الصخر الأسود في متاهة عالم أخرس للفنان سعيد بعلبكي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الصخر الأسود في متاهة عالم أخرس للفنان سعيد بعلبكي

    الصخر الأسود في متاهة عالم أخرس للفنان سعيد بعلبكي


    مجسمات صغيرة لمبان تاريخية مشيدة بالفحم الإندونيسي.
    الأربعاء 2023/08/30

    الفحم سيد المعرض

    يعيد الفنان اللبناني سعيد بعلبكي تجسيد المباني والصروح الأثرية التي لها دلالات رمزية، مستخدما الفحم، جمعها هذه المرة في معرض فردي أطلق عليه اسم “صخر أسود”، محاولا الحفر في الماضي والذاتي والجمعي، عبر استفزاز المتلقي وعلاقته بأشهر الأماكن التاريخية.

    تقدم صالة صالح بركات في بيروت معرضا للفنان اللبناني متعدد الوسائط سعيد بعلبكي يضم مجموعة مجسمات صغيرة مشغولة بالفحم لصروح وأبنية معروفة عبر التاريخ ولها دلالات رمزية على المستوى الاجتماعي والديني والسياسي والاقتصادي. افتتح العرض في الثالث من شهر أغسطس الحالي ويستمر حتى الثالث من سبتمبر القادم.

    كما جرت العادة يعمد صاحب الصالة صالح بركات إلى إطلاق معرضين متزامنين في صالته يلتقيان وإن على مستوى تقريبي واحد لناحية الأفكار أو الإحالات المطروحة في كلا المعرضين. ففي الجزء الصغير من الطابق الأرضي والمُخصص للعرض من فضاء الصالة الكائنة في بيروت انطلق معرض للفنان اللبناني سعيد بعلبكي تحت عنوان “صخر أسود” متزامنا مع معرض آخر هو تكريم لأحد أبرز المهندسين المعماريين النهضويين في لبنان فريد طراد.

    لم يكن الفنان اللبناني سعيد بعلبكي يوما إلا فنانا مفهوميا وإن قدم أعمالا عديدة قوامها لوحات فنية تشكيلية المعالم. ألّف عناصر واضحة المعالم هي أشياء عادية لتنقر على باب اللا وعي ومُحمّلة بما ترمز إليه أو ما تلقيه في نفس المُشاهد من أصداء تحفر في الماضي الشخصي والجماعي.

    ونذكر معرض “البراق” الذي ابتكر الفنان جميع الأشياء فيه ومنها الهياكل العظمية والصور التي بدت توثيقية. من بين ما ضم هذا المعرض آنذاك هيكل عظمي لطائر البراق أنجزه الفنان استنادا إلى الخيال والوثائق ليليق بغرفة زجاجية مُحكمة الإقفال في متحف عالمي وعلمي خيالي.

    الفنان اللبناني سعيد بعلبكي لم يكن يوما إلا فنانا مفهوميا وإن قدم أعمالا عديدة قوامها لوحات فنية تشكيلية المعالم

    نذكر أيضا مجسم الحزام أو الزنار في عدة صيغ بصرية ووضعيات على منصات العرض، وأيضا في هذا السياق من أهم هذه الأعمال اللوحات التي صورت “مكوّمات” من حقائب السفر التي تبدو تارة وكأنها مُعدة للزج في فرن إحراق، وتارة أخرى كفرصة أخيرة للهرب من آثار الحرب الأهلية اللبنانية والاحتلال الإسرائيلي. لوحات هي الأقدر على التعبير عن كيفية أن تصبح الحقيبة وطنا بديلا. كما للفنان مجموعة أعمال أخرى عرضها سابقا في صالة “أجيال” هي منتقاة من ثلاثة كتب منجزة بالطباعة الحجرية، أي الليتوغرافي. ثلاثة كتب وأعمال فنية مُثقلة بهواجس الفنان اللبناني المتعلقة بالخراب، والنسيان، والذاكرة، والهجرة. قارب الفنان سعيد بعلبكي يومها الحرب اللبنانية وكأنها وحش مُدمى، أكثر ممّا هو دام، إذ لم يُقتل تماما ونسله مستمر إلى ما بعد اتفاق الطائف الشهير.

