رافي ساركي.. التحوّل من التصميم إلى الوهم البصري

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رافي ساركي.. التحوّل من التصميم إلى الوهم البصري

    رافي ساركي.. التحوّل من التصميم إلى الوهم البصري
    أسعد عرابي تشكيل
    رافي ساركي في محترفه
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    تمثل تجربة رافي ساركي التحول المتدرج والمتمفصل والانعطافي (كما هو في الفن الغربي): من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، متناغمًا مع الدراسات التي نشرتها مؤخرًا في "ضفة ثالثة"، والتي تثبت هذا الارتباط العضوي بين تيارات الحداثة وما بعدها وما قبلها. لا بد، إذًا، حتى نصل إلى خصائصه في هذا التحول من التذكير ببعض المحطات في الفن المعاصر (بمعزل عن الانفصام الذي يعاني منه أغلب الفنانين العرب)، يثبت هذا التحول التماهي بين حدود الفن للفن والفن الوظيفي، أي عدم التفريق بين الفنون النخبوية والفنون التطبيقية، الحرفية منها، أو الصناعية.

    إسوارة خشب، ألماس وذهب أبيض. حائزة على جائزة DTC دبي 2007
    هو المفهوم الذي بشّر به المهندس المعماري، والتر غروبيوس، في خطابه الشهير. بمناسبة افتتاحه مدرسة الباوهاوس الألمانية في وايمر عام 1919م. يكشف طموحه في العودة إلى تقاليد العصور الوسطى، بما فيها هذه الوحدة التقليدية داخل الفنون المشرقية (مثل الفن الإسلامي)، المتسم عامة بوحدة الفنون الصناعية الحرفية (مثل السيراميك، والزجاجيات، والخزف، والطباعة على الأقمشة، مع العناصر النخبوية في العمارة، مثل المحراب، ورسوم المخطوطات (المنمنمات)، وبعض الصناعات الذوقية الروحية بسجاجيد تعلق على الجدران)، ثم وبعد سنوات استدعى للتدريس فيها الصديق الحميم للفن الإسلامي، وهو الرائد بول كلي، وتوأمه واسيلي كاندينسكي، الأول لتدريس الزجاج المعشق، والثاني لدراسة التصميم في لوحة التصوير. يصدر الاثنان كتابين متناظرين يرجعان إلى فترة الحداثة (الفارس الأزرق). أي قبل تأسيس الباوهاوس بعشر سنوات، يؤكدان هذه الوحدة الإنتاجية بين مستقبل الفنون من العمارة الخارجية إلى الداخلية، بما تحفل به من صناعات وحرفيات ولوحات وديكورات، وغيرها.

    "فن الديزاينر أصبح يدعى الفن الثامن (بعد السابع وهو السينما)، وأصبح متحف مركز بومبيدو للفن المعاصر يقتني بطريقة دورية منتخبات من تصاميم نموذجية منه"


    يذكر واسيلي كاندينسكي في كتابه: "الروحانية في الفن المعاصر" بأنه سيأتي يوم، قرب أم بعد، ستخضع فيه اللوحة إلى آلية الإنتاج الموسيقي، من خلال تثبيت نوطة عامة تجريدية تصلح للإنجاز والتأويل من قبل عدد غير محدود من الفنانين.

