ما الذي حلّ بفن البكاء الرجولي النبيل؟

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ما الذي حلّ بفن البكاء الرجولي النبيل؟

    ما الذي حلّ بفن البكاء الرجولي النبيل؟
    ساندرا نيومان 15 يناير 2023
    ترجمات
    (Getty)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط
    ترجمة: سارة حبيب
    أحد أكثر أفكارنا رسوخًا عن الذكورة هي أن الرجال لا يبكون. قد يذرف الرجل دمعة رصينة في جنازة، ومن المقبول أن تتصاعد الدموع إلى عينيه عندما يصفق باب السيارة على أصابعه، لكن يُتَّوقع من الرجل الحقيقي أن يستعيد توازنه سريعًا. فالنشيج علنًا يقتصر على الفتيات.
    ليس هذا أمرًا متوقعًا اجتماعيًا وحسب؛ إنه حقيقة علمية. وكل الأبحاث حتى يومنا هذا تجد أن النساء يبكين أكثر من الرجال بشكل ملحوظ. على سبيل المثال، وجدت دراسة تجميعية قامت بها جمعية طب العيون الألمانية عام 2009 أن النساء يبكين، وسطيًا، بمقدار خمس مرات أكثر من الرجال، وضعفي المدة تقريبًا لكل حادثة. وهذا التباين مألوف للغاية حدّ أننا نميل إلى افتراض أنه مبرمج بيولوجيًا؛ أنه، سواء أحببنا أم لا، يشكّل أحد الفروق الجندرية التي لا تزول.
    لكن، في الواقع، يبدو أن التفاوت الجندري في مسألة البكاء هو تطوّر حديث. فالأدلة التاريخية والأدبية تدل على أن الرجال، في الماضي، لم يبكوا في العلن وحسب، بل أيضًا لم يرَ أحد الأمر كذلك أنثويًا أو شائنًا. في الحقيقة، كان يُعد بكاء الذكر طبيعيًا في كل جزء من العالم تقريبًا طوال معظم التاريخ المسجَّل.
    في إلياذة هوميروس، على سبيل المثال، ينفجر الجيش الإغريقي بأكمله في بكاء جماعي ثلاث مرات على الأقل. لا يبكي الملك برَيام وحسب، بل أيضًا يقطّع شَعره كذلك، ويعفّر وجهه بالتراب حسرةً. يبكي زيوس أيضًا دموعًا من دماء، وحتى أحصنة أخيل الخالدة تبكي بكاء شديدًا عند موت فَطرُقل. بالطبع، لا يمكننا اعتبار الإلياذة توصيفًا موثوقًا لأحداث تاريخية، لكن ما من شك في أن الإغريق القدامى رأوا فيها نموذجًا لكيفية تصرّف الرجال الأبطال.
    استمرّ هذا التبجيل لبكاء الذكور إلى العصور الوسطى، إذ يظهر في سجلات تاريخية، وفي حكايات تخييلية على السواء. وفي السجلات الزمنية لتلك المرحلة، نجد رسولًا ينفجر بالبكاء مرة بعد مرة عندما يخاطب فيليب الطيب، ونرى جميع الحاضرين في مؤتمر سلام يلقون بأنفسهم على الأرض، ينشجون ويتأوهون أثناء استماعهم إلى الخطابات. في الملحمة الفرنسية من القرن الحادي عشر "أغنية رولان"، يصف الشاعر رد الفعل على موت البطل الذي تحمل الملحمة اسمه: "يبكي لوردات فرنسا دموعًا مريرة،/ ويفقد عشرون ألفًا الوعي حزنًا ويسقطون على الأرض". يمكن أن نكون واثقين تمامًا من أن الأمر لم يحدث كما هو موصوف بالضبط. لكن، لا يزال لافتًا للنظر أن عشرين ألف فارس فقدوا الوعي من شدة الحزن قد ظلوا يُعدون من النبلاء، لا سخيفين.
    علاوة على ذلك، لم يكن البطل الذكر الناشج ظاهرة غربيّة وحسب، فهو يظهر في ملاحم يابانية كذلك. في "حكاية الهائيكي" التي يُستَشهد بها غالبًا كمصدر للسلوك المثالي للساموراي، نجد رجالًا يبكون جهرًا في كل مناسبة. وها هو مثلًا رد فعل نمطي هناك لموت قائد عام: "من بين كل من سمع الخبر، أصدقاء أو أعداء، ما من أحد إلا وبكى إلى أن تبلّلت أكمامه بالدموع".
    قد يعترض بعضكم قائلين إن هذه كلها ليست إلا تعابير طقسيّة عامة عن الحزن. وأن الرجال قد يبكون بهذه الطريقة الشعائرية جرّاء مسائل جسيمة كالموت، الحرب والسياسة، لكن ألم تكن دموع الحب والإحباط الشخصية محصورة بالنساء؟
    بكلمة واحدة: لا. ففي الحكايات الرومانسية القروسطية، نجد أمثلة لا تحصى عن فرسان يبكون لأنهم يفقدون حبيباتهم. في قصيدة كريتيان دي تروا "فارس العربة"، يبكي لانسُلو، الذي ليس أقل من بطل، بسبب انفصال وجيز عن غوينيفير. ويبكي، في موقع آخر، على كتف سيدة جرّاء اعتقاده بأنه لن يتمكن من الذهاب إلى بطولة مبارزات كبيرة. بالإضافة إلى ذلك، لا تشمئز السيدة من هذا الانتحاب، بل تندفع لمساعدته، ويتمكن لانسُلو من الذهاب إلى البطولة في آخر الأمر. كذلك، يبكي فرسان الملك آرثر، الملك مارك، الملك أيًا يكن بشكل روتيني في كل مرة تُروى لهم قصة تفطر القلب. في النتيجة، من الصعب التفكير بأية حالات مخصصة قد تكون فيها الدموع من اختصاص النساء حصرًا.

