مارادونا

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • مارادونا

    مارادونا
    أسامة صفار 31 أغسطس 2022
    قص
    ألبرت غليزس (1881-1953)
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    هذه الجثة التي تنزف هي أنا.. نعم.. لا تفتعل الدهشة.. نعم أنا الذي اتسعت عيناه رعبًا وألمًا ودمًا أسفل العجلة الأمامية اليمنى من السيارة الفخمة، طبعًا تتساءل وأنت صاحب العين الخبيرة والعقل المنطقي كيف لشخص في هذه الأجواء الباردة أن يكون خارج بيته بملابس خفيفة عبارة عن تي – شيرت وشورت.. حسنًا لا منزل لي ولا ملابس.. هل أصبح المشهد منطقيًا الآن؟

    هل هو الفضول أم الحزن الذي يدفعك للتجمد كتمثال يحدّق في جثتي هكذا؟... لا تزعم أنه الحزن وإلا كان عليك أن تحزن ألف حياة على حياتك لأنني لست وحدي الذي أزهقت روحه وهو – بعد – لم يتجاوز السنة الثامنة عشرة من عمره تحت عجلات سيارة فخمة، ففي كل يوم يموت الآلاف مثلي هنا وهناك لذلك دعك من الحزن فالأمر كله لا يعدو كونه فضولًا.

    اسمي رمضان.. ليست المرة الأولى التي أتعرّض خلالها لحادث سيارة لكن من المؤكد أنها الأخيرة فقد مت كما تؤكد لك عيناي المفتوحتان عن آخرهما، ورغم ذلك قد لا تصدق أنها ليست المرة الأولى التي ألتقي والموت فيها وجهًا لوجه.. فأنا من هؤلاء الذين يتأبطون الموت يومهم وليلهم من دون خوف لأن حياتهم كموتهم سواء لكني – ويا للعجب – كنت أحلم كثيرًا بعالم مختلف عن عالمي الذي ينقسم بين الشوارع وبين مأوى حقير ينتظرني على بابه رجل يقال إنه أبي وينقض على جيبي حين أعود فإن لم يجد فيه مبلغًا مرضيًا تناول عصا من الخشب "الزان" صنعها خصيصًا لي وظل يضربني حتى تسيل دمائي تلك التي تراها الآن أسفل السيارة الفخمة.

    لا تحاول الظهور بمظهر الشخص الشهم وتتخيل أنك يمكن أن تتواصل مع والدي وتبلغه ومن ثم يأتي إلى هنا وكل هذا الهراء فأنت لن تجرؤ، لذلك لا ترفع حاجبيك ولا تتنفس الصعداء بكل هذه الراحة التي تبدو علي وجهك، فوالدي – غالبًا – سوف يحاول السطو على أموالك إما بالتسول أو باستخدام القوة ثم يعود من حيث أتى تاركًا جثتي كما هي أسفل عجلات السيارة الفخمة التي تقودها الفتاة الجميلة التي أحبها منذ سنة كاملة ولا زلت أحبها.

    نعم أحبها فهي الكائن الوحيد على الأرض الذي سمعني وابتسم في وجهي بل وصدّقني، إذا لم أمت كانت تنوي تحقيق أقصى أحلامي فهي قالت لي إنها ستتحدث إلى والدها ليلحقني بفريق الكرة بنادي الترسانة الرياضي.

    اسمي رمضان.. لا أحد يعرفه سواي أنا وهي ووالدي المزعوم أما أصحابي وأمين الشرطة والزبائن الباشوات أمثالك فيلقبونني بـ"مارادونا" لأنهم يرون أنني أذكرهم بلاعب أرجنتيني بهذا الاسم وكان مشهورًا وموهوبًا وهذا أكثر ما كان يسعدني فلا شيء أجمل من ملعب وشبكتين وكرة وسباق يقف خلاله الحكم على الحياد.

    لا تحاول أن تغلق عيني، أراك تفكر في الأمر، ليس لأن في إغلاق العينين للموتى سترًا كما يزعم أقرانك وأجدادك، ولكن لأنك تود أن تظهر كشخص رحيم يعرف ما ينبغي ويفعله، أريدك أن تمارس طبيعتك في الخوف من الاقتراب مني، فأنا كما تعتقد قد أكون مليئًا بالجراثيم حيًا، فما بالك لو كنت ميتًا كما ترى. حاول أن تحتفظ بجمودك وتجتر لحظة الذهول والرعب حتى تنتهي وحدها من دون أن تفتعل شيئًا يمكن أن يطاردك في كوابيسك وفي صحوك أيضًا.

