نور الدين ضيف الله.. مغامرة الحرف وشذرات العلامة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • نور الدين ضيف الله.. مغامرة الحرف وشذرات العلامة

    نور الدين ضيف الله.. مغامرة الحرف وشذرات العلامة
    فريد الزاهي
    تشكيل
    نور الدين ضيف الله
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    اللغة كيان ساحر. لا لأنها أساس التواصل وصناعة الأثر، ومداورة الزمن، والإمساك بأكثر الأمور استعصاء وإيغالًا في المجهول، ولكن أيضًا لأنها تتجلى وتتجسد في الكتابة، هذا الجانب المرئي الذي يجعل اللغة كيانًا محسوسًا، مرتبطًا باليد، مثله مثل الصنائع الأخرى. وبقدر ما ظلت اللغة شغفًا بشريًا يصرف غناها ومجاهلها في الشعر والنثر بقدر ما ظلت الكتابة جسدها الفتن المحسوس. الكثير من "الحروفيين" وقفوا عند طابع القداسة التي تربط الحرف بالكتاب، ومن ثم بالمعنى المقدس، وجعلوا من ارتياد الحرف والكتابة العربية ضربًا من الامتداد الميتافيزيقي للعقيدة وللفنون الإسلامية، غير أن بعضهم حرر الخط من ثنايا اللاهوت، وجعله موطنًا لهوية جديدة، تجاوز البعد الواحد، كما نظر له شاكر حسن وجماعته، ليفجر من الداخل مفهوم الحروفية، ويدخل في مجال أوسع يمكن أن نسميه "العلامية" (نسبة إلى العلامة)..




    من الخط إلى العلامة


    "انطلق من الحروفية، ليشتغل على الخط المغربي بطريقة شخصية تزاوج بين المسرحة الغرافية والكتابة"