    "في إلياذة هوميروس، على سبيل المثال، ينفجر الجيش الإغريقي بأكمله في بكاء جماعي ثلاث مرات على الأقل. لا يبكي الملك برَيام وحسب، بل أيضًا يقطّع شَعره كذلك، ويعفّر وجهه بالتراب حسرةً"


    علاوة على ذلك، ما يلفت النظر أكثر من ذلك أنه ما من ذِكر في هذه القصص لرجال يحاولون كبح دموعهم، أو إخفاءها. لا يدّعي أي رجل أن ثمة شيئًا في عينه. لا يختلق أي رجل عذرًا ليغادر الغرفة. إنهم يبكون في قاعات مزدحمة ورؤوسهم مرفوعة. ولا يسخر رفاقهم منهم جرّاء هذا النواح العلني؛ فالبكاء عالميًا حينئذ يُعدُّ تعبيرًا مثيرًا للإعجاب عن المشاعر.
    الإنجيل أيضًا مليء بإشارات مماثلة إلى بكاء علني لملوك، وشعوب بأكملها، وبكاء الرب ذاته (مجسَّدًا بالمسيح). إنه أمر مفهوم، إذًا، أن الدموع كانت لقرون مرتبطة بالتقوى. "الاعترافات" التي كتبها القديس أوغسطين مليئة بتوصيفات لبكاء القديس غير المكبوت. ورسالة القديس جيروم إلى يوستوكيوم فيها ثماني إشارات منفصلة إلى البكاء؛ يصف القديس نفسه على أنه "سيول من الدموع"، "غارق في الدموع"، وينتهي إلى حثِّ المتعبّدين قائلًا: "اغسلْ سريرك كل ليلة، واسقِ مضجعك بالدموع". كذلك، يصف القديس إغناطيوس من لويولا، مؤسّس اليسوعية، 175 حادثة بكاء منفصلة في قسم واحد فقط من يومياته مكون من أربعين صفحة.
    كان البكاء جزءًا رئيسيًا من العبادة لدرجة أنه كان مُدرجًا في قواعد الأنظمة الرهبانية بوصفه مرافقًا إلزاميًا للصلاة والتوبة. وطوال فترة العصور الوسطى، كان استهجان البكاء محصورًا بالدموع الزائفة التي من المعروف أنها كانت شائعة عند كلٍّ من الرجال والنساء. بكلمات أخرى، وحتى وقت قريب، أجبر الرجال الناضجون أنفسهم على البكاء علنًا على أمل إثارة إعجاب أقرانهم.
    لكن، ثمة استثناء واحد ساطع لمهرجان النشيج العالميّ هذا. فكما تلاحظ مؤرخة القرون الوسطى سيف ريكارثسدوتير من جامعة أيسلندا، حافظ الإسكندنافيون على رباطة جأشٍ جافةِ العيون خلال تلك القرون الناشجة. في كتابها "ترجمات وخطاب ثقافي قروسطية" (2012)، توضح ريكارثسدوتير هذه النقطة من خلال الاستشهاد بنسختين من ملحمة قروسطية يضيع فيها بطل صبي في الغابة. في تلك الملحمة، يستسلم البطل الفرنسي لدموع الإشفاق على الذات، في حين يعجب نظيره الأيسلندي بالمنظر الطبيعي بكل جلَد ويفكر في خطوته التالية.
