تويت
على قيد الموت على وشك الحياة
أحمد العيساوي 17 يناير 2023
يوميات
(ضياء العزاوي)
شارك هذا المقال
حجم الخط
تهيأت لي فرصة الانفراد بنفسي مع أنني لم أكن لوحدي. سافرت مع صديق لمدينة أخرى، طلبت منه أن نذهب بسيارته وألا يتحدث معي إلا إن سألته، فوافق. كأيام الطفولة نمت على كتف الباب أراقب قدوم الأشجار والأشياء من بعيد، كيف تُقبل كبيرة ثم تغادر صغيرة ثم تصغر ثم تختفي. كانت السيارة تأكل الطريق من تحتي. خطوط الشارع تتعاقب سريعا كأيامنا هذه.
كالعابرين في حياتنا مثل الصفحات تقلبها ريح نيسان. مثل طفل ولد ساعة الفجر وأدرك سريعًا ضجر الحياة فمات عند الظهيرة. لا شيء أكثر إيلامًا من ذاكرة نازفة، أو طريق طويل ممل لا يخلو من لحظات فرح لم تكتمل وغدر لا يُحتمل.
تذكرت الصغار الذين حلقوا في السماء ولم يعودوا. القلوب الغادرة التي بقيت وفية لطبعها في ممارسة اللعب باحتراف، وأن أشهر قصص الوفاء أبطالها الكلاب.
ليست جميع الأخطاء قابلة للغفران. بعض الغفران كفر، وبعض الانتقام شعور نبيل. كسر الخواطر مثل الخطأ الطبي لا عذر فيه ولا مغفرة. من قال لك نحن متشابهان فهو كاذب. الشبه لا يُقال، بل يُعاش. وأيام السوء لا تشبه بعضها. لا تستقيم حياة من جانب واحد ولا تستمر العلاقات من جانب واحد والاهتمام لا يكتمل من جانب واحد والحب عبث من جانب واحد والكره كذلك.
القرارات قدر مختار يقطع الطريق على اللون الرمادي. على قيد الموت تبقى إن لم تتخذ القرارات وعلى وشك أن تحيا إن استطعت مواجهة مخاوفك. ليست كل الثورات من أجل الربيع، بعضها لطرد الخريف الجاثم على ربوع السنين، بعض الغياب حضور، وبعض الحضور فجور بحق النفس.
أجمل الناس هم الغرباء. نسائم لم يتعمقوا فينا ولم ندقق بدواخلهم، نزلوا وارتحلوا من غير وجع. دائمًا نذكرهم بخير ونشتاق لهم. الإنسان يعشق الزاهدين بما لديه. الشعور بالإرهاق والرغبة في السبات الطويل هي علامات الخذلان ودلائل لا ينبغي إهمالها كثيرًا، أن تتحدث مع نفسك وتعيش داخلها، وتخوض معارك مع ذاتك أشياء لا يعرفها سواك وربما من تسبب بها على سبيل الشماتة أو بقية من ضمير، وكلاهما لا يستحق. طعم المرارة في أفواهنا مؤلم لكنه عظيم، يذكرنا بالجبر بعد الكسر. ورائحة الغدر ستبقى نتنة ولو تعلق صاحبها بأستار الكعبة.
قصة حياتنا يكتبها العابرون في تفاصيلها. في الحقيقة هم أبطال الرواية لا نحن، فلا نقنع أنفسنا أن الدنيا تدور حولنا. خبيئة القلب ودفينة الذات وانسلاخ الروح وأشياء علقت في صدرك وعجز اللسان عن البوح بها والبكاء المحبوس في حنجرتك، كلها تفاصيل يتسلى بها الآخرون حزنًا أو فرحًا لكنها لا تعنيهم. ستصل في النهاية إلى حقيقة أن من تحتفظ به هو من يبقى معك عندما يغادرك الجميع.
اقتربنا من الوصول للمدينة. قال صديقي: كان لصمتك ضجيج وكنتَ بين لحظة وأخرى تتحرك كالذي يصارع الموت في لحظات الاحتضار. ابتسمت. يا صديقي لم يكن احتضارًا كان ولادة جديدة. وصلنا واستقبلتنا قلاع المدينة بهية عالية كأنها رماح ممدودة للسماء. وقفنا عند أول إشارة ضوئية، سألني صاحبي: أتريد أن تلوذ بصمتك عندما نعود؟ لا أبدًا. فقد تألمت حتى شفيت، وصدقت أن من كنت انتظره وتحدثه نفسي طوال الوقت قد مات بالأمس.
