تاريخ العلوم : فاجنر "داروين" الجيولوجيا

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تاريخ العلوم : فاجنر "داروين" الجيولوجيا

    على عكس نظرية التطور، استغرقت فكرة انزياح القارات المقترحة من ألفرد فاجنر منذ حوالي 100 سنة، استغرقت أكثر من 40 سنة ليتم قبولها (في الوسط العلمي)، لكن نظرية عالم الأرصاد الجوية الشاب تتقاسم مع نظرية شارلز دارون العديد من القواسم المشتركة.سنة 1973 لاحظ عالم الجينات ثيودوسيوس دوبزونسكي أن: “لا شيء في البيولوجيا له معنى إلا في ضوء نظرية التطور”، وبنفس المنطق يمكن القول: “لا شيء في الجيولوجيا له معنى إلا في ضوء نظرية انزياح القارات” البعض قد يعترض قائلا بأنه من الأفضل التعبير بدقة والقول: “في ضوء تكتونية الصفائح ” لكن النظرية العامة لتطور كوكبنا يعود مصدرها بشكل واضح للأفكار التي تناولت موضوع حركة القارات، والتي تم عرضها لأول مرة وبشكل مكتوب سنة 1912 من طرف عالم أرصاد جوية شاب اسمه ألفرد فاجنر (1880 1930 -).
    في تلك السنة (1912) نشر فاجنر مقالين في دوريات علمية ألمانية، أحدهما عن الجيولوجيا، والآخر عن الجغرافيا، حيث عرض الأفكار الأساسية لفرضيته القائلة: القارات لا تحتل مواضع ثابتة على سطح الكوكب، لكنها تتحرك أو تنتقل وكأنها طوافات تسير على غير هدى، هذه الفكرة أصبحت شيئا عاديا بالنسبة لنا، لكن ليس منذ زمن بعيد؛ فإلى حدود بداية سبعينيات القرن الماضي لم يكن يحق الاستشهاد بهذه الفكرة في الجامعات الفرنسية إلا في حالات استثنائية نادرة، هذه الفكرة كانت ثورية سنة 1912 ، فإذا كان هناك قبول وإقرار بوجود تحركات عمودية/رأسية للقشرة الأرضية –لأنه كان ينبغي شرح كيفية نشوء الجبال- فإن فكرة وجود تحركات أفقية قادرة على نقل القارات مسافة آلاف من الكيلومترات كانت فكرة غير معقولة وغير قابلة للفهم بالنسبة للغالبية العظمى من الجيولوجيين.
    لم يكن فاجنر جيولوجيا؛ فبعد دراسات تمحورت حول الفيزياء، تحول نحو علم الأرصاد الجوية وعلم المناخ، ولامتلاكه مزاج وذهنية المستكشف فقد وجد نفسه منجذبا بسرعة نحو مناطق القطب الشمالي، سنة 1906 رحل فاجنر في بعثة علمية دانماركية إلى جرينلاند، و تمكن سنة 1913 من عبور الغطاء الجليدي لغرينلاند (السطح الجليدي الذي يغطي 80 بالمئة من مساحة الجزيرة) من الشرق إلى الغرب، توفي فاجنر سنة 1930 في بعثته العلمية الرابعة. بالإضافة إلى استكشافاته التي تتسم بروح المغامرة، فإن ما يشدنا في سيرة فاجنر العلمية هو تنوع المواضيع التي اهتم بها، هكذا نشر سنة 1921 مقالا عن حُفَرِ القمر انطلاقا من دراسات تجريبية (إعادة صنع حفر بواسطة اصطدام أحجار في مسحوق الإسمنت) ودافع عن فكرة مفادها أن حفر القمر تكونت بفعل اصطدامات مع النيازك، ولم تكن بالتالي ذات أصل بركاني، وقد أكد استكشاف القمر برحلات فضاء مأهولة أن فاجنر كان محقا فيما ذهب إليه.



    مستكشف في رحلة بحث عن مؤشرات وأدلة
    كيف خطرت في ذهن فاجنر فكرة انزياح القارات؟ ملاحظة بسيطة كانت من العوامل التي خلقت الفكرة؛ فالسواحل الشرقية والغربية للمحيط الأطلسي الجنوبي تتناسب وتتوافق مع بعضها البعض بشكل مذهل في حال اختفى هذا المحيط؛ فالبرازيل ستلتقي بشكل متناسب مع خليج غينيا. كان هناك آخرون قبل فاجنر سجلوا هذه الملاحظة، بل وخمنوا إمكانية تحرك القارات، لكن الفرق بين فاجنر وبين من سبقه أن فاجنر حاول الذهاب بعيدا إلى ما وراء هذه الملاحظة البسيطة، لأن فضوله كان يتم تحفيزه بما كان يقرؤه من مقالات حول أوجه التشابه الباليو-أنطولوجية بين إفريقيا وجنوب أمريكا، وبدأ في تجميع معطيات مختلفة من شأنها الإشارة إلى وجود علاقة استمرارية قديمة بين القارات التي تشرف من هنا وهناك على المحيط الأطلسي، هذا البحث عن مؤشرات استغرق كيان الباحث الألماني حتى نهاية حياته.