    من مجموعة التفاف (2021). أكريليك وطين على خشب (50*50) سم
    تحولت المختبرات النظرية والعملية، إذن، من هذه الوحدة في النشاط التربوي لمدرسة الباوهاوس حتى أغلقها النازيون وأحرقوا أعمال مدرسيها في ساحة عامة بتهمة "الفن الفاسد"، وملاحقة من يدين باليهودية منهم، مثل بول كلي (الذي لجأ إلى سويسرا وطلب جنسيتها)، وموهولي ناجي، الذي افتتح فرعًا لها في واشنطن إثر لجوئه إلى الولايات المتحدة مع ألبير. نحن هنا بخصوص الأستاذ الروحي لفناننا، وهو فكتور فازاريللي، تلميذ موهولي ناجي، من الجيل الثاني من باوهاوس بودابست، الذي أسس منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في باريس تيارَ الوهم البصري التشكيلي التطبيقي في الحياة العامة، باسمه المستعار من مصطلحات الباوهاوس عرف "بالـ أوبتيك - سينيتيك". علينا الاعتراف بأن تأثير وحدة فنون الذوق الإسلامي ابتدأ منذ مؤسس الرومانسية أوجين دولاكروا مع النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ودفاتر رحلاته إلى الأندلس والمغرب، تبعه بعد ذلك هنري ماتيس ونزعته التونسية، ثم الباوهاوس وبول كلي قبل الوصول إلى بصريات فازاريللي، وما تبعه من إضاءات التوليف بين الفيزياء البصرية والديزاينر (التصميم) على غرار فنان ما بعد الحداثة "تاكيس"، اليوناني المختص فيزيائيًا في التحول بين الضوء والصوت، على غرار مجموعة مصابيح اللازير الملونة والمبرمجة إضاءاتها بطريقة سبرنية (ممثلة رمزًا للحي الحديث في باريس وهو الديفانس). نلاحظ مع هذه السياحة المبتسرة في تاريخ الحداثة التحول من وحدة الفنون والحرفيات إلى الفنون الوهمية البصرية إلى معادلاتها السمعية بواسطة البرمجة السبرنية، ثم اكتشاف اللازير الملون وتطبيقاته في الهولوغرام المناظر لمشكاة "الكاليودوسكوب" (المرايا الملونة المتعاكسة).



    البرزخ المتوسط بين الحداثة وما بعدها

    من مجموعة ظلال (2020). طين وأكريليك على خشب (80*80) سم
    رافي ساركي وافد من هذه الذاكرة، خاصة بعد أن تم الاعتراف رسميًا بأن فن الديزاينر أصبح يدعى بالفن الثامن (بعد السابع وهو السينما)، وأصبح متحف مركز بومبيدو للفن المعاصر يقتني بطريقة دورية منتخبات من تصاميم مجودة نموذجية ابتداءً من الموتوسيكل، إلى الأدوات المنزلية، وإكسسوارات الديكور، ويخصص لها معارض كبرى في البناء في قلب باريس.

    "يمارس رافي مهنة عائلته (مستقرة في دمشق قبل المأساة الأرمنية) وهي تصميم الحلي والجواهر. يمارس في محترفه المشترك مع زوجته الفنانة المعروفة ريم وسوف تجاربه التجريبية منطلقًا من خشبيات الرقش والأرابيسك"



    فناننا من أصل أرمني سوري، ومن مواليد دمشق عام 1975م، استقر في مدينة روان ذات التاريخ الفني العريق، بما فيه ارتباطها بأبحاث كلود مونيه، وارتباط المقام اللوني بالزمان على واجهة كاتدرائيتها. يمارس رافي مهنة عائلته (مستقرة في دمشق قبل المأساة الأرمنية) وهي تصميم الحلي والجواهر. يمارس في محترفه المشترك مع زوجته الفنانة المعروفة ريم وسوف تجاربه التجريبية منطلقًا من خشبيات الرقش والأرابيسك الذي يسكن ذاكرته المشرقية من حبكات وهندسات بصرية تنجز حرفيًا باليد. وذلك بتأثير من مهنته التصميمية التي تطورت مع دراسته في إيطاليا في فلورنسا بمدرسة الديزاينر" الشيميا" عن طريق بعثة دراسة حاز فيها ضمن مسابقة في دبي ما بين عامي 2003 و2007م. ليعمل في الميدان نفسه في الهند، ثم مع شركة بلجيكية، ويحصد من جديد جائزتها، بما سمح له بتطوير تصاميمه الطموحة في الأساور الحركية، وترصيع الخواتم والأقراط، وذلك بتطوير مواد الإنجاز، وترصيعها بالذهب الأبيض والألماس، ثم باللؤلؤ الأسود التاهيتي، أو خشب الأبنوس الثمين.



