في أعمال أسد عزّي.. الهويّة وإرثها إطارًا وموضوعًا

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • في أعمال أسد عزّي.. الهويّة وإرثها إطارًا وموضوعًا


    مليحة مسلماني
    تشكيل
    شارك هذا المقال
    حجم الخط



    تمثل الهوية، بصورها المتنوعة السياسية والثقافية، وبمستوييْها الذاتي والجمعي، موضوعًا رئيسًا في أعمال الفنان أسد عزيّ (من فلسطينيي 48)، بحيث يعالج الفنان تشكيليًا وتحت بند "الهوية" مواضيع يطرحها كأسئلة مركبة حول الذات والآخر. ومن بين المسائل التي تشغل أعماله: التاريخ، وتاريخ الفن، والأمومة، والمكان، والذاكرة والتراث، والأحداث السياسية، والجسد، والعلاقة بين الرجل والمرأة. ولا تنفصل هذه القضايا عن بعضها في اللوحة الواحدة، إذ يقوم الفنان بتهجينها لصياغةٍ بصريةٍ لهوية مركّبة، جمعية ـ خاصة، وسياسية ـ ثقافية، لكنها وعلى تركيبها، تستمد وجودها من رافد أساسي هو الخلفية الفلسطينية ـ الدرزية ـ العربية ـ الإسلامية التي ينحدر منها؛ فقد ولد عزّي في مدينة شفاعمرو التي يعيش فيها كل من الدروز والمسلمين والمسيحيين، لذا تزخر العديد من أعماله بتكوينات ورموز وزخارف يستلهمها من التراث المتنوع، الحضاري والديني والشعبي، الذي تعايش وتراكم في فلسطين على مرّ العصور.
    "يختار الفنان قطعة أو رمزًا واحدًا من التراث الفلسطيني ـ العربي، ويجعله موضوع اللوحة ودائرة اهتمام الرائي، ويحيطه بإطار يخلقه تشكيليًا من عناصر من التراث أيضًا الذي يزيّن ويحمي ذاته بذاته"
    التراث المرادف للهوية

    يبرز التراث كموضوع رئيس وكإطار للوحة وبشكل ملفت في أعمال أسد عزي؛ وينتقل التراث من كونه موضوعًا في أعمال الفنان المبكرة، ليستمر فيما بعد بحضوره كخلفية للوحة أو كإطار تشكلّه لذاتها؛ ففي سلسلة من أعماله المبكرة يحشد الفنان عناصر ورموز من التراث المتنوع، كالفخار والمزهرية والعين والزهور والطيور والحلي والمطرّزات والزخارف التقليدية، فيكوّن التراث بحد ذاته موضوعَ العمل ومضمونه. يصوّر الفنان الموضوع التراثي في أعماله كحلم أحيانًا، يصبح بعد تشويه الرواية التاريخية للمكان الفلسطيني على يد المستعمر، بعيدًا وشبه مخفيّ وغير واضح المعالم، في دلالة على التهديد باندثار التراث، الممثّل لجذور الهوية، في ظل السيطرة الإسرائيلية على الأرض والسعي المستمر إلى طمس تاريخ ووجود الفلسطينيين عليها.

    يقوم عزّي بإحياء التراث في أعمال أخرى شديدة الوضوح والحضور في رموزها وألوانها، في تحدّ بصريّ واضح لسياسات طمس الهوية، فيطلّ الإرث الثقافي الفلسطيني من أعماله هويةً تصرّ على الحضور ونيل الاعتراف بوجودها وبامتدادها العريق. يختار الفنان قطعة أو رمزًا واحدًا من التراث الفلسطيني ـ العربي، ويجعله موضوع اللوحة ودائرة اهتمام الرائي، ويحيطه بإطار يخلقه تشكيليًا من عناصر من التراث أيضًا الذي يزيّن ويحمي ذاته بذاته.