    هذه المرحلة الفنية المهمة في تاريخ الفنان، والتي وشت بتحوله القريب إلى عالم الفن المفهومي حتى وإن جاء مقنعا بالتشكيل الذي تسلل إليه التجريد على المستوى الشكلي والفكري كما في الأعمال التي ذكرناها آنفا، هذه المرحلة انتهت منذ عدة سنوات وكان الفنان واعيا لتحوله الجذري نحو الفن المفهوم، وقد سبق أنه أشار إلى هذا التحول في سياق أحد معارضه السابقة “عام 2020 لم يكن كورونا وحده، بل الانفجار المدمر لصومعة الحبوب في مرفأ بيروت. لم أستطع الرسم بعد الآن، كان هذا هو الحال بالفعل بعد حرب لبنان عام 2006. بالنسبة لي، فإن فكرة العمل هي أفضل علاج. الرسم عاطفي. لكن في أوقات الأزمات، يمكنني العمل بشكل أفضل من الناحية المفاهيمية”.

    اتسعت أطر الأزمات زمنيا وجغرافيا في ترابط مريب لنجد نص الفنان البصري يتحول أكثر فأكثر نحو الفن المفهومي.


    واللافت عند الفنان أنه في خضم العمل المفهومي كما في الأعمال المعروضة اليوم في الصالة تحت عنوان “الصخر الأسود”، احتفظ الفنان بخصائص فن النحت الواقعي – الهندسي ليأخذ المُشاهد إلى ما هو أبعد من المجسمات السوداء الصغيرة التي تصور مباني مهمة من العالم نحو دلالتها، لا بل نحو رمزية المادة التي استخدمها لتشكيلها وهي الفحم.

    بنى الفنان صروحه الدينية والمدنية من قطع الفحم المُشبّع بصور احتراقه البطيء إن لامسته النار، وبالمسميات التي تذكرنا بهشاشته حتى وإن قوّى الفنان بناءه بمواد داعمة. كما تأخذنا إلى المواد الأولى التي قبعت في جوف الأرض طويلا. هذا إذا لم نذكر مطولا رمزية الفحم في العديد من الحضارات العريقة حيث هو رمز للأسرار الكبرى.

    يذكر البيان الصحفي للمعرض أن الفنان اللبناني “استخدم في إنجازه لهذه الأعمال الفحم الإندونيسي العادي. تذكر مكعبات الفحم الفنان بألعاب طفولته التي كان يبني فيها ما حلا له من الأبنية. وهو اليوم يتابع بشكل آخر تشييد المباني من متاحف وكنائس وجوامع ومصارف”.

    أما الفنان سعيد بعلبكي فيقول عن المادة، أي الفحم، التي استخدمها لتبدو وكأنها أهم مما أنجز بها “رمزية وهشاشة ونعومة هذه المادة تكتنز انعكاسا لبواطن حاجاتنا ورغباتنا. تستوقفني هذه المادة بمواصفاتها. الحفاف والزوايا، الانسحابات منها تذوب أمام عينيّ. لا تتسم عذوبة هذه المادة بما يلائم ملمس الحرير وهيئته، بل هي عذوبة مكثفة ومتوحشة تكاد أن تكون عذوبة بكماء ترفض النطق وردّ الصوت”.


    تذكرنا كلمات الفنان هذه بالشاعر فرانسيس بونج حين التفت إلى الأشياء مُشيحا نظره عن البشر ليكتب شعرا عن الأشياء. الأشياء التي تمتلك حياة خاصة بها بغض النظر عن صانعها أو مُستخدمها أو مالكها من البشر. إنها شعرية المادة الخام الجلية في مظهرها والسرية في أطباعها غير المُحتاجة لغنائية مُضافة يعدّها لها الإنسان وفق مزاجه أو ميوله العامة.

    هذا ما سيراه وسيشعر به زائر المعرض لحظة وقوفه أمام المجسمات المشحونة بسواد الفحم وانعدام بريقه الذي يجعلها غامضة وجالبة وليست طاردة للنظر العميق والمُحتار في أمر بساطة أشكالها.

    يذكر أن سعيد بعلبكي ولد في بيروت عام 1974، وتلقى تدريبه الأكاديمي الفني في بيروت وعمان وبرلين. وهو يعيش اليوم بين برلين وبيروت. أقام منذ 1998 معارض فردية ومشاركات فنية عديدة في برلين ونيويورك ولندن وبيروت وباريس، وبلجيكا، والدوحة، ودبي.



    ميموزا العراوي
يعمل...
X