    يأتي الوصف في النص الأيسلندي مبهجًا بصورة أكيد: "كان ذلك المكان جميلًا جدًا للجلوس وممتعًا. قفز من على صهوة حصانه ونظر إلى البحر واعتزم أن يجلس هناك إلى أن جاءه نوع من الرؤيا". تعلّق ريكارثسدوتير: "لم يكن البكاء يُعدُّ أمرًا لائقًا اجتماعيًا؛ على وجه التأكيد، ليس بالنسبة إلى الرجال في إسكندنافيا العصور الوسطى. في الحقيقة، وعلى نحو يمكن تبريره، كان اتهام الرجال بالبكاء يُنتقم له بالموت". قد تبدو هذه الاستجابة مبالغًا بها، غير أن الشعور الكامن خلفها مألوف جدًا اليوم.
    خارج إسكندنافيا، استمرّ الانتحاب الذكري المتفشي لزمن طويل حتى أوائل العصر الحديث، وامتد إلى أعضاء البرلمان بالإضافة إلى الفرسان والرهبان. عام 1628، يصف السياسي الإنكليزي، توماس ألورد، رد الفعل في مجلس النواب على رسالة من الملك يهدّد فيها بحلّ البرلمان: "تكلم السير روبرت فيلبس، واختلطت كلماته بالبكاء... كان القديس إدوارد كوك مجبرًا على الجلوس عندما بدأ الكلام عبر فيض الدموع: نعم، المتحدث باسم البرلمان... لم يتمكن من الإحجام عن البكاء وذرف الدموع".
    أين ذهبت، إذًا، كل دموع الذكور تلك؟
    الحقيقة هي أننا لا نعرف الإجابة على وجه اليقين. فلم تكن هنالك حركة مضادة للبكاء. لم تكتَب أطروحات ضد دموع الرجال، ولم يطرح قادة الكنيسة، أو الدولة، إجراءات لردعها. لقد حدث انحسار الدموع ببطء للغاية، بهدوء للغاية، لدرجة أنه ما من أحد لاحظ حدوثه على ما يبدو. لكن، بحلول القرن الثامن عشر، كان مناصرو "عبادة التأثر" يحثّون الرجال على أن يكونوا أكثر حساسية، مع تأكيد على الدموع الطليقة، وهو ما يعني ضمنيًا أن الذكور كانوا سلفًا خاضعين للتحدي الدمعي. وبحلول الفترة الرومانسية، كانت الدموع الذكورية قد باتت مدخرة للشعراء. من هنا، لم يستغرق الوصول إلى أبطال إرنست همنغواي سوى قفزة زمنية قصيرة؛ أولئك الرجال أصحاب الوجوه الخالية من التعبير، والذين، رغم ميولهم الشعرية، لا يمكنهم التعبير عن حزنهم سوى من خلال إدمان الخمر واصطياد جاموس عابر.
    الاحتمال الأكثر وضوحًا هو أن هذا التحول جاء نتيجة التغييرات التي حدثت مع انتقالنا من مجتمع زراعي إقطاعي إلى مجتمع حضري وصناعي. في العصور الوسطى، أمضى معظم البشر حياتهم بين أولئك الذين عرفوهم منذ ولادتهم. احتوت القرية القياسية على 50 إلى 300 شخص فقط، وكانت تربط معظمهم قرابة دم، أو زواج؛ كان الأمر أشبه بحالة عائلة ممتدة عالقة في اتحاد أبدي وسط اللامكان.