    من الصعب ألا نرى هنا تشابها وتوازيا مع مسيرة اسم آخر كبير في مجال العلم؛ إنه اسم شارلز دارون (الذي هو أيضا سبقه آخرون في أفكاره)، والتشابهات بين فاجنر ودارون عديدة؛ فعالم الطبيعة ألفرد والاس توصل إلى مفهوم الانتخاب الطبيعي بشكل مستقل عن دارون مما قاد سنة 1858 إلى إصدار تاريخي مشترك لأفكارهما، وبالمثل افترض عالم الجيولوجيا الأمريكي فرانك بورسلي طايلور سنة 1910 أن افريقيا وأمريكا الجنوبية كانتا ملتصقتين ومرتبطتين ببعضهما البعض قديما ثم انفصلتا، مما جعلنا نتكلم أحيانا عن نظرية “طايلور- فاجنر” لكن كما توارى إلى الظل اسم والاس بسبب دارون الذي طور فكرته، فكذلك حدث لاسم طايلور (الذي كان مهتما بشكل خاص بتكون السلاسل الجبلية الحديثة المطوية) فتمت التغطية عليه من طرف فاجنر.
    كما أمضى دارون حياته في البحث عن كل الأدلة الممكنة التي تدعم نظريته عن التطور بالانتخاب الطبيعي -كما تشهد بذلك مفكراته- فإن فاجنر جمع الأدلة التي يمكن أن تدعم فكرته عن تزحزح القارات. بعد نشر كتابه الرئيسي “نشأة القارات والمحيطات” أصدر فاجنر سنة 1915 طبعة خاصة من كتابه، حيث نجد أوراقا بيضاء تتخلل الصفحات المطبوعة، وحيث خط فاجنر فيها إضافات مخطوطة على أساس أنه وجد أدلة جديدة (أقول أنا المترجم هذه الإضافات بخط اليد هي رسومات تصف تطور شكل القشرة الأرضية –انتهى كلامي-).
    نتيجة هذا البحث المستمر، وكما كان الحال مع كتاب “أصل الأنواع” لدارون فإن كتاب فاجنر طبع طبعات عديدة، آخرها كان سنة 1929 ، سنة واحدة قبل الرحيل التراجيدي لمؤلفه.
    توفي فاجنر سنة 1930 خلال بعثة إلى جرينلاند وهو متجه بزلاجات إلى محطة علمية توجد وسط الغطاء الجليدي في اتجاه الساحل، ويظهر أنه كان ضحية لأزمة قلبية (لم يتم العثور على جسده إلا شهورا بعد ذلك). هذه النهاية المبكرة توضح لنا –جزئيا- لماذا استغرقت فرضية انزياح القارات وقتا طويلا حتى تفرض نفسها، على عكس نظرية التطور الداروينية التي تم قبولها بسرعة في الوسط العلمي على الرغم من كل الاعتراضات القوية التي أثارتها، لو كان قد أتيح لفاجنر أن يستكمل تنقيح نظريته وتجميع ما يلزمه من معطيات لدعمها لربما استطاعت أفكاره أن تنتشر بسرعة أكبر.

    أية قوى تحرك القارات؟
    أثارت نظرية انزياح القارات في حياة صاحبها نقاشات في الوسط العلمي، وبشكل خاص في بريطانيا العظمى، وفرنسا، والولايات المتحدة الأمريكية (ينبغي التنويه إلى أن فاجنر لم يشارك شخصيا في هذه النقاشات، تماما كدارون الذي نأى بنفسه عن النقاشات التي دارت حول نظريته)، بعض علماء الجيولوجيا أصحاب الأسماء الوازنة كإميل أرغون من سويسرا وألكسندر دو توا من جنوب إفريقيا نصبوا أنفسهم كمدافعين عن أفكار فاجنر، لكن -بشكل عام- قوبلت هذه الأفكار بالرفض من طرف جمهور المتخصصين، لكن ليس إلى حد أن تسقط في دائرة النسيان.