    رافي ساركي يحرّر رقعة الشطرنج

    من مجموعة تجديد. فلين وأكريليك على خشب (100*100) سم
    من مجموعة التفاف (2021). أكريليك على خشب (50*50) سم
    توسم أعمال رافي ساركي مما يوصف ظاهريًا "بالسهل الممتنع"، أو بالأحرى "البسيط والمركب" في آن واحد. وإذا كان عصاميًا على مستوى صناعة اللوحة، فقد اعتمد على توقد ذكائه وخبرته العملية، فلا يجب أن ننسى ممارسته خلال سنوات في تصميم الجواهر. وهنا تكمن صعوبة شرح خصائصه الموهوبة والكامنة. علينا أن نبحث عن أبسط التحاليل في تبيان منهجه الأبجدي المتسم بالوحدة والتماسك الذوقي والإبداعي. تعلم بسرعة مدهشة ما يجب أن يتعلمه، وما يجب أن يتذكره من ثقافته الموروثة المشرقية عمومًا (الأرمنية تحديدًا، والعربية عمومًا)، هي التي خلفت كنوزًا غرافيكية من الرقش والزخرفة والحليات والأرابسك والمقرنص والنجميات والحبكات المتقاطعة الهندسية. ابتدأ من ذاكرة منصته الجبرية: رقعة الشطرنج (ونظام الجبر والمقابلة، أي تبادل الوسطين بالطرفين في معادلات الدرجة الأولى تجنبًا للتكرار)، ثم النظام الحلزوني المنتظم، أو الحسابي (كدوامة فلكية أو ما شابه).


    * * *

    من مجموعة التفاف (2021). أكريليك على خشب (50*50) سم
    "إذا كان رافي عصاميًا على مستوى صناعة اللوحة، فقد اعتمد على توقد ذكائه وخبرته العملية، فلا يجب أن ننسى ممارسته خلال سنوات في تصميم الجواهر"




    ابتدأت انطلاقته الباوهاوسية من رفع الحدود بين الفنون النخبوية والحرفية (الصناعية المرسومة بالديزاينر)، فقد احتلت مهنته الرسم الصناعي في السنوات الأخيرة موقع الفن الثامن. توصل رافي، إذًا، إلى الحساسية التوليفية لما بعد الحداثة من التحول من الديزاينر (تصميم الحلي) إلى صناعة اللوحة المنحوتة الهندسية، أو الرقمية المنجزة باليد حرفيًا، مثل اللوحة والمنحوتة.



    * * *



    تتبدى موهبة رافي من قدرته الغرافيكية المدربة والذكية في تعددية سبل التحول من آلية رقعة الشطرنج، وذلك بالاعتماد على وهم ثوابت الذاكرة لدى المشاهد، ثم الشرود الوهمي بانتباهه خارج نظامها، أو من خلال التلاعب بالظلال بتغيير اتجاهات مصادر الإضاءة، أو استخدام التبادل السالب مقابل الموجب، أو التبدل الرهيف في اللون.
    يتحد في هذا التلاعب ميدان الهندسة الرياضية (والجبرية) بميدان الحدس الفني الذي يتجاوز عقلانية آلية الجبر (سواء تربيعات رقعة الشطرنج، أو النظام الحلزوني الأرسطي). تترسخ صبوته الفنية من خلال تجنبه للوسائط السهلة السبرنية المعلوماتية. (سواء في الكومبيوتر، أو الوسائط الآلية الحسابية)، فمزاجه الذوقي الحر ينحاز للشرود عن القواعد العقلية، أو عصيانها بعد رسم ثوابتها على منصته الأولى. إن خيانة هذه المنصة بالذات هي ما يتوخاه فن رافي، لذا سميته بالسهل الممتنع البسيط المركب في آن واحد.
    إذا أحببنا أن نغوص عموديًا في مجمل تجاربه علينا مراجعة أصول الرقش الشرقي، وتبشيرات مدرسة الباوهاوس. تحول، إذن، من ذائقة الحركة الدائرية في الحلي حول نفسها والمجوهرات المتحركة إلى فنون الوهم البصري المنطلقة من منصة رقعة الشطرنج ليصل منها إلى تحولات غير محدودة أوصلته إلى عودة التوليف بين حداثة فازاريللي المستقبلية وما بعد حداثة تاكيس في رفع الجدران بين الفيزياء الحديثة وفنون التصميم الديزاينر وبتصاميم مجهرية خلوية بالإمكان دعوتها بالسينيتيك - الجزيئي "Le cinétisme moléculaire". وهو اتجاه مستقبلي رائد في المحترف العربي المعاصر.
    -جد
يعمل...
X