    "الدموع كانت لقرون مرتبطة بالتقوى. "الاعترافات" التي كتبها القديس أوغسطين مليئة بتوصيفات لبكاء القديس غير المكبوت"


    كذلك، كانت بلاطات العصور الوسطى بيئات لحميمية مفرطة، يمضي رجال البلاط فيها أيامًا بأكملها في صحبة واحدهم الآخر، سنة تلو أخرى. وكان الملوك بشكل روتيني يقومون بتسيير الأعمال من أسرّتهم التي ينام عند أقدامها ليلًا خدمهم المفضلون. تجلّت هذه الألفة أيضًا في تفاصيل غريبة من الحياة الملكية، كبعض الرجال النبلاء في بلاط كثير من الملوك الأوروبيين الذين كان امتيازهم المشتهى أن يساعدوا الملك في التغوط.
    لكن، منذ القرن الثامن عشر وصولًا إلى القرن العشرين، أصبح السكان حضريين أكثر فأكثر، وسرعان ما صار الناس يعيشون وسط آلاف من الغرباء. علاوة على ذلك، اقتضت التغييرات في الاقتصاد أن يعمل الرجال معًا في مصانع ومكاتب كان التعبير العاطفي فيها، وحتى المحادثة الخاصة، تُردع باعتبارها مضيعة للوقت. في كتابه "البكاء: التاريخ الطبيعي والثقافي للدموع" (1999)، يكتب توم لوتز كيف أن مديري المصانع درّبوا عمالهم عمدًا على كبت المشاعر بهدف زيادة الإنتاجية: "لا نريد للمشاعر أن تتضارب مع الإدارة السلسة لشؤون المصنع".
    (Getty)
    صحيحٌ أن بعض النساء كنّ يعملن في المصانع أيضًا، لكن بقاءهن في المنزل كان أكثر رجحانًا. كانت النساء يعملن من منازلهن في أعمال الحياكة، غسيل الملابس، أو استقبال النزلاء؛ أو يدبرن لأنفسهن العمل كخادمات، أو مربيات أطفال، في بيوت أناس آخرين. وعندما كانت ربة المنزل، أو الخادمة، تنفجر بالبكاء، لم يكن يراها أحد سوى أهل البيت. وفي أغلب الأحيان، لم يكن أحد يراها قط. وبدلًا من أن يصرخ بها مراقب العمال، كان في وسعها أن تنشج فوق حوض غسيل الملابس خاصتها في سلام.
    من المعروف أن لهذه السياقات تأثيرًا هامًا على مدى الفائدة التي يمكن أن يعود بها البكاء. وقد وجدت دراسة قامت بها لورين بيلسما، آد فينغرهويتس، جوناثان روتنبرغ، ونُشرت في دورية علم النفس السريري والاجتماعي (2008)، أن البشر يشعرون بحال أفضل بعد إطلاق العنان لدموعهم؛ سواء كانوا يبكون لوحدهم، أو أمام شخص مساند. لكن، في حال كانوا يبكون في العلن، أو أمام شخص غير مساند، فالبكاء جعلهم يشعرون بحال أسوأ مما هم عليه أساسًا. وكان يُعبّر عن المساندة بإيماءات بسيطة مثل "كلمات مواسية"، أو "ذراعين معزيّتين"، والتي تبدو إيماءات سهلة للغاية إنما من المستبعد أن تكون في المتناول على أرضِ مصنع.
    يبقى السؤال، إذًا، فيما إذا كان كبح ثقافتنا لدموع الرجال ضارًا، أو نافعًا. يمكن القول، على الصعيد الإيجابي، إن معظمنا ممتن لكونه غير مضطر للتعامل بشكل دائم مع زملاء عمل باكين. فبكاء الآخرين يجعلنا نشعر بعدم الارتياح؛ إنه نتيجة حتمية لمقدرتنا على التعاطف. لا يسعنا إلا الشعور بألم الدموع؛ لكن، لذلك السبب بالذات، غالبًا ما نمتعض منها. يمكن أن تكون الدموع حميمية غير مرغوبة؛ المقابل العاطفي ليد تتلمّسنا. ورد الفعل الغريزي لمعظم الناس هو أن يفعلوا كل ما يلزم لجعل الدموع تتوقف.
    علاوة على ذلك، لا حاجة لأن تكون مصابًا بجنون الارتياب لتفكر في أن قوة الدموع تفتح الباب لاستخدامها كوسيلة للتلاعب. يدرك علماء النفس دور الدموع التلاعبية، حتى أنهم يعدونها أمرًا فطريًا. يبكي الأطفال بشكل طبيعي عندما يشعرون بالجوع، أو بالألم، أو عدم الراحة، ويثير هذا استجاباتِ تولي العناية عند البالغين. وفي حال خطر لك التساؤل هنا، فإن دراسة قامت بها ميراندا فان تيلبرغ، ومارييل أونتربرغ، وفينغرهويتس، نُشرت في دورية علم النفس التطوري البريطانية عام 2002، أثبتت أن الأطفال من الذكور والإناث يبكون قدرًا متساويًا إلى أن يصلوا إلى سن البلوغ.