    وأنت تزور مرسم الفنان المغربي نور الدين ضيف الله (من مواليد 1960)، أو ترى أعماله هنا أو هناك، تكتشف في هذا الفنان كائنًا صموتًا، أشبه بالزاهد في الحياة والفن، يعيشه بمثابة إيقاع باطني يبني به نظرته للوجود والعالم. لا يحابي ولا يتملق النقاد وأصحاب دور العرض. يترك للوحاته أن تعبر عن نفسها وتشيد صرحَ استمرارها، كأثر وإبداع في الآن نفسه. انطلق من الحروفية، ليشتغل على الخط المغربي بطريقة شخصية تزاوج بين المسرحة الغرافية والكتابة. كان هذا الافتتان بالخط منطلقًا لتنويعات منتظمة، قد تكون فرضتها طبيعة الكتابة نفسها، في ما تفرضه من تناظم وانسجام، وإيقاع يأتي للوحة كما ليجعلها تفيض بالمعنى. هذا الهاجس الزخرفي الذي صاحب بدايات الفنان كان يحمل في طياته بذور الانفجار والتحول، ويقود الفنان إلى مساءلة ذاته ونظرته، كما ذلك الموروث الذي ينتمي إليه، من خلال التقليد الفني الإسلامي للخط، وكما من خلال تجارب سابقة عربية ومغربية (عبد الله الحريري، نجا مهداوي، الزندرودي...).
    أدرك ضيف الله مبكرًا أن الفن المغربي بنى فرادته على العلامة لا على الخط. وفي هذا السياق، لم يكن له أن يتجاهل تجربة أحمد الشرقاوي، الخطاط المحترف الذي هجر الخط، أو بالأحرى استبطنه عميقًا في ذاته، بحيث إنه حوله إلى علامة منفتحة على كافة العلامات، مشتغلًا على نفَسه أكثر من شكله، مازجًا إياه بكافة العلامات التي تستوطن ذاكرته، من وشم ورموز غيره. بيد أن الفنان، بالرغم من هذا الإدراك، ظل وفيًا لحروفيته، مشتغلًا عليها بشغف وحب، يراودها عن منفتحاتها، يفككها ويعيد الاشتغال عليها بشكل شخصي. هذا التأرجح لم يكن تذبذبًا بقدر ما كان سعيًا حثيثًا لترويض ممارسة ثابتة في التاريخ والجماليات الإسلامية. فالخط المغربي، كما يعرف ذلك المتخصصون، هو أقل الخطوط خضوعًا للقواعد، وأكثرها انكفاءً على ذاته. وهذا الأمر يجعل منه تابعًا للغة يرسمها بجماليات ذات بساطة خادعة. إنه خط يمنح الحرية أكثر للخطاط، ويقيد مبادراته في الآن نفسه. لذا لم يكن أمام الفنان سوى إخضاعه للعبة الغرافية من خلال تطويعه لبنائيتها الصارمة.
    لا أحد يجهل أن الحروفية مهما كان انفتاحها تظل ضحية موضوعها، وضحية المعنى المطروح سلفًا. إنها جماليات تنصاع لسلطة الموضوع، ولوطأة ميتافيزيقاه الآسرة. ومهما تحرر منها الفنان، من غير أن يفكك هذا العمق الميتافيزيقي، فهو يظل ظلًا من ظلالها. إنها وهم هوية يتحكم فيه اللامرئي على المرئي. ومهما كانت لعبة الفنان قوية فإنه يظل مطبوعًا بمعنى سابق وبسياق مطروح سلفًا، وبتلقٍّ سابقٍ على العمل ولاحق عليه. هذه الإشكالية المأزق تصدى لها بعض الفنانين كل بطريقته، بتفكيك الكلمة والمعنى، كما بخلق استراتيجيات بصرية جديدة لها علاقة بالشعر الحديث، أو بالتصوف، أو بالعلامة عمومًا.
    ثمة تجارب فنية تجد مخارجها في ذاتها، فالحس الجمالي هو وقود التجربة، ومحرك التطور، وفاتح الآفاق الرحبة. والفن تجربة حسية مهما كان إعمال العقل فيه والتخطيط المسبق له. إنه يجرف الفنان خارج مسبقاته ومواطن هويته الحنينية، ويأخذ بيده نحو مخارج اقتراحية متعددة. ذلكم ما أحسست به وأنا أقرأ تجربة نور الدين ضيف الله، منذ ما يقارب العقدين من الزمن. هكذا تخطُّ اللوحة أفقها نحو منفتحات جديدة سوف ترسم معالم "أسلوب" خاص بالفنان، يقربه من تجربتين محاذيتين له: تجربة رشيد قريشي، وتجربة عبد الله الحريري.


    رقصة العلامات ومرآة الوجود


    "أدرك ضيف الله مبكرًا أن الفن المغربي بنى فرادته على العلامة لا على الخط. وفي هذا السياق، لم يكن له أن يتجاهل تجربة أحمد الشرقاوي، الخطاط المحترف الذي هجر الخط، أو بالأحرى استبطنه عميقًا في ذاته"