    في ألمانيا، ولأسباب لا يزال ينبغي تحديدها، حظيت فرضية انزياح القارات بقبول النظام النازي (فلم يكن من الطبيعي حينها أن تنتشر خارج ألمانيا) وكان ينبغي انتظار سبعينيات القرن الماضي لكي يُقِرَّ جمهور الجيولوجيين والجيو-فيزيائيين بأن القارات تتحرك فعلا ودون أدنى شك على سطح الكوكب. حدث هذا التحول في الموقف عندما اقترحت نظرية تكتونية الصفائح نموذجا (تفسيريا) عاما يشرح في الوقت نفسه انزياح القارات، وازدياد عمق المحيطات، والحركات الظاهرة للأقطاب المغناطيسية.
    نقطة الضعف في نظرية فاجنر كانت غياب ميكانيزم أو آلية يتم وفقها تفسير حركة القارات، توضح العديد من الأدلة الجيولوجية والباليو-أنطولوجية والباليو-مناخية أن الكتل القارية المنفصلة حاليا كانت في الماضي متحدة، هذا يسمح لنا على سبيل المثال بفهم لماذا توجد العديد من البنيات الجيولوجية الملاحظة في أوربا وأمريكا الشمالية في حالة تكامل في حال أزلنا المحيط الأطلسي، أو لماذا توجد اليوم العديد من الحيوانات والنباتات المتشابهة جدا مفصولة عن بعضها البعض بمحيطات هائلة. لكن أية قوى هذه كانت وراء تحريك/نقل القارات على سطح الأرض؟ افترض فاجنر أن تشكل القارات من صخور جرانيتية بالأساس وخفيفة نسبيا جعلها تعوم على طبقة بازلتية أكثر كثافة، لكن كيف كانت هذه الكتل تتحرك بشكل منحرف فوق هذه الركيزة الصلبة؟ القوى التي تكلم عنها فاجنر في الأصل في ارتباطها بدوران الأرض حول نفسها، كل هذا لم يكن كافيا على الإطلاق لإحداث التحركات المفترضة (للقارات).

    لم يكن جيولوجيا
    دون أن نذهب بعيدا في هذا الصدد، لنستأنف من جديد المقارنة بين فاجنر ودارون، كما لم تكن لفاجنر فكرة عن الميكانيزمات أو الآليات القادرة على تحريك القارات، فإن عالم الطبيعة الإنجليزي دارون كانت تنقصه هو أيضا نظرية ذات مصداقية عن الوراثة (وذلك رغم وجود اكتشافات عالم النباتات الراهب موراف جريجور مونديل، علما أنها منشورة ابتداء من سنة 1860 لكن دارون لم ينتبه لها) كان ينبغي إذن انتظار العقود الأولى من القرن العشرين لتصبح نظرية التطور مدققة ومحققة بفضل تطور علم الوراثة والجينات، واليوم، النظرية التركيبية للتطور أو الدارونية الحديثة في التطور هي مقبولة بشكل أساسي.
    رغم الصعوبات التي واجهتها نظرية التطور فقد استطاعت أن تفرض نفسها على الغالبية العظمى من علماء البيولوجيا في بحر عدة عقود من الزمن، لكننا لا نستطيع قول الشيء نفسه عن فرضية انزياح القارات التي طالما اُعْتُبِرَتْ رؤية أو إشراقة ذهنية لا تستند على أسس صلبة، فلماذا هذا الرفض؟ من بين الأسباب دون شك كون الإصدار الأول لكتاب فاجنر (حيث نجد عرضا لنظريته أكثر تفصيلا وأكثر غنى بالأدلة مقارنة بالمقالات التي صدرت له سنة 1912 ) هذا الإصدار الأول للكتاب كان سنة 1915 أي في أوج فترة الحرب العالمية الأولى، حيث التحق فاجنر بالخدمة العسكرية في بلاده، فلم يُتَحْ لكتابه أن يصادف سوى جمهور ضيق، وهناك عامل آخر كان، بدون شك، عاملا حاسما، وهو أن عالم الأرصاد الجوية فاجنر لم يكن جزء من الوسط العلمي الجيولوجي، الذي أسس منذ عقود لنظريات تحاول تفسير تاريخ الأرض في إطار ثابت/سكوني حيث تحتل القارات مواضع ثابتة لا تتغير، فكان سهلا بالتالي ربط صفة الثورية التي ميزت أفكار فاجنر بكونه نوعا ما باحث هَاوٍ.