    "بكاء الآخرين يجعلنا نشعر بعدم الارتياح؛ إنه نتيجة حتمية لمقدرتنا على التعاطف. لا يسعنا إلا الشعور بألم الدموع؛ لكن، لذلك السبب بالذات، غالبًا ما نمتعض منها"


    من الواضح بالطبع أن ثمة مرحلة في تطوّر الطفل يتحول فيها البكاء لأجل الطعام إلى بكاء عندما لا يشتري له أهله شيئًا يريده. ويمكن لهذه الدموع أن تكون فعّالة للغاية؛ كثير من ألعاب الفيديو (البلي ستيشن) قد اشتُريت لطفل باكٍ. وأيّ شخص لديه قريب بكّاء يعرف أن بعض البالغين يمكنهم أيضًا أن ينالوا ما يريدونه من خلال تشغيل محطات المياه الدمعيّة هذه. في النتيجة، لو كان استخدام البكاء كتكتيكِ تلاعبٍ مقبولًا في مكان العمل، سيكون للموظفين الأكثر بكاء أفضليةٌ على منافسيهم جافيّ العيون. أما، في الوضع الحالي، فالنتيجة الأكثر رجحانًا للبكاء أكثر مما يجب في مكان العمل هي أنك ستُفصل عبر الإيميل.
    لذلك، يمكن القول جدلًا إن النواهي الاجتماعية عن البكاء مفيدة. فإنتاجية العمل يمكن أن ترتفع؛ لقد وفّرنا على أنفسنا عناء دراما الغرباء؛ والرجال (والنساء، في مكان العمل) مقيدون في استخدام التلاعب العاطفي.
    لكن، لم يكن البشر في الأساس مفطورين على تجرّع عواطفهم، وثمة سبب للاعتقاد بأن كبح الدموع يمكن أن يكون خطرًا على عافيتك. على سبيل المثال، وجد بحث قامت به في الثمانينيات مارغريت كريبو، التي كانت في حينها أستاذة في قسم التمريض في جامعة ماركيت في ميلواكي، علاقةً بين معدل الأمراض المرتبطة بالتوتر من جهة والبكاء غير الكافي من جهة أخرى.
    البكاء، عكس الأمر البديهي إلى حد ما، مرتبط أيضًا بالسعادة. وجد فينغرهويتس، أستاذ علم النفس في جامعة تلبرغ في هولندا، أنه في البلدان الأعلى معدلًا للبكاء، تشير الدراسات أيضًا إلى أعلى مستويات من الرضى. أخيرًا، البكاء هو أداة هامة لفهم المرء لمشاعره. وقد وجدت دراسة من عام 2012 للمرضى المصابين بمتلازمة شوغرن ـ وهي المتلازمة التي يكون المصابون بها عاجزين عن إنتاج الدموع ـ أنهم يواجهون صعوبة في تحديد مشاعرهم أكثر بشكل ملحوظ من مجموعة التحكم (التي لا تعاني من المتلازمة).
    من الممكن أن تعاني أيضًا إذا خبأتَ دموعك عن الآخرين، كما يُتوَّقع من الرجال أن يفعلوا اليوم. فكما رأينا، يمكن أن يكون البكاء سلوكًا اجتماعيًا مصمَّمًا ليستثير العناية من الأشخاص حولك. وفي حين أن هذا قد يبدو غير ملائم في سياق تقييم أداء العاملين، إلا أنه قد يكون طريقة ضرورية لتنبيه الأصدقاء والعائلة ـ وحتى الزملاء ـ بأنك بحاجة