أحد كتبه. العنوان وحده يقود إلى نوع العلاقة التي تربط جبير بعالم الروائيين. فتنة دفعته إلى أن يدعو الآخرين إلى قراءة كل رواية تعجبه. وقد ألف كتبا في ذلك منها كتاب “قراءة النص السردي” المخصص لقراءة رواية “أحمر خانة” لحميد الربيعي وكتاب “متعة القراءة. اكتشاف النص” تعليقا على رواية “خان الشابندر” لمحمد حياوي.
يقول جبير “قدمت الرواية العراقية وما زالت تقدم نماذج متميزة في الكتابة السردية تشير إلى تطور نوعي على صعيد الإنتاج الإبداعي العربي”.
خبرة حياة استثنائية
ناكرة القصة القصيرة والرواية في العراق
يضع محمد جبير بين يدي قارئه خبرة حياة قضاها في محاولة التقاط كل صغيرة وكبيرة في التجربة الروائية العراقية. وهو ما جعله يمتلك ذاكرة غنية بالمعلومات، الظاهر منها والخفي يشكلان مرجعية تاريخية هي التي يستند عليها روائيو اليوم في العراق من غير أن يعلموا.
لا يستعيد جبير في كتبه قراءاته فحسب بل وأيضا علاقاته الشخصية بروائيين لم يحظوا بشهرة واسعة، ولم يبحثوا عن الشهرة كما هو حال غانم الدباغ الذي يقدمه في كتابه “جوار النص” واحدا من الرواد المنسيين الذين يعيد إليهم اعتبارهم من خلال تسليط الضوء على سيرته وكتاباته.
لا أعتقد أن أحدا من العراقيين فعل ما فعله محمد جبير وهو ينقب بحثا عن الأصول في الثقافة الروائية العراقية. فهو من خلال تدوينه لمراحل تطور الكتابة الروائية قاوم النسيان الذي يُراد له أن يكون سلوكا في كل نواحي الحياة في عراق تعمه الفوضى.
يمثل مشروعه النقدي نوعا من إعادة القراءة لتاريخ الرواية بأدوات معاصرة. ما لم يكن يعرفه الروائيون الجدد عن تاريخ الكتابة وأساليبها وموضوعاتها وتقنياتها يقدمه جبير جاهزا وهو في ذلك إنما يكتب سيرته الشخصية في القراءة والحياة، من غير أن يفصل بينهما.
متعة النقد والقراءة
[ واحد من أهم شهود العصر العراقي
كما لو أنه يسابق الزمن. أشبه بماكنة لإنتاج الكتب الرفيعة.
ثقته بأن ما يحدث في العراق من انتشار أفقي للكتابة الروائية لا بد أن يكون أساسا لبناء عمودي جعلته يخصص لكل روائي من روائيي اليوم الذين يؤمن بموهبتهم كتابا. هو عمل لم يسبقه إليه أحد إلا في الدراسات الأكاديمية التي نادرا ما ترى النور خارج محيطها الضيق.
فهو على سبيل المثال يقرأ في كتابه “الروائية الاستقصائية” الروايات الثلاث التي كتبها الكاتب الراحل سعد محمد رحيم وهي “غسق الكراكي”، “ترنيمة امرأة شفق البحر” و”مقتل بائع الكتب”. جانب الوفاء الشخصي في تلك المحاولة هو جزء من سيرة جبير الشخصية ولكنه ليس المحرض الوحيد لتأليف ذلك الكتاب الذي هو عبارة عن تحية لكاتب توقف عن الكتابة بشكل نهائي. المسألة تتعلق بمسعى الحفاظ على الذاكرة الأدبية بحثا عن أقوى وأجمل لحظات التعبير في الذات العراقية.
يمكن القول إن محمد جبير هو واحد من أهم شهود العصر العراقي. ذلك صحيح. غير أن الصحيح أيضا أن كتبه تمثل مرجعية نقدية تفتح أمام القراء أبواب السرد بمتعة لا تحققها الأعمال الروائية وحدها. لا يكتب جبير على هامش الأعمال الأدبية بل يكتب نصوصا تسمو بتلك الأعمال وتهبها لمعانا مضافا.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
فاروق يوسف
كاتب عراقي