    إحياء التراث في أعمال شديدة الوضوح والحضور في رموزها وألوانها، في تحدّ بصريّ واضح لسياسات طمس الهوية
    التراث حاميًا وتجميليًا

    في إحدى لوحات الفنان تظهر في مركز أعلى العمل قطعة حليّ تقليدية ذهبية اللون تشكّل بؤرة جذب لعين الرائي، في حين يبدو على الأرضية الحمراء للوحة تكوين لزخرفة غير واضح تمامًا ويبدو كجزء بارز من خلفية اللوحة؛ يحتمل اللون الأحمر، كلون ناريّ، معاني العشق والتضحية والغضب والثورة، وهي المفاهيم والمبادئ ذاتها التي تحيط بالهوية العربية والفلسطينية. يؤطّر الفنان اللوحة بزخارف متكررة من الزهور والأشكال الهندسية، فتشغل المصفوفات التراثية بذلك دور الإطار الحامي والمجمِّل للوحة وهي في ذات الوقت جزءًا منها، وليست إطارًا منفصلًا عنها أو مضافًا إليها.
    "لوحات عزّي ذات الإطار الذاتيّ تجسّد تأكيدًا على الهوية الثقافية ذات الإرث والتاريخ المغايِر لما تفرضه وتروّج له الثقافةُ الصهيونية الغربية النمط، والمهيمنة في الوسط الإسرائيلي الذي يقيم ويعمل ضمنه الفنان"
    لوحات أسد عزّي ذات الإطار الذاتيّ تجسّد تأكيدًا على الهوية الثقافية ذات الإرث والتاريخ المغايِر لما تفرضه وما تحاول الترويج له الثقافةُ الصهيونية الغربية النمط، والمهيمنة في الوسط الإسرائيلي الذي يقيم ويعمل ضمنه الفنان؛ فعادة ما يحيط باللوحة إطار خشبي أو معدني ليحميها ويجمّلها، فالهدف من الإطار هو الحماية والتجميل، لكن الفنان يحيل هذا الدور للتراث الفلسطيني بمختلف عناصره الشعبية والإسلامية. لوحات أسد عزّي المؤطرة ذاتيًا بموتيفات من التراث هي تمثيل بصري لهوية تستند إلى إرثها الثقافي، فموضوعها هو ذلك الإرث ذاته، والذي تُبرزه وتحييه وتعيد الاشتغال عليه وتتخذه إطارًا أيضًا، فالميراث الثقافي هو موضوع الهوية، وهو إطارها الذي يحميها ويجمّلها، وهو المسافة التي تلزمها للحفاظ على ذاتها وسط منظومة تهدّد وجودها.
    من أعمال "الأم والابن"

    متوالية "الأم والابن"

    يستعير أسد عزّي موضوعه في مجموعة أخرى من أعماله، وهي متوالية "الأم والابن"، من التراث الأيقوني المسيحي، وهي مجموعة تحتوي اشتغالًا مختلفًا على مضامين التراث عن الأعمال السابقة للفنان؛ تصور إحدى اللوحات السيدة العذراء وابنها المسيح بأسلوب تعبيري لا يعير اهتمامًا لدقة التفاصيل والملامح أو لجمالياتها التي تألفها العين في الرسومات الكلاسيكية التي تصورهما، غير أنه يُبقي على الهالة النورانية البيضاء تحيط برأسيهما والتي تحيل إلى القدسية. يوظف الفنان هذه الاستعارة لأيقونة العذراء والمسيح ليخلق بها مشابهة بصرية ـ مضامينية بين الأيقونة التقليدية وعلاقته هو بأمّه؛ كأمٍّ ريفية عادية، غير أنها استثنائية أيضًا، فهي مريم ـ اللاجئة الفلسطينية، وكذلك يصبح الفنان نفسه في اللوحة الطفلَ ـ الكبير ويأخذ مكان المسيح في الأيقونة.
    "تمثّل أعمال مجموعة "الأم والابن" اشتغالًا على تناسخ الأدوار بين التاريخ والحاضر، وتجسيدًا بصريًا لمضامين في الشعر الفلسطيني تربط بين الأمومة والأرض، وبين الإنسان والأرض"
    تمثّل أعمال هذه المجموعة اشتغالًا على تناسخ الأدوار بين التاريخ والحاضر، وتجسيدًا بصريًا لمضامين في الشعر الفلسطيني تربط بين الأمومة والأرض، وبين الإنسان والأرض، وهي اشتغال كذلك في المسافة بين العام (الأيقونة)، والخاص، حيث تحضر العلاقة بين الفنان وأمّه كموضوع رئيس في اللوحة، والتي تبحث بدورها في مسائل مثل قدسية العلاقة وقِدمها وحميميّتها، وكذلك الاغتراب الذي يبدو حاضرًا فيها.