إلى المساندة. إن تابوهات التعبير عن المشاعر في ما يخص الذكور تعني أن احتمال الحصول على المساعدة في حالة الاكتئاب عند الرجال أقل بكثير منه عند النساء. وهذا، بدوره، يرتبط بمعدلات انتحار أعلى؛ احتمال ارتكاب الانتحار عند الرجال أكثر بثلاث إلى أربع مرات من النساء. ومن المرجح أيضًا أن يعبّر اكتئاب الذكور عن نفسه من خلال الإدمان على الكحول والمخدرات اللذين لهما كذلك عدد الوفيات المرتفع الخاص بهما. فكّر مثلًا بإسكندنافيا التي تتمتع بالجَلَد، والتي تُصنّف أممها عاليًا في مستوى الإنتاجية، إنما تحتل أيضًا مركز الصدارة في العالم في معدلات الإدمان على الكحول والانتحار.
    لذلك، قد يكون الآن هو الوقت الملائم للرجال للعودة إلى دموع الماضي الطليقة. صحيحٌ أنه لا يمكننا العودة إلى قرى العصور الوسطى ذات الروابط الوثيقة بين سكانها، لكن في وسعنا محاولة استحضار روحها الأخوية. وبينما تصبح ثقافة العمل أقل رسمية على نحو متزايد، يمكننا أن نتساءل: هل عسانا نريد أن نُلحق أيام عطل لا مبالية بأيام عمل عاطفية؟ هل في وسعنا تخيل عالم يبكي فيه الرجال والنساء علنًا عندما يسمعون أرقامًا مخيبة للتوقعات في اجتماع المبيعات؟ قد ننفر من فكرة لانسُلو العصر الحديث الذي عندما يرفض رئيسه في العمل أن يرسله إلى مؤتمر كبير، ينشج إلى أن ينال ما يريد. لكن هذه المخاطرة تبدو عديمة الأهمية إذا ما قورنت بعالم نكبت فيه مشاعرنا إلى درجة لا نعود نعرف فيها ماهيتها إلا بالكاد.
    إنه وقتُ فتحِ بوابات سدود الدموع. والوقت الملائم للرجال ليكفّوا عن الاقتداء بأبطال أفلام الأكشن متحجريّ الوجوه، وليكونوا أكثر شبهًا بأبطال هوميروس العاطفيين؛ الملوك، القديسين، ورجال الدولة الباكين لآلاف السنين من التاريخ البشري. لذلك، في المرة التالية التي يوجّه فيها سوء الحظ ضربته، لنجتمعْ جميعًا ـ رجالًا ونساء ـ ونبكي إلى أن تبتلّ أكمامنا بالدموع. فكما يقول العهد القديم: "الذين يزرعون بالدموع يحصدون بالابتهاج".

    ساندرا نيومان: (1965- ...). درست الكتابة الإبداعية. كاتبة وروائية أميركية، لها أعمال عدة بين الأدبي وغير الأدبي، بينها خمس روايات منها: "بلد نجمة الآيس كريم" (2014)، "السماوات" (2019)، "الرجال" (2022)، و"جوليا" (2023) وهي إعادة سرد نسوية لرواية جورج أورويل "1984". تعيش اليوم في نيويورك.

    رابط النص الأصلي:

    https://aeon.co/essays/whatever-happened-to-the-noble-
    art-of-the-manly-weep
    • المترجم: سارة حبيب
يعمل...
X