*كاتب عراقي.
يوميات
(ضياء العزاوي)
شارك هذا المقال
حجم الخط
تهيأت لي فرصة الانفراد بنفسي مع أنني لم أكن لوحدي. سافرت مع صديق لمدينة أخرى، طلبت منه أن نذهب بسيارته وألا يتحدث معي إلا إن سألته، فوافق. كأيام الطفولة نمت على كتف الباب أراقب قدوم الأشجار والأشياء من بعيد، كيف تُقبل كبيرة ثم تغادر صغيرة ثم تصغر ثم تختفي. كانت السيارة تأكل الطريق من تحتي. خطوط الشارع تتعاقب سريعا كأيامنا هذه.
كالعابرين في حياتنا مثل الصفحات تقلبها ريح نيسان. مثل طفل ولد ساعة الفجر وأدرك سريعًا ضجر الحياة فمات عند الظهيرة. لا شيء أكثر إيلامًا من ذاكرة نازفة، أو طريق طويل ممل لا يخلو من لحظات فرح لم تكتمل وغدر لا يُحتمل.
تذكرت الصغار الذين حلقوا في السماء ولم يعودوا. القلوب الغادرة التي بقيت وفية لطبعها في ممارسة اللعب باحتراف، وأن أشهر قصص الوفاء أبطالها الكلاب.
ليست جميع الأخطاء قابلة للغفران. بعض الغفران كفر، وبعض الانتقام شعور نبيل. كسر الخواطر مثل الخطأ الطبي لا عذر فيه ولا مغفرة. من قال لك نحن متشابهان فهو كاذب. الشبه لا يُقال، بل يُعاش. وأيام السوء لا تشبه بعضها. لا تستقيم حياة من جانب واحد ولا تستمر العلاقات من جانب واحد والاهتمام لا يكتمل من جانب واحد والحب عبث من جانب واحد والكره كذلك.
القرارات قدر مختار يقطع الطريق على اللون الرمادي. على قيد الموت تبقى إن لم تتخذ القرارات وعلى وشك أن تحيا إن استطعت مواجهة مخاوفك. ليست كل الثورات من أجل الربيع، بعضها لطرد الخريف الجاثم على ربوع السنين، بعض الغياب حضور، وبعض الحضور فجور بحق النفس.
أجمل الناس هم الغرباء. نسائم لم يتعمقوا فينا ولم ندقق بدواخلهم، نزلوا وارتحلوا من غير وجع. دائمًا نذكرهم بخير ونشتاق لهم. الإنسان يعشق الزاهدين بما لديه. الشعور بالإرهاق والرغبة في السبات الطويل هي علامات الخذلان ودلائل لا ينبغي إهمالها كثيرًا، أن تتحدث مع نفسك وتعيش داخلها، وتخوض معارك مع ذاتك أشياء لا يعرفها سواك وربما من تسبب بها على سبيل الشماتة أو بقية من ضمير، وكلاهما لا يستحق. طعم المرارة في أفواهنا مؤلم لكنه عظيم، يذكرنا بالجبر بعد الكسر. ورائحة الغدر ستبقى نتنة ولو تعلق صاحبها بأستار الكعبة.
قصة حياتنا يكتبها العابرون في تفاصيلها. في الحقيقة هم أبطال الرواية لا نحن، فلا نقنع أنفسنا أن الدنيا تدور حولنا. خبيئة القلب ودفينة الذات وانسلاخ الروح وأشياء علقت في صدرك وعجز اللسان عن البوح بها والبكاء المحبوس في حنجرتك، كلها تفاصيل يتسلى بها الآخرون حزنًا أو فرحًا لكنها لا تعنيهم. ستصل في النهاية إلى حقيقة أن من تحتفظ به هو من يبقى معك عندما يغادرك الجميع.
اقتربنا من الوصول للمدينة. قال صديقي: كان لصمتك ضجيج وكنتَ بين لحظة وأخرى تتحرك كالذي يصارع الموت في لحظات الاحتضار. ابتسمت. يا صديقي لم يكن احتضارًا كان ولادة جديدة. وصلنا واستقبلتنا قلاع المدينة بهية عالية كأنها رماح ممدودة للسماء. وقفنا عند أول إشارة ضوئية، سألني صاحبي: أتريد أن تلوذ بصمتك عندما نعود؟ لا أبدًا. فقد تألمت حتى شفيت، وصدقت أن من كنت انتظره وتحدثه نفسي طوال الوقت قد مات بالأمس.
*كاتب عراقي.