قصة قصيرة
الحاوي
وقف في منتصف الميدان المكتظ بالناس الذين لم ينتبهوا لهيئته وملابسه الغريبة ملقيا عليهم نظرة سريعة متفرسة في الوجوه التي تحمل قسمات مختلفة رسمتها الدنيا عليها، ألقي جرابه العتيق عل الأرض وبدا يخرج بعض الادوات التي يحترف استخدامها لجذب العيون والاذان الشاردة اليه .
بدأ بكلماته الاستعراضية بصوته الجهور حتي يجذب اليه الانظار الشاردة متحدثا عن قدراته ممنيا اياهم بعرض لا مثيل له ، تجمع حوله الكثير من الاطفال مع بعض ذويهم صانعين حوله حلقة كافية لتكون مسرحا صغيرا يعطيه المساحة ليقدم اليهم ألعابه ، وضع النفط في فمه مطلقا اياه خط نار للأعلي ، لعب بالحلقات المغلقة مدخلا اياها في بعضها ثم القماشات الملونة التي بحركة خفية يخرجها مربوطة ببعضها مما اثار اعجاب العيون البريئة وضحكات الكبار الذين شاهدوا تلك الالعاب كثيرا في حياتهم قبل ان يتملك منهم الملل الذي يدفعهم للانصراف .
هنا دعاهم ليصبروا حتي يشهدوا العرض العظيم الذي وعدهم به ، توقفوا عن الانصراف في نفاذ صبر كفرصة اخيرة يمنون عليه بها ، وقف رافعا يديه ورأسه للسماء صامتا لبرهة ، وبدأ يصيح بكلمات لا تشكل جملا كاملة ، ولكنها تمس كل واحد من المتفرجين علي حده ، وفي لحظات ظهرت صورته وانطلق صوته علي شاشات التلفازات الموجودة بالحوانيت المطلة علي الميدان ، بل دخلت كل بيوت المدينة وجوالات سكانها مرددة الهراء الذي ينطق به عن كل ما يمس حياتهم والذي يملأه الكذب المرفوض من اي منطق ، وسرعان ما تحول الكذب الي كلام مستساغ بل ومصدق .
فرضت كذباته نفسها علي نفوس كل أسرة بالمدينة حتي إغتربت الحقائق بينهم ، جعلت كل فرد منهم يتقن حيل جديدة لم يكن لها وجود في سابقيهم مطبقا إياها علي الآخر ، بدأت بإخفاء المشاعر الفطرية المخلوقة معهم داخل الأرحام لبعضهم ليحل محلها ألعاب السيطرة بأنواع شتي من الطرق، بالمال أو بالواجبات المجردة من الحقوق او الحريات مطاطية المعني، حيل جعلت أحجام كل منهم ومقاماتهم تتصاغر في أعين بعضهم لبعض .
عندها تسابق اهل المدينة الي ميدان العرض تحت أقدام الحاوي وكأنه قد تملك قراراتهم ، سرعان ما امتدت الأيادي بشراهة الي جرابه لعل كلا منهم يخطف منه ما يناسبه ، يد الحاكم أمسكت بوق مربوط به عصا غليظة وبدأ في ممارسة حيله تارة بالبوق الذي لا يعطي سوي الصوت وتارة بالعصي التي تسكت الأصوات المعارضة وتكسر الحناجر إن لزم الأمر، أخرج الجراب لرجال الدين المخطوطات القديمة وبها أقلام تمحي منها مالا يخدم حيلهم ، أخرج للمعلمين أوراق الشهادات التي عرضت كأنها هي المستقبل بلا علم يؤيدها ، وللأطباء أوراق تحاليل وعقاقير تأسر من يقع تحت أيديهم في سجن الخوف ، وللتجار الموازين الجائرة ، كان الجراب يخرج لكل واحد أداته التي تمكنه من اتقان حيلته وتجعله مسيطرا بها علي الباقين سواء بالخوف أو بالطمع.
تحولت المدينة بأكملها الي مسرح يتزاحم فيه مقدمي الحيل المختلفة ولم يبقي للمشاهدين سوي الحلقة الصغيرة التي وقف فيها الأطفال حول الحاوي الذي وقف صامتا يراقب إنفجار هوس الحيل المختلفة بين أهل المدينة والتي يمارسونها جميعهم علي بعضهم البعض ، التفت الي اليد الصغيرة التي تجذبه وصاحبها يسأله إن كان ذلك هو نهاية العرض العظيم .
تبسم ضاحكا مخبرا إياه أن الجراب لازال فيه الكثير الذي لم يظهر بعد .