    من سلسلة "المسيح"
    المسيح ـ المُخلّص

    يظهر الاشتغال على الإرث الثقافي في أعمال أسد عزّي في سلسلة أخرى بعنوان "المسيح"، تصوّر رجلًا فلّاحًا قادمًا على ظهر حمار بأبعاد مختلفة، وفي أماكن مختلفة، بأساليب طباعية ولونيّة وفوتوغرافية. تطرح تلك الأعمال العديد من الأسئلة حول هذا الفلاح؛ فهناك "مسيح اليهود"، إذ تذكر الميثولوجيا اليهودية أن المسيح سيأتي على ظهر حمار أبيض في نهاية الزمان ليقيم "الهيكل الثالث"، وهناك المسيح الذي صُوِّر في الفن المسيحي داخلًا من بوابة القدس على ظهر حمار. والفكرة ذات مرجعيات إسلامية أيضًا، تحيل إلى المهدي والمسيح المنتَظَرَيْن عند المسلمين واللذيْن سيأتيان في آخر الزمان حيث سيحقّقان العدل والسلام على الأرض.
    "يقوم الفنان بعولمة فكرة المُخلِّص المنتَظر، ليشير بها إلى حالة انتظار لخلاص العالم وإحلال العدل والسلام فيه؛ فالأسهم في تلك اللوحات تعبير عن تحرّك المُخلِّص في اتجاهات عدّة، هي التعقيدات السياسة والفكرية التي تحيط بإنسان هذا العصر"
    إن من يمتطي الحمار كما يظهر في تلك المتوالية هو فلاح عربي، ما يعني تعريبًا لفكرة المنتَظر أيًا كانت مرجعيتها الدينية، يهودية أم مسيحية أم إسلامية؛ يتعزّز هذا التعريب بالزخارف العربية والإسلامية الموجودة في بعض الأعمال من تلك المتوالية، بالإضافة إلى فسيفساء من الفن البيزنطي، يمثلها طائران يشربان من إناء، والذي يعتبره الفنان فنًا شرقيًا؛ فالفن البيزنطي هو أحد فنون منطقة الشرق الأوسط التاريخية. كما أضاف الفنان إلى العمل قطعًا من النسيج التقليدي. يقوم أسد عزّي بعولمة فكرة المُخلِّص المنتَظر، ليشير بها إلى حالة انتظار لخلاص العالم كله وإحلال العدل والسلام فيه؛ فالأسهم في تلك اللوحات تعبير عن تحرّك المُخلِّص في اتجاهات عدّة، هي التعقيدات السياسة والفكرية التي تحيط بإنسان هذا العصر. تنتهي الدراما الإنسانية في اللوحة بكلمة End المكتوبة على جدار الإناء الذي يشرب منه الطائران، في تعبير عن النهاية السعيدة للعالم والمنتظِرة لمجيء المُخلّص.

    يتخفّى بين سطور تلك الأعمال حسٌّ من السخرية السوداء، وهي ليست سخرية من فكرة المخلّص بل تعبير عن شعور عميق بالمرارة من الوضع الفلسطيني والإنساني العام، والذي يبدو في انتظاره المستمر للخلاص عالقًا بين مأساة يتخلّلها الكثير من الأحداث الدموية، وملهاةٍ تقترب من العبثية بحروبها وصراعاتها التي لا تنتهي.
    تشكّل مدينة يافا أحد مواضيع البحث التشكيلي والهوياتي

    يافا القديمة "الحديثة"

    يقيم أسد عزّي في مدينة يافا التي تشكل أيضًا أحد مواضيع بحثه التشكيلي والهوياتي، وهي المدينة التي لا زالت تصرّ على بعض الحضور القديم أبنيةً وذاكرةً وأسلوبَ حياة، يشهدُ وجودها على مركزيتها الثقافية قبل النكبة في فلسطين، وعلى تهميشها الحاضر المتعمّد والمتاخم لتل أبيب ـ كمدينة مركزية في "الدولة الاستعمارية الحديثة". فمن خلال الرموز والتكوينات التي تتضمّنها لوحاته، خرائط بناء البيوت القديمة والصور والوثائق، يستحضر الفنان من الذاكرة المكان والشخوص والحياة التي كانت في المدنية الفلسطينية، ليقدم تصويرًا للمدينة موزعةً بين حالتين: يافا القديمة، وتلك الحديثة المهدّدة هويتها بالأسرلة.