    ويبقى غياب محرك واضح يحفز حركة القارات بمثابة نقطة الضعف الكبيرة التي تعاني منها نظرية فاجنر الذي كان ربما على وعي بها، لأنه طيلة الفترة التي غطت إصدارات كتابه كان يجهد نفسه ليجد حلا لهذه المشكلة الرئيسية، دون شك اقترب فاجنر من الحل، خاصة عندما أشار إلى تيارات الحمل الحراري داخل الوشاح الأرضي المرتبطة باختلافات درجة الحرارة بين المجالات العميقة والمجالات الأكثر ارتفاعا، وهذا ما كان قد أشار الجيولوجي النمساوي أوتو أومبفيرير منذ سنة 1925 إلى أهميته المحتملة في انزياح القارات (فكرة تمت إثارتها أيضا من طرف الجيولوجي البريطاني آرثر هولمز).
    مهما يكن، فقد ظلت فرضية انزياح القارات لمدة أربعين سنة فكرة هامشية في علوم الأرض، لكن لم يتم نسيانها بشكل مطلق، بل، وفي كثير من الأحيان، تتم الإشارة إليها بشكل منتظم في المقررات الدراسية لتوضيح أنها فرضية تحاول دفع اعتراضات لا سبيل لدفعها. إلى حدود ستينيات القرن الماضي كانت تتواصل صياغة نماذج نظرية تفسيرية في إطار الباليو-جغرافيا في سياق سكوني/ ثابت، حيث تم افتراض وجود “جسور قارية” وهمية ممتدة على طول المحيطات لتفسير التشابهات الباليو-أنطولوجية بين القارات الثابتة (في حين أوضح استكشاف أعماق المحيطات بشكل متزايد أن وجود هذا النوع من الترابطات احتمال بعيد).

    لا شيء ثابت
    كيف يمكن أن نفسر التحول السريع الذي وقع في سبعينيات القرن الماضي للمجتمع العلمي نحو الأفكار التي صاغها فاجنر منذ 1912 حول حركية القارات؟ القيام بقراءة حول الثورات العلمية على ضوء أفكار مؤرخ العلوم طوماس كوهن ستكون سهلة. اتضح أن نموذج ثبات وسكونية القارات الذي هيمن على علوم الأرض (منذ نشأة هذه العلوم في بداية القرن 19 ) اتضح بشكل متزايد أنه غير قادر على تفسير عدد متزايد من الظواهر المكتشفة من طرف الجيولوجيا والجيو-فيزياء والباليو-أنطولوجيا (سواء تعلق الأمر بالتحرك الظاهر للأقطاب المغناطيسية، أو التوزيع الجغرافي للكائنات الحية وللمتحجرات، أو نمط تشكل السلاسل الجبلية). لقد حان الوقت لثورة علمية، لتحول في النموذج (التفسيري)، بحيث تحل الفرضية القائلة بحركة القارات محل الاعتقاد بثباتها وسكونها، إنها الفرضية الوحيدة التي يمكن أن تعطي معنى لتلك الملاحظات (الجديدة)، من المؤكد أن تكتونية الصفائح بصيغتها التي فرضت نفسها (على المجتمع العلمي) أواخر ستينيات القرن الماضي ليست –مع بعض الاحتياطات- هي نظرية انزياح القارات كما تشكلت في ذهن فاجنر سنة 1912 ، ولم تكن لتكون كما هي لولا الاكتشاف الذي تم بعد ذلك عن تزايد عمق المحيطات، وتطور الأبحاث في مجال الباليو-مغناطيسية، لكن نظرية تكتونية الصفائح تدين بالفضل لفاجنر في مفهومها الأساسي الذي ترتكز عليه ألا وهو تحرك القارات.
    لماذا الأفكار التي تبدو لنا اليوم جد بديهية كتطور الأنواع وانزياح القارات لم تفرض نفسها بسهولة كبيرة؟ هل يمكن أن نرى في هذا مقاومة غريزية لكل ما هو متغير ومتحرك يسعى ليحل محل الثابت غير المتغير. تماما كما كان صعبا بالنسبة للكثيرين (وما يزال صعبا لحد الآن بالنسبة للبعض) الإقرار بأن الأنواع الحية ليست ثابتة وإنما تتغير بشكل لانهائي مع الزمن، فكذلك لم يكن سهلا القبول بفكرة أن القارات (اليابسة) لم تكن دوما ثابتة في مواضعها التي نعرفها اليوم، بل إنها تتحرك على سطح الكوكب في رقصة لا نهاية لها. دارون وفاجنر، كل واحد بطريقته الخاصة وفي سياقات مختلفة، ساعدانا على الإعتراف بأن لا شيء ثابت في الطبيعة.
يعمل...
X