الكاتب / محمد الدولتلي
الحاوي
وقف في منتصف الميدان المكتظ بالناس الذين لم ينتبهوا لهيئته وملابسه الغريبة ملقيا عليهم نظرة سريعة متفرسة في الوجوه التي تحمل قسمات مختلفة رسمتها الدنيا عليها، ألقي جرابه العتيق عل الأرض وبدا يخرج بعض الادوات التي يحترف استخدامها لجذب العيون والاذان الشاردة اليه .
بدأ بكلماته الاستعراضية بصوته الجهور حتي يجذب اليه الانظار الشاردة متحدثا عن قدراته ممنيا اياهم بعرض لا مثيل له ، تجمع حوله الكثير من الاطفال مع بعض ذويهم صانعين حوله حلقة كافية لتكون مسرحا صغيرا يعطيه المساحة ليقدم اليهم ألعابه ، وضع النفط في فمه مطلقا اياه خط نار للأعلي ، لعب بالحلقات المغلقة مدخلا اياها في بعضها ثم القماشات الملونة التي بحركة خفية يخرجها مربوطة ببعضها مما اثار اعجاب العيون البريئة وضحكات الكبار الذين شاهدوا تلك الالعاب كثيرا في حياتهم قبل ان يتملك منهم الملل الذي يدفعهم للانصراف .
هنا دعاهم ليصبروا حتي يشهدوا العرض العظيم الذي وعدهم به ، توقفوا عن الانصراف في نفاذ صبر كفرصة اخيرة يمنون عليه بها ، وقف رافعا يديه ورأسه للسماء صامتا لبرهة ، وبدأ يصيح بكلمات لا تشكل جملا كاملة ، ولكنها تمس كل واحد من المتفرجين علي حده ، وفي لحظات ظهرت صورته وانطلق صوته علي شاشات التلفازات الموجودة بالحوانيت المطلة علي الميدان ، بل دخلت كل بيوت المدينة وجوالات سكانها مرددة الهراء الذي ينطق به عن كل ما يمس حياتهم والذي يملأه الكذب المرفوض من اي منطق ، وسرعان ما تحول الكذب الي كلام مستساغ بل ومصدق .
فرضت كذباته نفسها علي نفوس كل أسرة بالمدينة حتي إغتربت الحقائق بينهم ، جعلت كل فرد منهم يتقن حيل جديدة لم يكن لها وجود في سابقيهم مطبقا إياها علي الآخر ، بدأت بإخفاء المشاعر الفطرية المخلوقة معهم داخل الأرحام لبعضهم ليحل محلها ألعاب السيطرة بأنواع شتي من الطرق، بالمال أو بالواجبات المجردة من الحقوق او الحريات مطاطية المعني، حيل جعلت أحجام كل منهم ومقاماتهم تتصاغر في أعين بعضهم لبعض .
عندها تسابق اهل المدينة الي ميدان العرض تحت أقدام الحاوي وكأنه قد تملك قراراتهم ، سرعان ما امتدت الأيادي بشراهة الي جرابه لعل كلا منهم يخطف منه ما يناسبه ، يد الحاكم أمسكت بوق مربوط به عصا غليظة وبدأ في ممارسة حيله تارة بالبوق الذي لا يعطي سوي الصوت وتارة بالعصي التي تسكت الأصوات المعارضة وتكسر الحناجر إن لزم الأمر، أخرج الجراب لرجال الدين المخطوطات القديمة وبها أقلام تمحي منها مالا يخدم حيلهم ، أخرج للمعلمين أوراق الشهادات التي عرضت كأنها هي المستقبل بلا علم يؤيدها ، وللأطباء أوراق تحاليل وعقاقير تأسر من يقع تحت أيديهم في سجن الخوف ، وللتجار الموازين الجائرة ، كان الجراب يخرج لكل واحد أداته التي تمكنه من اتقان حيلته وتجعله مسيطرا بها علي الباقين سواء بالخوف أو بالطمع.
تحولت المدينة بأكملها الي مسرح يتزاحم فيه مقدمي الحيل المختلفة ولم يبقي للمشاهدين سوي الحلقة الصغيرة التي وقف فيها الأطفال حول الحاوي الذي وقف صامتا يراقب إنفجار هوس الحيل المختلفة بين أهل المدينة والتي يمارسونها جميعهم علي بعضهم البعض ، التفت الي اليد الصغيرة التي تجذبه وصاحبها يسأله إن كان ذلك هو نهاية العرض العظيم .
تبسم ضاحكا مخبرا إياه أن الجراب لازال فيه الكثير الذي لم يظهر بعد .
الكاتب / محمد الدولتلي