    تظهر يافا في أعمال الفنان ببيوتها القديمة وبمئذنتها العالية، في حين يشير الفلاح، الآتي على ظهر حمار، إلى المخلّص المُنتظَر، وإلى يافا التي تنتظر خلاصها واستعادة هويتها. تظهر كلمات بالعبرية في الخرائط التي توجد على الرسم المعماري والتراثي للمدينة، في دلالة على السيطرة وإخضاع المدينة وهويتها للحكم الإسرائيلي. الفلسطينيون في أراضي 48 واجهوا ليس التهجير من قراهم فحسب، بل أيضًا ما زالوا يجابهون محاولات تهجيرهم من هويتهم الفلسطينية، فهم الشاهدون على محاولات أسرلة المكان والإنسان الفلسطينييْن. يشكّل المكان جزءًا من الذات في أعمال عزي، وهي ذات تعالج تشكيليًا علاقتها مع المكان الجديد الخاضع، لكنها تنطلق من ذاكرتها التي تحفظ تضاريس المكان القديم الذي ما زال حاضرًا بهوية مغايرة ومقاوِمة لما هو مفروض صهيونيًا.
    "الفلسطينيون في أراضي 48 واجهوا ليس التهجير من قراهم فحسب، بل أيضًا ما زالوا يجابهون محاولات تهجيرهم من هويتهم الفلسطينية، فهم الشاهدون على محاولات أسرلة المكان والإنسان الفلسطينييْن"
    تنتظر يافا خلاصها واكتمال هويتها في عمل آخر للفنان تعلوه بالفرنسية جملة "Venous De Jaffa" ـ أي "فينوس يافا" أو "فينوس من يافا". يظهر في العمل رسم لامرأة تحمل مزهرية وترتدي فستانًا أحمرًا نصفه الأسفل قماش شفاف يُظهر ساقيها، في حين تظهر كلمة "Unfinished" في الأسفل، بينما تحتل صفوف عريضة من الألوان أكثر من نصف العمل كمادة خام تنتظر الرسام ليكمل اللوحة المتقطعة وغير المنتهية. ليافا آلهتها في الحب والجمال؛ امرأة ٌشرقية تظهر كما تظهر النساء في الصور الفوتوغرافية القديمة يحملن المزهريات في استعدادٍ لالتقاط صورة لهن، حين كانت العلاقة الشعبية مع الصورة الفوتوغرافية في مراحلها المبكرة ـ مرحلة الطفولة ـ يشوبها الانبهار والبراءة التي تصل حد السذاجة في التعامل مع تقنية حديثة تلتقط خلال ثانية رسمًا كاملًا بتفاصيله الدقيقة للشخص، الذي يحاول بدوره الظهور بأجمل وضع ممكن تجمّله الزهور والمزهريات.

    هكذا هي يافا تقف منذ عام 1948 لا تكبر ولا تكتمل هويتها؛ طفلةً ترتب ألوانها استعدادًا للرسم ولكن لحظة الرسم لا تأتي لتكتمل اللوحة، وامرأةً من النساء الأوائل يحتفظن بالحب والجمال البدائي. يختزل العمل بسرديته البصرية والنصية إشارات الى المخيلة الاستعمارية الإيروتيكة عن عالم الشرق، والتي تظهر في رسومات الفنانين المستشرقين للنساء من البلدان العربية، وفي صور التقطها لهنّ مصورون أوروبيون خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

    أخيرًا، تمثل مسيرة أسد عزّي التشكيلية، والممتدة منذ سنوات الثمانينيات، تجربة رائدة وذات أسلوب مميز في الحركة التشكيلية الفلسطينية بعامّة، وفي المشهد التشكيلي الفلسطيني في فلسطين المحتلة عام 1948 بخاصّة. ولعل أكثر ما يميز هذه التجربة قدرتها على ربط المسائل السياسية والثقافية، والخاصة والعامة، في مشهديّة بصرية واحدة، تعكس تعقيد الواقع في فلسطين وفي العلاقة بين الشرق والغرب. تتميز هذه التجربة أيضًا بالجرأة في طرح مواضيع حسّاسة ومختلفة، وبالنقد الدائم لمفاهيم تتعلق بالهوية، والصراع، والفن، والتاريخ، والجسد، والرجولة والأنوثة.
يعمل...
X