    وها هو الحرف يختمر كي ينسلخ عن جلدته الكتابية، ويهجر المعنى والدلالة، ويتحول إلى علامة تشكيلية، تنساب وتوالد وتتناسخ وتتناسل تبعًا لإيقاع يتخلى شيئًا فشيئًا عن إشباع اللوحة وامتلائها. لنسمّ هذا التحول امتلاكًا صوفيًا للحرف والكتابة. فهذا النزوع يحول اللوحة إلى سماء تخفي وتبطن أكثر مما تظهر وتعلن. هكذا أضحت الحروف تتشكل في رقصات إيقاعية تستجيب لعلامة لا هي بالحرف ولا هي بالرمز. وبين الحرف وانبساطه تخلق اللوحة لحظة أشبه بالإشراق، على خلفية ملونة تصدح أحيانًا بالبياض.
    هذا الاختمار يحول جسد الفنان نفسه إلى علامة من ضمن العلامات التي تسبح في فضاء اللوحة. إنها مرآته التأملية التي فيها ينسج بكثير من الأناة والصبر مجاهدته الصوفية في استكناه أسرار المرئي واللامرئي. ثمة دومًا تراكب للخلفيات توحي لنا بمنظور تشكيلي يتسربل في مرآة. في المقدمة، حرف ضاعت منه مقروئيته، كأنه حارس العلامات وموطنها الأصل، يقف شاهدًا على ضيق الرؤية واتساع العبارة. وفي الخلفية الأولى ثمة تناسج مذهل للحروف المتناسقة حينًا والفوضوية أحيانًا أخرى، تتداخل وتتواشج وكأنها ترسم جسدًا آخر شذريًا، يتوالد إلى ما لانهاية في أفق العين وعمق اللوحة. أما الخلفية الثالثة، فهي كما قلنا آنفًا تكون أشبه بسديم للامرئي، وعمق لا متناه للرؤية والوجود.
    تتشكل الخلفية الثالثة، أو الأصلية، للوحة، تبعًا للتنويعات التي يدخلها عليها الفنان. فهي صفاء يشابه صفاء الورقة، والسماء، والفراغ تارة، وهي تارات أخرى عبارة عن فرشة تضج بالتلاوين وشذرات العلامات. وكأن الفنان بذلك يسائل ممكنات الوجود ويكشف، أو بالأحرى يكشط بشرة الحياة. غير أن هذه اللعبة "السيميائية" لا تلبث أن ترتد ضد نفسها. فالشفافية التي يغمس فيها نور الدين ضيف الله رقصات علاماته وحروفه ورموزه لا تلبث أن تعيش نوعًا من الاحتباس، بالرغم من المنفتحات التي تخلقها، والأعماق التي تستكشفها. وها هو ينحو نحو ممارسة المحو والخفاء، كما لكي يبحث في بواطنه عن مسارب جديدة للمعنى. ثمة، إذن، أعمال تشكيلية تتغلف بطبقة تتراوح بين الشفافية والكثافة، وكتل الحروف المتراقصة تتلفع بغيم من اللطخات التي تحول الفضاء إلى ضبابية تمطر نتفًا من العلامات والحروف...

    "من رقصة العلامة، ها هي اللوحة تدخل في حال جذبة ووجْد. ومن الإيقاعات المتواترة الراقصة يزج بنا الفنان في حال هلامي من الانصهار في العناصر"


    تكشف هذه التحولات عن شذرات حكاية خفية تنحو باتجاه التعبيرية التجريدية التي انتهى إليها الفنان وهو يرمي بتجربته في مغامرات جديدة. إنها تعبيرية ترسم معالم حكاية شخصية تبدو وكأنها تعاند الفراغ. فمن رقصة العلامة، ها هي اللوحة تدخل في حال جذبة ووجْد. ومن الإيقاعات المتواترة الراقصة يزج بنا الفنان في حال هلامي من الانصهار في العناصر، وفي مصائر تغدو اللوحة موطنًا لها. وتلك لَعَمْري عملية تكشف عن روح اللوحة وهي تغزو بصرنا، وتشاطرنا مآلات تستنفر حسنًا، وتتطلب انغماسنا في حركية لا ضفاف لها.
    وبالرغم من أن تجربة نور الدين ضيف الله لم تأخذ نصيبها من الاهتمام، فإنها تستمر في خلق تعالقات خصبة بين العلامة والحرف والرمز، في برازخ تشقها لنفسها، لتعيش حرية الانفلات من المعنى المسبق للحرف، ومن الالتباس البهيم للرمز، ومن الطابع الأثري للعلامة. إنها حرية تركيبية تشخص المجرد، وتجرد المشخص، وتمنح للآثار جسدًا يتماهى مع جسد العالم.
يعمل...
X