    هذه العيون التي تشرع في إغلاقها الآن لم يحدث أن انفتحت عن آخرها سوى الآن، هذه العيون لم تجرؤ على النظر إليك.. في عينيك سوى الآن، وهي حالة لم أكن لأحلم بها، أن أجرؤ على النظر في عينيك، صحيح أنني حاولت منذ فترة أقل من عام أن أمعن النظر في وجه أبيك وأن أتحدث معه بندية، لكن المحاولة لم تنجح إذ فاجأني الرجل العجوز بصفعة عنيفة – ولكنها معتادة – وقال إنه لا ينبغي لمثلي أن ينظر في عينيه مباشرة لأن ذلك يعني الاعتقاد بالندية، وهي كما رأى يومها "قلة أدب"، قال يومها إني صغر العقل والسن والقيمة، لذلك فإن محاولتك لإغلاق العينين المفتوحتين لن تكون غريبة إذ فعلها والدك من قبل على طريقة الصفع لا الإغلاق المباشر، ويا أيها السيد اترك عيناي مفتوحتين في موتي كي تعوّضني عن إغلاقهما طوال حياة لم تكتمل.

    رأيت في بيوت أقاربك ومقاهيهم ومكاتبهم الكثير، رأيت بعينين مكسورتين لا أقوى على رفعهما، لذا بقي في ذاكرتي النصف الأسفل من كل شيء، من أقاربك المشغولين دائمًا كل بنصفه الأسفل، من شجر حدائقكم الذي يثمر من أعلى ولا يزهر أبدًا، ومن المقاعد والأسرة والمناضد التي لا تسمح أنصافها السفلى سوى بالتنظيف لا الجلوس أو تناول الطعام، حاولت مرة وحيدة أن أتسلق مقعدًا كان لك فنهرتني والدتك المصونة وأمرت الخادمة بتنظيف الأماكن التي شرعت في لمسها بيدي، يا لي من قذر... أحيانًا أيها السيد كنت أعتقد أن قدماي.. هاتين الممددتين أمامك بلا حراك وقد أصيبت إحداهما بكسر مضاعف وثنيت من حيث لا يجب أن تنثني، كنت أعتقد أنه لا لزوم لهما، فقد يكفيني نصف طولي للعيش بينكم، بدلًا من الانحناء والانكسار طوال الوقت، إذا كان لا بد من التضاؤل أمامكم وفي وجود أحقركم، لماذا إذًا لا يكون التضاؤل ضآلة؟

    هل تعرف لماذا لا تتذكرني جيدًا أيها السيد المنتصب كتمثال جيري بلا حراك؟ لأنك عن عزم وإرادة قررت من زمن أن تنسى وجودي، وألا تحمل ذاكرتك صورتي حين ظهرت فجأة في حديقة الفيللا حين كنت تحاول اغتصاب الخادمة المسكينة، وبينما تطلقها من بين ذراعيك وسط دموعها أطلقت أنت باتجاهي وابلًا من الشتائم، وحين فاجأك ردّي بأن تلك الخادمة هي شقيقتي، طاردتني حتى أطبقت على عنقي فكسرت ذراعي هذا الملقى بجواري مثل قطعة خردة وتركتني أصرخ.

    يعتقد الكثير من أصحابي وجيرانك والزاعقين في الإعلام أنك "مجرم" و"مؤذ" بسبب سلوكك العنيف، يقولون لي دائمًا إنه ينبغي أن أدافع عن نفسي وعن شقيقاتي تجاه ذئب حقير مثلك، لكنني في الحقيقة أضحك.. أضحك منهم كثيرًا مثلما أضحك منك الآن تمامًا، هم لا يعرفون أني أعرف كل شيء عن سلوكهم الأكثر حقارة مع صديقي وشقيقته ووالدته ووالده في فيللا مجاورة، تخيل أيها السيد الذي يصح أن أطلق عليه ملاكًا – في هذه الحالة – أنهم يسرقون كبد الأب وكلية الأم، وعين الولد "حبشي" صديقي، تخيل أنهم قرروا أن فرص العمل لديهم أصبحت قليلة لذا يعمل صديقي ووالده في فيللات أخرى ويدفعون نصف راتبهم أو أكثر لهم.. هؤلاء الأصحاب والجيران ذوو وجوه متعددة، أرجوك ألا تصدقهم حين تلتقي بهم في اتحاد ملاك الكومباوند أو النادي.. أو حتى حين تأتي لهذا المول لتشتري لوازم زوجتك الحسناء.

    لا تفكر في إبلاغ الشرطة، فهم آتون لا محالة، ولكن حين تسمح انشغالاتهم، ولعلك تعلم أنه في الحالة العادية قد يستغرقون نصف يوم حتى يأتوا ومعهم سيارة إسعاف، لكن في حالة وجود جثة قد يأتون بشكل أسرع. الشرطة من أجل أمثالي إلا في حالتين، القبض عليّ أو تطهير المكان من جثتي، ورغم مكانتك العظيمة فإنك لن تنجو من التحقيق إذا قمت بإبلاغهم بنفسك عن وجود جثتي أسفل عجلات سيارة فخمة بجوار مول كبير، فالمنطقة - كما ترى- تزدحم بالبشر لكن أيًا منهم لا يراني.. أنت فقط من يرى جثتي.



    *كاتب مصري مقيم في كندا.


يعمل...
X